تناولت مقالة ماتياس سبيكتور المنشورة في مجلة Foreign Policy صعود نفوذ الجنوب العالمي في ظل التحولات الجيوسياسية الأخيرة، إذ استغلت دوله صعود الصين والتنافس بين القوى الكبرى لبناء تحالفات جديدة وتعزيز وجودها في المؤسسات الدولية. غير أن سياسة "أمريكا أولًا" التي تبناها ترامب قد تهدد هذه المكاسب، من خلال فرض تعريفات جمركية، وإضعاف المؤسسات الدولية، والتصعيد ضد الصين، مما قد يؤثر سلبًا على الاقتصادات النامية. ومع ذلك، فإن عودة ترامب قد تمنح هذه الدول فرصة لمناورة القوى الكبرى وتحقيق مكاسب استراتيجية. كما تسلط المقالة الضوء على استمرار دعم الجنوب العالمي للقضية الفلسطينية باعتبارها رمزًا للنفاق الغربي، بالإضافة إلى تأثير سياسات ترامب على التحول الأخضر والاقتصاد العالمي. وعلى الرغم من عدم امتلاك الجنوب العالمي القدرة الكاملة لمواجهة الهيمنة الأمريكية، فإن تزايد وعيه الجيوسياسي واستقلاليته يجعلان من الصعب على واشنطن تجاهله في المستقبل.
حقق الجنوب العالمي مكاسب كبيرة نتيجة للتحولات في ميزان القوى العالمية خلال العقدين الماضيين. فقد منح صعود الاقتصادات الناشئة، وصعود الصين كقوة عظمى، والتوترات بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وتصاعد التنافس بين القوى الكبرى، هذه الدول نفوذًا جديدًا في الشؤون الدولية. واستغلت هذه الدول هذه التحولات عبر بناء تحالفات جديدة، مثل مجموعة بريكس (التي تضم في الأصل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، وتعزيز التحالفات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي، واتباع أجندة أكثر جرأة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. فمن دعم اتفاق باريس بشأن تغير المناخ إلى رفع قضايا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، أظهر الجنوب العالمي—وهو مجموعة واسعة من الدول ذات الخلفيات ما بعد الاستعمارية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط—استعدادًا أكبر لتحدي الهيمنة الغربية وإعادة تعريف قواعد النظام العالمي.
يبدو أن سياسة "أمريكا أولًا" قد تهدد هذه المكاسب. فقد وعد دونالد ترامب خلال حملته الرئاسية باستهداف الدول النامية في المجالات الأكثر حساسية بالنسبة لها، عبر فرض تعريفات جمركية جديدة تخنق صادراتها، وتطبيع عمليات الترحيل الجماعي للمهاجرين، الذين تشكل تحويلاتهم المالية عنصرًا أساسيًا في اقتصادات العديد من دول الجنوب العالمي، بالإضافة إلى الانسحاب من الاتفاقيات البيئية العالمية التي تقدم دعمًا حيويًا للسكان الأكثر تضررًا من أزمة المناخ. كما أن سياساته الاقتصادية المقترحة قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم داخل الولايات المتحدة، مما سيؤدي إلى آثار كارثية غير مباشرة على الدول النامية، مع ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا وزيادة تكلفة الاقتراض على الاقتصادات المثقلة بالديون أصلًا. كما أن التزامه بمواجهة الصين قد يجعل من الصعب على بكين الاستمرار في لعب دور السوق البديلة ومصدر الاستثمار للعديد من دول العالم.
ومع ذلك، حتى لو نفذ ترامب وعوده (وهو قد لا يفعل ذلك)، فإن القصة الأهم بالنسبة للجنوب العالمي ستكون قصة الفرص. فرغم أن ترامب أظهر اهتمامًا ضئيلًا، بل وازدراءً في كثير من الأحيان، للعالم غير الغربي، فإن عودته إلى الحكم قد تساعد الجنوب العالمي، بشكل مفارِق، في تعزيز مصالحه. فعداؤه لبعض المعايير الدولية قد يدفع هذه الدول إلى التعاون بشكل أكثر فاعلية، في حين أن مقاربته البراغماتية القائمة على المعاملات قد تمنحها الفرصة للمناورة بين القوى العظمى لتحقيق مكاسب استراتيجية.
وإذا انتهى الأمر بترامب إلى استيعاب روسيا بهدف إبعادها عن الصين، فسيكون ذلك مؤشرًا على أن الولايات المتحدة باتت مضطرة إلى التعامل مع عالم متعدد الأقطاب—وهو الفهم الجيوسياسي الذي تبناه الجنوب العالمي بالفعل. في الواقع، ترحب العديد من حكومات الجنوب العالمي بابتعاده عن التقليد الأمريكي في السياسة الخارجية الذي يعتمد على "الليبرالية الدولية"، والذي يزعم أنه يسعى إلى جعل العالم "آمنًا للديمقراطية"، ولكنه طبق، منذ تبنيه تحت رئاسة وودرو ويلسون، معايير مزدوجة، واحدة للأوروبيين وأخرى لبقية العالم. على العكس من ذلك، يتبنى ترامب تقليدًا آخر مستمدًا من أمثال الرئيس ويليام تافت، الذي اعتمدت "دبلوماسيته الدولارية" على النفوذ الاقتصادي لمد الهيمنة الأمريكية في الخارج دون ادعاءات أخلاقية. وكلا النهجين هما شكل من أشكال إعادة فرض الهيمنة—محاولات لترسيخ التفوق الأمريكي على المسرح العالمي—ولكن أحدهما يتستر بالقيم الأخلاقية، والآخر لا يفعل ذلك. بعض الدول النامية قد ترى في براغماتية ترامب غير الأخلاقية نسمة هواء جديدة، وفرصة لتعزيز مصالحها الخاصة، بغض النظر عن الأهداف المعلنة لواشنطن.
