Announcement Title

Your first announcement to every user on the forum.

بلاغة الكناية

Basil Abdallah

عضو جديد
عضو انكور
الكناية من أساليب البيان التي لا يقوى عليها إلا كل بليغ متمرس بفن القول. وما من شك في أن الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع في النفس من التصريح.

وإذا كان للكناية مزية على التصريح فليست تلك المزية في المعنى المكنى عنه، وإنما هي في إثبات ذلك المعنى للذي ثبت له. فمعنى طول القامة وكثرة القرى مثلا لا يتغير بالكناية عنهما بطول النجاد وكثرة رماد القدر، وإنما يتغير بإثبات شاهده ودليله وما هو علم على وجوده، وذلك لا محالة يكون أثبت من إثبات المعنى بنفسه.

فالمبالغة التي تولدها الكناية وتضفي بها على المعنى حسنا وبهاء هي في الإثبات دون المثبت، أو في إعطاء الحقيقة مصحوبة بدليلها، وعرض القضية وفي طيها برهانها.

هذا أبو فراس الحمداني وهو أسير في بلاد الروم يخاطب ابن عمه سيف الدولة بقوله:

__________

(1) ارجع في ذلك إلى المثل السائر ص 247 - 258.



وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع … وفي كل يوم لقية وخطاب

فكيف وفيما بيننا ملك قيصر … وللبحر حولي زخرة وعباب؟

ففي البيت الثاني يريد أبو فراس أن يقول: «فكيف وفيما بيننا بعد شاسع» ولكنه كنى عن هذا المعنى بقوله: «ملك قيصر وللبحر حولي زخرة وعباب» فجمال هذه الكناية ليس في المعنى المكنى عنه وهو «البعد الشاسع الذي يفصل بين الرجلين» وإنما هو في الإتيان بملك قيصر والبحر الزاخر العباب وإثباته للمكنى عنه في صورة برهان محسوس عليه.

والكناية كالاستعارة من حيث قدرتها على تجسيم المعاني وإخراجها صورا محسوسة تزخر بالحياة والحركة وتبهر العيون منظرا.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى تصويرا لحال صاحب الجنة عند ما رأى جنته التي كان يعتز بها قد أهلكها الله عقابا له على شركه: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.

فالكناية في الآية الكريمة هي في قوله تعالى: يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ والصفة التي تلزم من تقليب الكفين هي الندم والحزن، لأن النادم والحزين يعملان ذلك عادة. فتقليب الكفين في مثل هذا الموقف كناية عن الندم والحزن.

فالمعنى الصريح هنا هو «فأصبح نادما حزينا» وهذا أمر معنوي تدخلت فيه الكناية فجسمته وأظهرته للعيان في صورة رجل اعتراه الذهول من هول ما أصاب الجنة التي كان يعتز بها، فوقف يقلب كفيه ندما وحزنا على أمله المنهار أمام عينيه! وهذا سبب من أسباب بلاغة الكناية.

ومن صور الكناية الرائعة تفخيم المعنى في نفوس السامعين، نحو



قوله تعالى: الْقارِعَةُ. مَا الْقارِعَةُ؟ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟ «فالقارعة» كناية عن «القيامة» وقد عدل عن التصريح بلفظ «القيامة» إلى الكناية عنه بلفظ «القارعة» لا لإثبات ذلك المعنى للقيامة، وإنما لإثبات شاهده ودليله وهو أنها تقرع القلوب وتزعجها بأهوالها، وذلك تفخيما لشأن القيامة فى النفوس.

ومن صورها كذلك التعمية والتغطية حرصا على المكنى عنه أو خوفا منه، كالكناية عن أسماء النساء أو أسماء الأعداء، كقول عمر بن أبي ربيعة:

أيا نخلتي وادي بوانة حبذا … إذا نام حراس النخيل جناكما

فطيبكما أربى على النخل بهجة … وزاد على طول الفتاء فتاكما

فقد كنى «بنخلتي وادي بوانة» عن اثنتين من صواحبه، حرصا على سمعتهما، كما كنى «بحراس النخيل» عن ذويهما خوفا منهم.

وكقوله أيضا:

الما بذات الخال فاستطلعا لنا … على العهد باق ودها أم تصرما

وقولا لها: إن النوى أجنبية … بنا وبكم قد خفت أن تتيمما

فقد كنى «بذات الخال» عن اسم إحدى صواحبه حرصا على سمعتها وصونا لاسمها عن الابتذال.

