( يجب أن نقذف بجميع نظريات القرون الوسطى بعيداً، كذلك الجدل والحوار والنظريات، التي تحتاج إلى إقامة البرهان وننساها.
ويجب على الفلسفة كي تجدد نفسها، أن تبدأ مرة ثانية بقلم جديد ولوح نظيف وعقل مغسول مطهر ..
لذلك تكون الخطوة الأولى هي تطهير العقل وتنقيته، وكأننا عدنا أطفالاً صغارا أبرياء من الأفكار والأحكام المسبقة....
ومشكلة المنطق الأولى هي تتبع مصادر هذه الأخطاء وسدها).
هذه الأقوال هي لفيلسوف بريطاني عاش 65 سنة، بين 1561 و 1626 م، ولكن بصماته مازال لها الأثر على الفكر الإنساني حتى اليوم، هو فرانسيس بيكون ويعلق المؤرخ الأمريكي ديورانت على أثره في الفكر، أنه شق طريقاً جديداً في الفلسفة، بعد أرسطو، تعتمد الجانب العملي التجريبي.
وتشبه قصة هذا الفيلسوف البريطاني، حياة ابن خلدون فقد جمع بين الفلسفة والسياسة، وهي خلطة صعبة إلا على من يسرها الله عليه.
وارتقى في المناصب الحكومية، حتى أصبح رئيس وزراء، في عهد جيمس الأول، ولكن السياسة حصان جموح غير قابل للترويض؛ فقد جلبت لنفسه المتاعب والحساد؛ فكادوا له كيدا ورموه في غيابة السجن.
وفي نهاية حياته، ذاق الفقر بعد نعمة الغنى، ولكنه عكف على إنتاج أفضل شيء للبشر، أي الخلاصات الفكرية، في عدة كتب أهمها: (البحث الجديد ـ أورغانون نوفا Organon Nova الذي وصف فيه أوهام العقل.
واختصرها في أربعة: (أوهام القبيلة) و(الكهف) و(السوق) و(المسرح).
فأما أوهام (القبيلة) فهي مشكلة عقل الإنسان، أنه مرآة مقعرة، على نحو ما، بمعنى أنه يرى الأشياء في ضوء الهوى والتقاليد التي نشأ فيها.
أما أوهام (الكهف) فهي شخصية، كما وصفها (أفلاطون)، أن أحدنا يسكن في كهف من التصورات، وأن النور الذي يأتي من الخارج يترك ظلاله على جدران الكهف؛ فلا نرى الحقيقة الا بعمل عقلي مجرد، وهيهات أن نصل إلى الحقيقة.
وتحت ضغط هذه الفكرة وصل الفيلسوف (بيركلي) إلى اعتبار أن العالم وهم؛ لأن ما نراه لا يمثل العالم، بقدر الكاميرا العقلية التي نحملها داخل رؤوسنا.
أما أوهام (السوق) فهي التي تنشأ من عالم المال والأعمال، واجتماع الناس وتأثيرهم بعضهم في بعض، ومن هنا اعتبر القرآن أن أكثر الناس لا يعقلون، لأن الميديا تعلب دورها في إنشاء هذيان الجماهير.
والواقع أن الديمقراطية جيدة، عندما يوجد الوعي، وإلا أصبحت مهزلة؟! ومجالس الشعب في جمهوريات الخوف والبطالة، لا تزيد على مجالس قرود، ورصيد الديمقراطية يبقى وعي الأمة قبل الصناديق.
وأما أوهام (المسرح) فهي التي انتقلت إلينا من الفلاسفة والمفكرين، أي تلك الأفكار التي نتلقاها بدون تمحيص.
ولذلك فإن بيكون اقترح علينا، أن نتحلى بالعقل النقدي أكثر من النقلي، كي نؤسس لمعرفة سليمة.
والقرآن نعى جدا إلى اتباع الآباء (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون).
بقي بيكون نشيطاً إلى أيامه الأخيرة، وعندما كان في طريقه لزيارة أحدهم خطرت له فكرة عن حفظ الدجاج أو اللحم عموما؛ فكم من الوقت يحتفظ الثلج بلحم الدجاج بدون فساد؟؟
وعندما سارع إلى تطبيق التجربة انتابته عرواء ومرض ومات، غالبا من التهاب رئوي حاد، في وقت لم تكن الصادات الحيوية موجودة، ولم يكن يعمر إلا القليلون النادرون.
هكذا مات سبينوزا عن عمر 42 سنة بالتهاب صدر، وجن نيتشه بالتهاب الدماغ الصمغي في عمر الخمسين، وقضى صلاح الدين وهو كهل بالتهاب الطريق الصفراوي، وأما الإمام الشافعي فمات من البواسير، وهي اليوم تحل بعملية بسيطة..
وأوصى بيكون أن يكتب على قبره:
(أترك روحي إلى الله، وأما جسدي فأمره إلى المجهول، وأما اسمي فأبقيه للأجيال القادمة والإنسانية جميعاً).