تأرجح البندول
يعد الجنوب العالمي فئة واسعة تضم مجموعة متنوعة من الدول ذات مستويات مختلفة من الثروة والنفوذ والطموح. فمصالح واحتياجات دولة بحجم اقتصادي مثل البرازيل تختلف تمامًا عن دولة أفقر مثل النيجر. لا تتحرك جميع دول الجنوب العالمي في نفس الاتجاه؛ فإندونيسيا، على سبيل المثال، تقاوم بشكل متزايد الانحياز إلى أي طرف في المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، في حين أن الأرجنتين، تحت قيادة رئيسها المعجب بترامب، خافيير ميلي، أعادت توجيه سياستها الخارجية لتتماشى مع المواقف الأمريكية. في الوقت نفسه، توازن الهند بين تضامنها التقليدي مع الدول ما بعد الاستعمارية ورغبتها في أن تصبح لاعبًا عسكريًا رئيسيًا ضمن المعسكر الأمريكي بشكل غير رسمي، وهو تحول عزز مكانتها العالمية كقوة موازنة للصين.
ورغم هذا التنوع، تمكن الجنوب العالمي عبر العقود من تشكيل تحالفات فعالة لإعادة صياغة القواعد الدولية التي كانت تُصمم منذ زمن طويل لخدمة مصالح القوى العظمى. فقد وحدت دوله صفوفها في بعض الأحيان لجعل المعايير الدولية أكثر عدالة. ففي منتصف القرن العشرين، سعى تحالف الجنوب العالمي، تحت راية حركة عدم الانحياز، إلى تفكيك إرث الاستعمار الغربي، من خلال النضال من أجل السيادة والمساواة العرقية والعدالة الاقتصادية، وما اعتبره تحررًا ثقافيًا من النفوذ الغربي. وبحلول السبعينيات، نظمت دول الجنوب العالمي نفسها ضمن تجمعات مختلفة، مثل مجموعة الـ 77 في الأمم المتحدة، وحققت انتصارات كبيرة: أصبح إنهاء الاستعمار مبدأً راسخًا في القانون الدولي، كما ترسخ مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة كمعيار عالمي. كما استخدمت منظمات مثل منظمة أوبك نفوذها الاقتصادي لتعزيز السيطرة غير الغربية على الموارد الطبيعية. والأهم من ذلك، أن مناصرة دول الجنوب العالمي بدأت تؤثر في صياغة القواعد المتعلقة بانتشار الأسلحة النووية والتجارة والطاقة والبيئة، مما أدرج في القانون الدولي الحاجة إلى تحقيق أشكال من العدالة التوزيعية لتعويض الدول التي عانت من ويلات الاستعمار.
خذ على سبيل المثال النظام العالمي لمنع انتشار الأسلحة النووية: ففي الستينيات، تواطأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لمنع انتشار الأسلحة النووية والمعرفة التقنية المتعلقة بها، بهدف الحد من انتشارها. وقد أثار ذلك استياء العديد من دول الجنوب العالمي التي كانت تسعى إلى الحصول على قدر أكبر من الوصول إلى التكنولوجيا النووية السلمية، وكانت تخشى أن يؤدي اتفاق القوى العظمى إلى ترسيخ الأسلحة النووية، مما يجعل القضاء عليها مستحيلًا في المستقبل. وتكاتفت هذه الدول وخاضت سنوات من المفاوضات الشاقة لتأمين حل وسط مع القوى العظمى. ورغم أن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، الموقعة عام 1968، كانت لا تزال تفضل الدول التي تمتلك أسلحة نووية بالفعل، إلا أنها تضمنت بنودًا تشجع نزع السلاح في الدول القوية وتقدم حوافز للدول الأضعف لتطوير الطاقة النووية السلمية.
لكن لم تكن النجاحات بلا انتكاسات. ففي أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، اعتبرت الولايات المتحدة أن الجنوب العالمي بات كيانًا غير ذي أهمية، وأصرت على أن تتبنى جميع الدول إصلاحات داخلية تتماشى مع النظام الليبرالي العالمي بزعامة أمريكية. فرضت برامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحرير الأسواق المالية وسياسات التقشف، في حين استخدمت الولايات المتحدة تطبيق قوانينها الداخلية بشكل خارج الحدود—خاصة من خلال المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974—للضغط على الدول من أجل تفكيك التعريفات الحمائية والدعم المالي للصناعات الوطنية. ومع ذلك، انطلقت العولمة بطرق غير متوقعة. فقد ولدت ثروات جديدة للعديد من الدول ما بعد الاستعمارية، وعززت صعود الصين كقوة عالمية ناشئة، وأثارت حركات عابرة للحدود مثل الإسلام السياسي. وعلى الرغم من أن العولمة شجعت موجة من الديمقراطية في العالم النامي، إلا أن هذه النتيجة لم تكن دائمًا في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
أعاد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون فتح المجال أمام الجنوب العالمي. فقد عززت خطاباته حول "النظام الليبرالي الدولي" فكرة عالم مترابط يمكن فيه توزيع الازدهار بشكل أكثر عدالة، بما في ذلك على الدول النامية. ومع ذلك، لم يكن كلينتون معصومًا عن انتهاك هذه القواعد، كما ظهر عندما تجاوز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لشن تدخل الناتو في كوسوفو عام 1999. كما فرض قانون هيلمز-بيرتون عام 1996 عقوبات على الشركات الأجنبية التي تتعامل مع كوبا، حتى عندما كانت هذه الأنشطة قانونية في بلدانها ومعترفًا بها من قبل منظمة التجارة العالمية.
لكن تأكيد كلينتون على "نظام قائم على القواعد" سمح لدول الجنوب العالمي باستخدام المؤسسات الدولية لصالحها. فقد وفرّت منظمة التجارة العالمية منصة للدول النامية للتفاوض على صفقات تجارية مواتية، بما في ذلك القدرة على تحدي الاقتصادات الكبرى قانونيًا، مما ساعد على تحقيق قدر أكبر من التوازن في النظام التجاري الدولي. وألقت المؤتمر العالمي للمرأة في بكين عام 1995 الضوء على قضايا النوع الاجتماعي، مما أطلق موجة من التغييرات التقدمية في العالم النامي عبر دعم المبادرات الخاصة بالمساواة بين الجنسين والضغط على الحكومات لتعزيز حقوق المرأة. كما وفرّ بروتوكول كيوتو آلية يمكن من خلالها للدول النامية الحصول على الدعم المالي والتكنولوجي للسياسات البيئية، بينما تم تحميل الدول الصناعية مسؤولية الحد من انبعاثات الكربون. كذلك شهد البنك الدولي إصلاحات أعطت الأولوية لبرامج الحد من الفقر والتنمية المستدامة في الجنوب العالمي. وعلى الرغم من عيوبه، فقد سمح عالم القواعد المؤسسية للدول النامية بمحاسبة القوى الكبرى وانتزاع تنازلات حقيقية عبر الآليات المتعددة الأطراف.