ويظهر أن من الشعراء من كانوا يضيقون ذرعا بالكناية عن أسماء صواحبهم ويودون- لو استطاعوا- التصريح بأسمائهن تلذذا بترديدها، يدلنا على ذلك قول ذي الرمة:

أحب المكان القفر من أجل أنني … به أتغنى باسمها غير معجم!



ولعل أسلوب الكناية من بين أساليب البيان هو الأسلوب الوحيد الذي يستطيع به المرء أن يتجنب التصريح بالألفاظ الخسيسة أو الكلام الحرام. ففي اللغات، وليس في اللغة العربية وحدها، ألفاظ وعبارات تعدّ «غير لائقة» ويرى في التصريح بها جفوة أو غلظة أو قبح أو سوء أدب أو ما هو من ذلك بسبيل.

وعدم اللياقة في النطق أو التصريح بهذه الألفاظ الخسيسة والعبارات المستهجنة التي تدخل في دائرة الكلام الحرام كما يقول علماء الاجتماع قد يكون باعثه الاشمئزاز، الاشمئزاز مما تولده في النفس من مشاعر وانفعالات غير سارة، وقد يكون باعثه الخوف، الخوف من اللوم والنقد والتعنيف، والخوف من أن يدمغ المرء بالخروج على آداب المجتمع الذي يعيش فيه.

لكل ذلك كانت الكناية هي الوسيلة الوحيدة التي تيسر للمرء أن يقول كل شيء، وأن يعبر بالرمز والإيحاء عن كل ما يجول بخاطره حراما كان أو حلالا، حسنا كان أو قبيحا، وهو غير محرج أو ملوم. وتلك مزية للكناية على غيرها من أساليب البيان.

...



وبعد ... فلعل خير ما نختم به هنا توضيحا لبعض ما ذكرناه عن الكناية أن نورد نصا لجأ الشاعر فيه أكثر ما لجأ إلى هذا الأسلوب الرمزي سترا لبعض ما لا يريد أن يصرح به. وهذا النص من قصيدة لأبي فراس الحمداني بعث بها وهو أسير في بلاد الروم إلى ابن عمه الأمير سيف الدولة يسأله المفاداة. قال:

دعوتك للجفن القريح المسهد … لدي، وللنوم القليل المشرد (1)

__________

(1) القريح: الجريح.



وما ذاك بخلا بالحياة، وإنها … لأول مبذول لأول مجتد (1)

وما الأسر مما ضقت ذرعا بحمله … وما الخطب مما أن أقول له: قد (2)

ولكنني أختار موت بني أبي … على صهوات الخيل غير موسد (3)

نضوت على الأيام ثوب جلادتي … ولكنني لم أنض ثوب التجلد (4)

دعوتك والأبواب ترتج بيننا … فكن خير مدعو وأكرم منجد

أناديك لا أني أخاف من الردى … ولا أرتجي تأخير يوم إلى غد

ولكن أنفت الموت في دار غربة … بأيدي النصارى الغلف ميتة أكمد (5)

فلا كان كلب الروم أرأف منكمو … وأرغب في كسب الثناء المخلد

متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى … طويل نجاد السيف رحب المقلد؟

فإن تفقدوني تفقدوا شرف العلا … وأسرع عواد إليها معود

وإن تفقدوني تفقدوا لعلاكمو … فتى غير مردود اللسان ولا اليد

يدافع عن أعراضكم بلسانه … ويضرب عنكم بالحسام المهند

__________

(1) لأول مجتد: لأول سائل أو طالب.

(2) قد هنا: اسم بمعنى حسبي، وتستعمل للمخاطب كذلك فتقول: «قدك» بسكون الدال بمعنى «حسبك».

(3) صهوات: جمع صهوة، وصهوة كل شيء أعلاه، وهي هنا مقعد الفارس من ظهر الفرس.

(4) نضا الثوب ينضوه: خلعه وألقاه.

(5) الغلف: جمع أغلف، يقال قلب أغلف، أي أصم أو عليه غشاء عن سماع الحق وقبوله، وهو قلب الكافر
 

ما هو انكور؟

هو منتدى عربي تطويري يرتكز على محتويات عديدة لاثراء الانترنت العربي، وتقديم الفائدة لرواد الانترنت بكل ما يحتاجوه لمواقعهم ومنتدياتهم واعمالهم المهنية والدراسية. ستجد لدينا كل ما هو حصري وكل ما هو مفيد ويساعدك على ان تصل الى وجهتك، مجانًا.
عودة
أعلى