بعد هجمات 11 سبتمبر، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن: "لا توجد قواعد". وقد بشرت هذه العبارة بعصر من الاستخدام غير المقيد للقوة في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، مما أدى إلى مقتل الملايين في الجنوب العالمي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لجأت الولايات المتحدة إلى تعذيب المعتقلين من الدول النامية في مراكز احتجاز سرية، وفي العديد من الدول الغربية، أصبح المسلمون ودينهم محل تدقيق عنصري ممنهج. كما تم التذرع بمبدأ "مسؤولية الحماية" كذريعة للتدخل في دول ذات سيادة، كما حدث في الغزو الذي قادته الناتو لليبيا عام 2011، والذي بدا مدفوعًا أكثر بالمصالح الاستراتيجية منه بحماية السكان. وقد انتهك الرئيس الأمريكي باراك أوباما القانون الدولي عندما حول اليمن إلى ساحة اختبار للحروب بالطائرات المسيرة، مما أدى إلى انهيار الدولة الهشة إلى حالة من الفوضى. وقد أدى هذا التدخل إلى تفاقم عدم الاستقرار وأطلق موجات هجرة جماعية من إفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، خاصة خلال الحرب الأهلية السورية في 2010.
أجبرت الأزمة المالية لعام 2008 البندول على التأرجح في الاتجاه الآخر. فقد وجهت ضربة موجعة للغرب، كاشفة عن مواطن الخلل في النظام الليبرالي الدولي. ولأول مرة منذ عقود، وجدت القوى الغربية نفسها بحاجة إلى الجنوب العالمي. فقد حل مجموعة العشرين (G-20)، الذي يضم اقتصادات ناشئة مثل البرازيل والصين والهند وجنوب إفريقيا، محل مجموعة السبع (G-7) كمنتدى رئيسي للحوكمة الاقتصادية العالمية. ونجحت الدول غير الغربية في كسب نفوذ أكبر في صياغة خطط التعافي العالمية، بما في ذلك التنسيق بشأن الحوافز الاقتصادية وإصلاحات الحوكمة المالية. وأصبحت المؤسسات غير الغربية مثل الاتحاد الإفريقي، ومجموعة بريكس، وأوبك+، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية بقيادة الصين ساحات نشطة للعمل الجماعي في الجنوب العالمي.
أدى وصول ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017 إلى تباطؤ تقدم الجنوب العالمي. فقد أدى تهميشه لمنظمة الصحة العالمية خلال جائحة كوفيد-19، وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وتجاهله لقواعد التجارة عبر فرض تعريفات جمركية أحادية الجانب خارج إطار منظمة التجارة العالمية، إلى تأثيرات كارثية. كانت المؤسسات الدولية توفر للجنوب العالمي بعض الحماية المتواضعة، لكن من دونها، وجدت الدول الأضعف نفسها عرضة لقانون الغاب. فعلى سبيل المثال، أعلن ترامب في عام 2020 عن نية إدارته الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، مما أدى إلى تجميد مؤقت للتمويل الأميركي لبرامج رئيسية في إفريقيا، مما عرقل الجهود لمكافحة شلل الأطفال والملاريا. كما أضعف تجاهله للمؤسسات الدولية قدرة دول الجنوب العالمي على التأثير في الحوكمة العالمية. إضافة إلى ذلك، أدى تصويره للمهاجرين غير البيض من دول الجنوب العالمي كأعداء إلى تعميق الانقسامات وتعزيز كراهية الأجانب والعنصرية، وهي مشاعر امتدت تأثيراتها إلى ما هو أبعد من حدود الولايات المتحدة.
لم يتغير الكثير في ظل إدارة الرئيس جو بايدن. فقد عكس موقفه من التجارة إلى حد كبير نهج ترامب. ورغم أنه في البداية تراجع عن بعض سياسات ترامب المتشددة بشأن الهجرة، إلا أنه عاد إلى تبنيها في النصف الثاني من ولايته. أعاد بايدن الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، لكنه دفع بتشريعات لمكافحة تغير المناخ، مثل قانون خفض التضخم، الذي قد يصبح أداة للحمائية الاقتصادية، مما يجعل من الصعب على دول الجنوب العالمي الانتقال إلى اقتصادات خضراء بدلاً من تسهيل ذلك.
ليس من المستغرب أن العديد من الدول النامية قد توجهت نحو الصين في السنوات الأخيرة. فانتقال الصين من بلد فقير نسبيًا إلى قوة اقتصادية مزدهرة خلال نصف قرن فقط يجعلها قادرة على التواصل مع حكومات وشعوب الجنوب العالمي. كما لعبت دورًا رئيسيًا في تمويل هذه الدول، من خلال تقديم القروض والاستثمارات مقابل الموارد الأولية والطاقة وإمكانية الوصول إلى الموانئ لدعم نموها السريع. وقد استغلت بكين الأخطاء التي ألحقتها واشنطن بنفسها—مثل الغزو الكارثي للعراق عام 2003 وازدراء ترامب للاتفاقيات الدولية والمؤسسات متعددة الأطراف—لتصبح لاعبًا رئيسيًا في المنظمات الدولية، حيث تقدم نفسها على أنها ممثل لمصالح الدول النامية.
ومع ذلك، بدأت تظهر علامات متزايدة على المشكلات. فمع تزايد قوة الصين، باتت تعامل الدول الأخرى ليس كشريك متساوٍ، بل كما تفعل القوى العظمى. ويرى الكثيرون أن سياساتها تحمل طابعًا استعماريًا جديدًا، بدءًا من فرضها لشروط قاسية على اتفاقيات التجارة والاستثمار، وصولًا إلى دبلوماسيتها المتشددة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. ففي هذه المنطقة الأخيرة، انتقلت الصين من كونها شريكًا إلى محاولة فرض الهيمنة، حيث تمارس ضغوطًا متزايدة على دول مثل إندونيسيا والفلبين وفيتنام.
حتى داخل مجموعة بريكس، التي تشهد الآن توسعًا يتجاوز أعضائها المؤسسين، هناك مخاوف متزايدة من أن الصين ترى التجمع كأداة لنشر نفوذها، بدلاً من كونه منصة مشتركة للعمل الجماعي لصالح الدول النامية. لن يكون عودة ترامب إلى البيت الأبيض أمرًا يسهل على الجنوب العالمي تحقيق توازن بين الصين والولايات المتحدة، إذ إن سياساته التجارية الحمائية ستضر بالدول النامية بشكل عام، مما يزيد من تعقيد التحديات التي تواجهها هذه الدول في النظام العالمي المتغير.
ورغم هذا التنوع، تمكن الجنوب العالمي عبر العقود من تشكيل تحالفات فعالة لإعادة صياغة القواعد الدولية التي كانت تُصمم منذ زمن طويل لخدمة مصالح القوى العظمى. فقد وحدت دوله صفوفها في بعض الأحيان لجعل المعايير الدولية أكثر عدالة. ففي منتصف القرن العشرين، سعى تحالف الجنوب العالمي، تحت راية حركة عدم الانحياز، إلى تفكيك إرث الاستعمار الغربي، من خلال النضال من أجل السيادة والمساواة العرقية والعدالة الاقتصادية، وما اعتبره تحررًا ثقافيًا من النفوذ الغربي. وبحلول السبعينيات، نظمت دول الجنوب العالمي نفسها ضمن تجمعات مختلفة، مثل مجموعة الـ 77 في الأمم المتحدة، وحققت انتصارات كبيرة: أصبح إنهاء الاستعمار مبدأً راسخًا في القانون الدولي، كما ترسخ مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة كمعيار عالمي. كما استخدمت منظمات مثل منظمة أوبك نفوذها الاقتصادي لتعزيز السيطرة غير الغربية على الموارد الطبيعية. والأهم من ذلك، أن مناصرة دول الجنوب العالمي بدأت تؤثر في صياغة القواعد المتعلقة بانتشار الأسلحة النووية والتجارة والطاقة والبيئة، مما أدرج في القانون الدولي الحاجة إلى تحقيق أشكال من العدالة التوزيعية لتعويض الدول التي عانت من ويلات الاستعمار.
خذ على سبيل المثال النظام العالمي لمنع انتشار الأسلحة النووية: ففي الستينيات، تواطأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لمنع انتشار الأسلحة النووية والمعرفة التقنية المتعلقة بها، بهدف الحد من انتشارها. وقد أثار ذلك استياء العديد من دول الجنوب العالمي التي كانت تسعى إلى الحصول على قدر أكبر من الوصول إلى التكنولوجيا النووية السلمية، وكانت تخشى أن يؤدي اتفاق القوى العظمى إلى ترسيخ الأسلحة النووية، مما يجعل القضاء عليها مستحيلًا في المستقبل. وتكاتفت هذه الدول وخاضت سنوات من المفاوضات الشاقة لتأمين حل وسط مع القوى العظمى. ورغم أن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، الموقعة عام 1968، كانت لا تزال تفضل الدول التي تمتلك أسلحة نووية بالفعل، إلا أنها تضمنت بنودًا تشجع نزع السلاح في الدول القوية وتقدم حوافز للدول الأضعف لتطوير الطاقة النووية السلمية.
لكن لم تكن النجاحات بلا انتكاسات. ففي أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، اعتبرت الولايات المتحدة أن الجنوب العالمي بات كيانًا غير ذي أهمية، وأصرت على أن تتبنى جميع الدول إصلاحات داخلية تتماشى مع النظام الليبرالي العالمي بزعامة أمريكية. فرضت برامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحرير الأسواق المالية وسياسات التقشف، في حين استخدمت الولايات المتحدة تطبيق قوانينها الداخلية بشكل خارج الحدود—خاصة من خلال المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974—للضغط على الدول من أجل تفكيك التعريفات الحمائية والدعم المالي للصناعات الوطنية. ومع ذلك، انطلقت العولمة بطرق غير متوقعة. فقد ولدت ثروات جديدة للعديد من الدول ما بعد الاستعمارية، وعززت صعود الصين كقوة عالمية ناشئة، وأثارت حركات عابرة للحدود مثل الإسلام السياسي. وعلى الرغم من أن العولمة شجعت موجة من الديمقراطية في العالم النامي، إلا أن هذه النتيجة لم تكن دائمًا في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
أعاد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون فتح المجال أمام الجنوب العالمي. فقد عززت خطاباته حول "النظام الليبرالي الدولي" فكرة عالم مترابط يمكن فيه توزيع الازدهار بشكل أكثر عدالة، بما في ذلك على الدول النامية. ومع ذلك، لم يكن كلينتون معصومًا عن انتهاك هذه القواعد، كما ظهر عندما تجاوز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لشن تدخل الناتو في كوسوفو عام 1999. كما فرض قانون هيلمز-بيرتون عام 1996 عقوبات على الشركات الأجنبية التي تتعامل مع كوبا، حتى عندما كانت هذه الأنشطة قانونية في بلدانها ومعترفًا بها من قبل منظمة التجارة العالمية.
لكن تأكيد كلينتون على "نظام قائم على القواعد" سمح لدول الجنوب العالمي باستخدام المؤسسات الدولية لصالحها. فقد وفرّت منظمة التجارة العالمية منصة للدول النامية للتفاوض على صفقات تجارية مواتية، بما في ذلك القدرة على تحدي الاقتصادات الكبرى قانونيًا، مما ساعد على تحقيق قدر أكبر من التوازن في النظام التجاري الدولي. وألقت المؤتمر العالمي للمرأة في بكين عام 1995 الضوء على قضايا النوع الاجتماعي، مما أطلق موجة من التغييرات التقدمية في العالم النامي عبر دعم المبادرات الخاصة بالمساواة بين الجنسين والضغط على الحكومات لتعزيز حقوق المرأة. كما وفرّ بروتوكول كيوتو آلية يمكن من خلالها للدول النامية الحصول على الدعم المالي والتكنولوجي للسياسات البيئية، بينما تم تحميل الدول الصناعية مسؤولية الحد من انبعاثات الكربون. كذلك شهد البنك الدولي إصلاحات أعطت الأولوية لبرامج الحد من الفقر والتنمية المستدامة في الجنوب العالمي. وعلى الرغم من عيوبه، فقد سمح عالم القواعد المؤسسية للدول النامية بمحاسبة القوى الكبرى وانتزاع تنازلات حقيقية عبر الآليات المتعددة الأطراف.
بعد هجمات 11 سبتمبر، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن: "لا توجد قواعد". وقد بشرت هذه العبارة بعصر من الاستخدام غير المقيد للقوة في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، مما أدى إلى مقتل الملايين في الجنوب العالمي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لجأت الولايات المتحدة إلى تعذيب المعتقلين من الدول النامية في مراكز احتجاز سرية، وفي العديد من الدول الغربية، أصبح المسلمون ودينهم محل تدقيق عنصري ممنهج. كما تم التذرع بمبدأ "مسؤولية الحماية" كذريعة للتدخل في دول ذات سيادة، كما حدث في الغزو الذي قادته الناتو لليبيا عام 2011، والذي بدا مدفوعًا أكثر بالمصالح الاستراتيجية منه بحماية السكان. وقد انتهك الرئيس الأمريكي باراك أوباما القانون الدولي عندما حول اليمن إلى ساحة اختبار للحروب بالطائرات المسيرة، مما أدى إلى انهيار الدولة الهشة إلى حالة من الفوضى. وقد أدى هذا التدخل إلى تفاقم عدم الاستقرار وأطلق موجات هجرة جماعية من إفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، خاصة خلال الحرب الأهلية السورية في 2010.
أجبرت الأزمة المالية لعام 2008 البندول على التأرجح في الاتجاه الآخر. فقد وجهت ضربة موجعة للغرب، كاشفة عن مواطن الخلل في النظام الليبرالي الدولي. ولأول مرة منذ عقود، وجدت القوى الغربية نفسها بحاجة إلى الجنوب العالمي. فقد حل مجموعة العشرين (G-20)، الذي يضم اقتصادات ناشئة مثل البرازيل والصين والهند وجنوب إفريقيا، محل مجموعة السبع (G-7) كمنتدى رئيسي للحوكمة الاقتصادية العالمية. ونجحت الدول غير الغربية في كسب نفوذ أكبر في صياغة خطط التعافي العالمية، بما في ذلك التنسيق بشأن الحوافز الاقتصادية وإصلاحات الحوكمة المالية. وأصبحت المؤسسات غير الغربية مثل الاتحاد الإفريقي، ومجموعة بريكس، وأوبك+، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية بقيادة الصين ساحات نشطة للعمل الجماعي في الجنوب العالمي.
أدى وصول ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017 إلى تباطؤ تقدم الجنوب العالمي. فقد أدى تهميشه لمنظمة الصحة العالمية خلال جائحة كوفيد-19، وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وتجاهله لقواعد التجارة عبر فرض تعريفات جمركية أحادية الجانب خارج إطار منظمة التجارة العالمية، إلى تأثيرات كارثية. كانت المؤسسات الدولية توفر للجنوب العالمي بعض الحماية المتواضعة، لكن من دونها، وجدت الدول الأضعف نفسها عرضة لقانون الغاب. فعلى سبيل المثال، أعلن ترامب في عام 2020 عن نية إدارته الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، مما أدى إلى تجميد مؤقت للتمويل الأميركي لبرامج رئيسية في إفريقيا، مما عرقل الجهود لمكافحة شلل الأطفال والملاريا. كما أضعف تجاهله للمؤسسات الدولية قدرة دول الجنوب العالمي على التأثير في الحوكمة العالمية. إضافة إلى ذلك، أدى تصويره للمهاجرين غير البيض من دول الجنوب العالمي كأعداء إلى تعميق الانقسامات وتعزيز كراهية الأجانب والعنصرية، وهي مشاعر امتدت تأثيراتها إلى ما هو أبعد من حدود الولايات المتحدة.
لم يتغير الكثير في ظل إدارة الرئيس جو بايدن. فقد عكس موقفه من التجارة إلى حد كبير نهج ترامب. ورغم أنه في البداية تراجع عن بعض سياسات ترامب المتشددة بشأن الهجرة، إلا أنه عاد إلى تبنيها في النصف الثاني من ولايته. أعاد بايدن الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، لكنه دفع بتشريعات لمكافحة تغير المناخ، مثل قانون خفض التضخم، الذي قد يصبح أداة للحمائية الاقتصادية، مما يجعل من الصعب على دول الجنوب العالمي الانتقال إلى اقتصادات خضراء بدلاً من تسهيل ذلك.
ليس من المستغرب أن العديد من الدول النامية قد توجهت نحو الصين في السنوات الأخيرة. فانتقال الصين من بلد فقير نسبيًا إلى قوة اقتصادية مزدهرة خلال نصف قرن فقط يجعلها قادرة على التواصل مع حكومات وشعوب الجنوب العالمي. كما لعبت دورًا رئيسيًا في تمويل هذه الدول، من خلال تقديم القروض والاستثمارات مقابل الموارد الأولية والطاقة وإمكانية الوصول إلى الموانئ لدعم نموها السريع. وقد استغلت بكين الأخطاء التي ألحقتها واشنطن بنفسها—مثل الغزو الكارثي للعراق عام 2003 وازدراء ترامب للاتفاقيات الدولية والمؤسسات متعددة الأطراف—لتصبح لاعبًا رئيسيًا في المنظمات الدولية، حيث تقدم نفسها على أنها ممثل لمصالح الدول النامية.
ومع ذلك، بدأت تظهر علامات متزايدة على المشكلات. فمع تزايد قوة الصين، باتت تعامل الدول الأخرى ليس كشريك متساوٍ، بل كما تفعل القوى العظمى. ويرى الكثيرون أن سياساتها تحمل طابعًا استعماريًا جديدًا، بدءًا من فرضها لشروط قاسية على اتفاقيات التجارة والاستثمار، وصولًا إلى دبلوماسيتها المتشددة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. ففي هذه المنطقة الأخيرة، انتقلت الصين من كونها شريكًا إلى محاولة فرض الهيمنة، حيث تمارس ضغوطًا متزايدة على دول مثل إندونيسيا والفلبين وفيتنام.
حتى داخل مجموعة بريكس، التي تشهد الآن توسعًا يتجاوز أعضائها المؤسسين، هناك مخاوف متزايدة من أن الصين ترى التجمع كأداة لنشر نفوذها، بدلاً من كونه منصة مشتركة للعمل الجماعي لصالح الدول النامية. لن يكون عودة ترامب إلى البيت الأبيض أمرًا يسهل على الجنوب العالمي تحقيق توازن بين الصين والولايات المتحدة، إذ إن سياساته التجارية الحمائية ستضر بالدول النامية بشكل عام، مما يزيد من تعقيد التحديات التي تواجهها هذه الدول في النظام العالمي المتغير.
أوهام الهيمنة
غالبًا ما تُفهم تعهدات حملة ترامب بشأن التجارة والمناخ والهجرة والضرائب على أنها انسحاب من العالم. لكن من منظور الجنوب العالمي، تشير هذه الالتزامات إلى العكس تمامًا: إنها تنذر بمحاولة لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية. عندما يهدد ترامب بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية، فإنه في الواقع يؤكد أن الولايات المتحدة يمكنها أن تمضي بمفردها—وأن على الآخرين الامتثال إذا كانوا يعرفون ما هو في مصلحتهم. من خلال زرع الشكوك حول مصداقية الالتزامات الأمريكية، يحفز ترامب الدول على الاصطفاف بشكل أوثق مع الولايات المتحدة أو المخاطرة بالخسارة. ستؤدي التخفيضات الضريبية والرسوم الجمركية التي يقترحها إلى تغذية التضخم، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية. وهذا، بدوره، سيزيد من تكاليف الاقتراض عالميًا، لا سيما بالنسبة للدول التي تعاني من ديون كبيرة، وسيؤدي إلى دفع المستثمرين بعيدًا عن الأسواق الناشئة نحو عوائد أكثر أمانًا في الولايات المتحدة. سيؤدي انخفاض قيمة العملات الناتج إلى جعل الواردات أكثر تكلفة، مما يزيد من التضخم ويقلل الإنتاجية في العديد من الدول النامية. بدلاً من الإشارة إلى العزلة، يتم تفسير تعهدات حملة ترامب في الجنوب العالمي على أنها استراتيجية محسوبة للمراجعة—محاولة لاستعادة الهيمنة الأمريكية من خلال إجبار الدول الأخرى على الامتثال، أو الاصطفاف مع واشنطن، أو أن تصبح عرضة للخطر في نظام عالمي يزداد اضطرابًا.
سيكون أمام قادة الجنوب العالمي خيارات محدودة سوى البحث عن طرق لحماية بلدانهم من عواقب سياسات ترامب. فالجماهير المحلية في العديد من الدول النامية أصبحت أكثر تعبئة سياسية وتمكينًا تكنولوجيًا مما كانت عليه في العصور السابقة، مما يجعل مطالبها أعلى صوتًا وأكثر صعوبة في التجاهل. لقد استفادت الطبقات الفقيرة والمتوسطة في معظم أنحاء الجنوب العالمي بشكل كبير من الفرص الاقتصادية التي جلبتها العولمة والتي يهددها ترامب. وسيتوقعون من قادتهم الدفاع عن هذه المكاسب.
على سبيل المثال، ستواصل العديد من الحكومات استكشاف بدائل للعملة الأمريكية، من خلال تجربة أنظمة الدفع غير الدولارية، والعملات الرقمية، وآليات التجارة بالعملات المحلية لتقليل قدرة البيت الأبيض على فرض العقوبات والقيود الأخرى لإجبار خصومه. وقد يسعون إلى استراتيجيات جديدة وإبداعية للحفاظ على تدفقات التجارة الدولية وتجنب القيود التي ستفرضها الإدارة الأمريكية القادمة. وتوقعًا لمثل هذه التحركات، نشر ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي في نوفمبر تهديدًا بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على دول مجموعة بريكس إذا ما سعت إلى اعتماد عملة بديلة "تحل محل الدولار الأمريكي القوي".
إذا مضى ترامب قدمًا في عمليات الترحيل الجماعي، فسيضر ذلك بمكانة بلاده في معظم أنحاء الجنوب العالمي، لأنه سيؤكد الاعتقاد السائد بأن ترامب يحمل ازدراءً عميقًا للعالم غير الغربي. وسيؤدي هذا إلى تعميق الفجوة بين الشمال والجنوب العالميين في قضايا العرق والاختلافات الثقافية، مما يزيد من توتر العلاقات الدبلوماسية بين الغرب ودول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويؤجج مشاعر الاستياء الأوسع تجاه الدول الغربية التي يُنظر إليها على أنها تكرس التسلسل الهرمي العرقي. كما قد تؤدي هذه الإجراءات إلى تفاقم التوترات داخل الولايات المتحدة نفسها، مما يعمّق الانقسامات بين المجتمعات حول قضايا العرق والهجرة، ويقوض أكثر فأكثر السلطة الأخلاقية للبلاد على الساحة العالمية.
إحدى القضايا التي حظيت بتضامن واسع بين دول الجنوب العالمي هي القضية الفلسطينية. فقد اتخذت جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، خطوات لمساءلة إسرائيل عن أفعالها في غزة أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بارتكاب أعمال إبادة جماعية. وترى العديد من الحكومات في الجنوب العالمي أن هذه القضية تجسد النفاق الغربي الأوسع، مشيرة إلى أن الغرب يتسامح إلى حد كبير مع قتل المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين على يد إسرائيل، بينما يدين بشدة العدوان الروسي وقتل المدنيين الأوكرانيين. وقد عمّق هذا المعيار المزدوج الشكوك في الجنوب العالمي بشأن حيادية النظام الدولي الليبرالي. ستظل محنة الفلسطينيين نقطة اشتعال، ورمزًا للظلم في النظام الدولي القائم، وفي نظر الكثيرين في العالم النامي، بمثابة عمل غير مكتمل من مسيرة إنهاء الاستعمار. وستستمر هذه القضية في إبراز التوترات المستمرة بين الدول الغربية وغير الغربية. حتى مع منح ترامب إسرائيل مزيدًا من الحرية لتحقيق طموحاتها، ستواصل الدول النامية استخدام الجمعية العامة للأمم المتحدة والقانون الدولي للطعن ليس فقط في سياسات إسرائيل، ولكن أيضًا في سياسات الولايات المتحدة.
فيما يخص العمل المناخي، فإن نهج ترامب سيعزز الجماعات ذات المصالح في الجنوب العالمي التي تدافع عن الصناعات عالية الكربون واستخراج الوقود الأحفوري. وسينقل ذلك ميزان القوى الداخلي بعيدًا عن مؤيدي التحول الأخضر. من المتوقع أن تقاوم هذه الجماعات أي إصلاحات ضرورية، مما سيجعل عملية الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر أكثر تكلفة وأبطأ على المستوى العالمي. كما أن تجاهل ترامب النسبي لقضايا المناخ قد يشجع شركات قطع الأشجار، ومربي الماشية، وعمال المناجم حول العالم، مما يؤدي إلى مزيد من إزالة الغابات والتوسع الزراعي غير المستدام، وهو ما سيزيد من تفاقم تغير المناخ، ويهدد الأمن الغذائي العالمي عن طريق تعطيل النظم البيئية وتقليل إنتاج المحاصيل في كل من الجنوب والشمال العالميين.
في الوقت نفسه، قد تؤدي سياسة ترامب الخارجية إلى نتائج غير متوقعة. فبدلًا من إعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية، قد تجد واشنطن أن العالم قد تغير من حولها. فإذا أوفى ترامب بوعد حملته الانتخابية بخفض التوترات مع روسيا، بينما يواصل الضغط على الصين، فقد يُسرّع ذلك من الانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب. فإذا خفّف ترامب العداء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فسيكون بذلك يعترف ضمنيًا بأن روسيا لا يمكن إخضاعها، وبأن مساعي موسكو للهيمنة الإقليمية مشروعة—أي أن لروسيا الحق في الحفاظ على مجال نفوذها. وسيمثل ذلك انتصارًا للعديد من دول الجنوب العالمي التي طالما جادلت بأن النظام الدولي لم يعد يُعرّف من خلال الهيمنة الأمريكية غير المتنازع عليها، بل من خلال نظام أكثر توازنًا، حيث يجب على الولايات المتحدة أن تتخلى تدريجيًا عن سياسات الهيمنة الأحادية لصالح ضبط النفس المدروس.
ستواصل الدول النامية التعامل مع كل من الصين وروسيا كمراكز قوة محورية، مستغلة الفرص لانتزاع تنازلات اقتصادية وأمنية وتكنولوجية عبر منصات مثل منظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة متعددة الأطراف تقودها الصين. وفي ظل نظام عالمي مجزأ يتسم بالمنافسة والبراغماتية التبادلية، قد تزيد سياسات ترامب من نفوذ الجنوب العالمي، مما يمنحه القدرة على المناورة بين القوى العظمى لتحقيق مكاسب استراتيجية.
ومع ذلك، يفتقر الجنوب العالمي إلى الوحدة والموارد الكافية لتحييد الجوانب الأكثر حدة في سياسة ترامب الخارجية بشكل كامل. فلا تزال الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب تتمتع بنفوذ غير مسبوق، حيث تحدد الأجندات وتشكل القواعد الدولية. كما أن واشنطن لا تزال تمتلك القدرة على استخدام الإكراه الاقتصادي، والعزل الدبلوماسي، بل وحتى القوة العسكرية لقمع أي محاولات جادة من الدول النامية لمعارضة تفضيلاتها السياسية.
ومع ذلك، فإن تصاعد استقلالية الجنوب العالمي وتزايد الوعي الجيوسياسي بين شعوبه قد غيّرا بشكل جوهري ديناميكيات القوة العالمية. وسيجد أي رئيس أمريكي، سواء كان ترامب أو خلفاؤه، أن تجاهل التأثير السياسي المتنامي للدول التي كانت تُعتبر على هامش النظام العالمي أصبح أمرًا أكثر صعوبة. فمحاولة ترامب لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية ستواجه عالمًا أقل طواعية بكثير مما يتخيله.
سيكون أمام قادة الجنوب العالمي خيارات محدودة سوى البحث عن طرق لحماية بلدانهم من عواقب سياسات ترامب. فالجماهير المحلية في العديد من الدول النامية أصبحت أكثر تعبئة سياسية وتمكينًا تكنولوجيًا مما كانت عليه في العصور السابقة، مما يجعل مطالبها أعلى صوتًا وأكثر صعوبة في التجاهل. لقد استفادت الطبقات الفقيرة والمتوسطة في معظم أنحاء الجنوب العالمي بشكل كبير من الفرص الاقتصادية التي جلبتها العولمة والتي يهددها ترامب. وسيتوقعون من قادتهم الدفاع عن هذه المكاسب.
على سبيل المثال، ستواصل العديد من الحكومات استكشاف بدائل للعملة الأمريكية، من خلال تجربة أنظمة الدفع غير الدولارية، والعملات الرقمية، وآليات التجارة بالعملات المحلية لتقليل قدرة البيت الأبيض على فرض العقوبات والقيود الأخرى لإجبار خصومه. وقد يسعون إلى استراتيجيات جديدة وإبداعية للحفاظ على تدفقات التجارة الدولية وتجنب القيود التي ستفرضها الإدارة الأمريكية القادمة. وتوقعًا لمثل هذه التحركات، نشر ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي في نوفمبر تهديدًا بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على دول مجموعة بريكس إذا ما سعت إلى اعتماد عملة بديلة "تحل محل الدولار الأمريكي القوي".
إذا مضى ترامب قدمًا في عمليات الترحيل الجماعي، فسيضر ذلك بمكانة بلاده في معظم أنحاء الجنوب العالمي، لأنه سيؤكد الاعتقاد السائد بأن ترامب يحمل ازدراءً عميقًا للعالم غير الغربي. وسيؤدي هذا إلى تعميق الفجوة بين الشمال والجنوب العالميين في قضايا العرق والاختلافات الثقافية، مما يزيد من توتر العلاقات الدبلوماسية بين الغرب ودول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويؤجج مشاعر الاستياء الأوسع تجاه الدول الغربية التي يُنظر إليها على أنها تكرس التسلسل الهرمي العرقي. كما قد تؤدي هذه الإجراءات إلى تفاقم التوترات داخل الولايات المتحدة نفسها، مما يعمّق الانقسامات بين المجتمعات حول قضايا العرق والهجرة، ويقوض أكثر فأكثر السلطة الأخلاقية للبلاد على الساحة العالمية.
إحدى القضايا التي حظيت بتضامن واسع بين دول الجنوب العالمي هي القضية الفلسطينية. فقد اتخذت جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، خطوات لمساءلة إسرائيل عن أفعالها في غزة أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بارتكاب أعمال إبادة جماعية. وترى العديد من الحكومات في الجنوب العالمي أن هذه القضية تجسد النفاق الغربي الأوسع، مشيرة إلى أن الغرب يتسامح إلى حد كبير مع قتل المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين على يد إسرائيل، بينما يدين بشدة العدوان الروسي وقتل المدنيين الأوكرانيين. وقد عمّق هذا المعيار المزدوج الشكوك في الجنوب العالمي بشأن حيادية النظام الدولي الليبرالي. ستظل محنة الفلسطينيين نقطة اشتعال، ورمزًا للظلم في النظام الدولي القائم، وفي نظر الكثيرين في العالم النامي، بمثابة عمل غير مكتمل من مسيرة إنهاء الاستعمار. وستستمر هذه القضية في إبراز التوترات المستمرة بين الدول الغربية وغير الغربية. حتى مع منح ترامب إسرائيل مزيدًا من الحرية لتحقيق طموحاتها، ستواصل الدول النامية استخدام الجمعية العامة للأمم المتحدة والقانون الدولي للطعن ليس فقط في سياسات إسرائيل، ولكن أيضًا في سياسات الولايات المتحدة.
فيما يخص العمل المناخي، فإن نهج ترامب سيعزز الجماعات ذات المصالح في الجنوب العالمي التي تدافع عن الصناعات عالية الكربون واستخراج الوقود الأحفوري. وسينقل ذلك ميزان القوى الداخلي بعيدًا عن مؤيدي التحول الأخضر. من المتوقع أن تقاوم هذه الجماعات أي إصلاحات ضرورية، مما سيجعل عملية الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر أكثر تكلفة وأبطأ على المستوى العالمي. كما أن تجاهل ترامب النسبي لقضايا المناخ قد يشجع شركات قطع الأشجار، ومربي الماشية، وعمال المناجم حول العالم، مما يؤدي إلى مزيد من إزالة الغابات والتوسع الزراعي غير المستدام، وهو ما سيزيد من تفاقم تغير المناخ، ويهدد الأمن الغذائي العالمي عن طريق تعطيل النظم البيئية وتقليل إنتاج المحاصيل في كل من الجنوب والشمال العالميين.
في الوقت نفسه، قد تؤدي سياسة ترامب الخارجية إلى نتائج غير متوقعة. فبدلًا من إعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية، قد تجد واشنطن أن العالم قد تغير من حولها. فإذا أوفى ترامب بوعد حملته الانتخابية بخفض التوترات مع روسيا، بينما يواصل الضغط على الصين، فقد يُسرّع ذلك من الانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب. فإذا خفّف ترامب العداء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فسيكون بذلك يعترف ضمنيًا بأن روسيا لا يمكن إخضاعها، وبأن مساعي موسكو للهيمنة الإقليمية مشروعة—أي أن لروسيا الحق في الحفاظ على مجال نفوذها. وسيمثل ذلك انتصارًا للعديد من دول الجنوب العالمي التي طالما جادلت بأن النظام الدولي لم يعد يُعرّف من خلال الهيمنة الأمريكية غير المتنازع عليها، بل من خلال نظام أكثر توازنًا، حيث يجب على الولايات المتحدة أن تتخلى تدريجيًا عن سياسات الهيمنة الأحادية لصالح ضبط النفس المدروس.
ستواصل الدول النامية التعامل مع كل من الصين وروسيا كمراكز قوة محورية، مستغلة الفرص لانتزاع تنازلات اقتصادية وأمنية وتكنولوجية عبر منصات مثل منظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة متعددة الأطراف تقودها الصين. وفي ظل نظام عالمي مجزأ يتسم بالمنافسة والبراغماتية التبادلية، قد تزيد سياسات ترامب من نفوذ الجنوب العالمي، مما يمنحه القدرة على المناورة بين القوى العظمى لتحقيق مكاسب استراتيجية.
ومع ذلك، يفتقر الجنوب العالمي إلى الوحدة والموارد الكافية لتحييد الجوانب الأكثر حدة في سياسة ترامب الخارجية بشكل كامل. فلا تزال الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب تتمتع بنفوذ غير مسبوق، حيث تحدد الأجندات وتشكل القواعد الدولية. كما أن واشنطن لا تزال تمتلك القدرة على استخدام الإكراه الاقتصادي، والعزل الدبلوماسي، بل وحتى القوة العسكرية لقمع أي محاولات جادة من الدول النامية لمعارضة تفضيلاتها السياسية.
ومع ذلك، فإن تصاعد استقلالية الجنوب العالمي وتزايد الوعي الجيوسياسي بين شعوبه قد غيّرا بشكل جوهري ديناميكيات القوة العالمية. وسيجد أي رئيس أمريكي، سواء كان ترامب أو خلفاؤه، أن تجاهل التأثير السياسي المتنامي للدول التي كانت تُعتبر على هامش النظام العالمي أصبح أمرًا أكثر صعوبة. فمحاولة ترامب لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية ستواجه عالمًا أقل طواعية بكثير مما يتخيله.
التعديل الأخير: