Announcement Title

Your first announcement to every user on the forum.
في مقالها المنشور في مجلة Foreign Affairs، تحلل سيليست أ. والندر تحوّل التوازن داخل حلف الناتو مع تزايد إنفاق الدول الأوروبية على الدفاع واستعدادها لتحمّل مسؤوليات أمنية أكبر، مما قلّص من هيمنة الولايات المتحدة التقليدية على الحلف. ومع أن هذا الصعود الأوروبي يعكس نجاحًا طالما سعت إليه واشنطن، إلا أنه يفرض تحديات استراتيجية جديدة، أبرزها استقلالية القرار الأوروبي في ملفات مثل الحرب في أوكرانيا والتعامل مع الصين وروسيا. تزامنًا مع تراجع الثقة الأوروبية في استمرارية الالتزامات الأميركية، خاصة في ظل عودة ترامب إلى الحكم، تبرز دعوات أوروبية لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، بل وحتى نقاشات حول امتلاك ردع نووي مستقل. ترى الكاتبة أن الشراكة عبر الأطلسي لا تزال ضرورية للطرفين في عالم متعدد الأقطاب، لكنها لن تستمر إلا إذا قبلت واشنطن بأوروبا كشريك مستقل، وتبنّت مقاربة تقوم على التفاهم والمساومة بدل الهيمنة.
احذر من أوروبا التي تتمناها

Beware the Europe You Wish For​

لعدة عقود، ظلت الولايات المتحدة تطلب من حلفائها في الناتو بأوروبا أن يبذلوا مزيدًا من الجهد من أجل دفاعهم الذاتي. وبحلول قمة الحلف عام 2024 في واشنطن، كان الحلفاء قد استوعبوا الرسالة. إذ كان 23 من أصل 32 عضوًا في الناتو ينفقون 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو الهدف الذي حدده الحلف — ارتفاعًا من ستة أعضاء فقط في عام 2021.

وقد أرجع العديد من المعلقين هذا الارتفاع إلى عامل واحد: دونالد ترامب. ومن الصحيح أن خطاب الرئيس الأميركي، الذي انتقد الإنفاق الدفاعي الأوروبي بشكل عام خلال ولايته الرئاسية الأولى، ويفعل الأمر ذاته في ولايته الثانية، قد ساهم في هذا الارتفاع. لكن الحقيقة أن هذا التوجه كان قد بدأ قبل أن يدخل ترامب عالم السياسة. فمنذ أكثر من عقد، بدأ حلفاء الناتو يركزون على التهديد المتزايد الذي تمثله روسيا على الأمن الأوروبي، مع اعتبار العدوان الصريح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا نذيرًا بذلك. كما راقبوا بحذر تراجع اهتمام واشنطن بمنطقتهم مقابل تركيزها المتزايد على آسيا. وقد دفعت هذه العوامل مجتمعة إلى الزيادة المطردة في الإنفاق الدفاعي وعمليات التوريد والإنتاج، مما ساعد أوروبا على بناء جيوش أكثر كفاءة قبل عودة ترامب إلى الرئاسة عام 2025 — وستستمر هذه الديناميكية بعد مغادرته المنصب. فإعادة انتخاب ترامب لم تفعل سوى التأكيد على استقلال القارة المتنامي: الأوروبيون يرون الآن أن الولايات المتحدة قد تغيرت بشكل جذري، ولم يعودوا واثقين من أن الاستثمار في القيادة الأميركية سيكفل مصالحهم.

إن حقيقة أن أوروبا تنفق الآن المزيد على دفاعها الذاتي تُعد من نواحٍ كثيرة أخبارًا جيدة للأميركيين. فبفضل قوة القارة المتزايدة، يمكن لواشنطن الآن أن تركز أولاً على الصين وثانيًا على روسيا. وهناك سبب وراء مطالبة أجيال من الرؤساء الأميركيين من كلا الحزبين لأوروبا بزيادة إنفاقها الدفاعي.

لكن، قبل أن يهنئ المسؤولون الأميركيون أنفسهم أو يحتفلوا بالنجاح، عليهم أن يدركوا الجوانب السلبية لهذا الإنجاز. فتعاظم القوة الأوروبية يعني أن عهد القيادة الأميركية المريحة قد انتهى. فبما أنها توفر لنفسها الآن المزيد، ستشعر أوروبا بضغط أقل لتقديم التنازلات لمصالح واشنطن. كما أنها أقل احتمالًا لشراء الأسلحة المصنّعة في الولايات المتحدة. وقد ترفض منح واشنطن حق استخدام القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا لتنفيذ عمليات في أفريقيا أو آسيا أو الشرق الأوسط. والقارة تُعرقل بالفعل جهود واشنطن لإنهاء الحرب في أوكرانيا، إذ باتت تقيد المسؤولين الأميركيين بطرق لم تكن تفعلها من قبل.

كل هذا لا يعني أن التحالف عبر الأطلسي محكوم عليه بالزوال، ناهيك عن أنه قد انتهى بالفعل. لا تزال واشنطن وأوروبا تتشاركان في العديد من المصالح، مما سيشجعهما على الاستمرار في العمل معًا. لكن تغيّر ميزان القوى يعني أن على الولايات المتحدة أن تكسب شراكة أوروبا — في الوقت الذي أصبحت فيه هذه الشراكة أكثر أهمية. تواجه الولايات المتحدة تحديات على جبهات متعددة في أنحاء العالم، بطريقة لم تشهدها منذ نهاية الحرب الباردة. وستحتاج إلى أصدقائها الأوروبيين، بقوتهم الجديدة، لمساعدتها في التعامل مع المعتدين في عدة مناطق. وعلى واشنطن، إذًا، أن تتخذ قرارًا. يمكنها أن تبني علاقة عابرة للأطلسي تحترم مصالح أوروبا، أو أن تخسر النظام العالمي لصالح ثلاثي من الأنظمة الاستبدادية: بكين، وموسكو، وطهران.​

ركّاب مجّانيون... ليسوا أحرارًا تمامًا​

منذ تأسيسه عام 1949، اعتمد حلف الناتو اعتمادًا كبيرًا على الولايات المتحدة. وخلال الحرب الباردة في سبعينيات القرن الماضي، كان أعضاء الناتو الأوروبيون ينفقون في المتوسط ما بين 2 إلى 3 بالمئة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع. في المقابل، بلغ متوسط إنفاق الولايات المتحدة 7 بالمئة. ونتيجة لذلك، كانت القوة العسكرية الأكثر قدرة على الدفاع عن أوروبا مكوّنة من القوات الأميركية. ومع بعض الاستثناءات، كانت الجيوش الأوروبية في الناتو تعاني من نقص التمويل. وكان الدفاع والردع الموثوقان ضد أي هجوم سوفييتي يعتمدان على واشنطن.

قد يبدو هذا غريبًا، بالنظر إلى أن أوروبا — وليس أمريكا الشمالية — هي التي كانت ستعاني أولًا من غزو سوفييتي. لكن منع موسكو من السيطرة على أوروبا الغربية، في وقت كانت تسيطر فيه بالفعل على أوروبا الشرقية، كان شرطًا أساسيًا لأمن الولايات المتحدة العالمي وازدهارها. فالهدف النهائي للاتحاد السوفييتي كان هزيمة الولايات المتحدة، والسيطرة على القوة الاقتصادية والصناعية لأوروبا الغربية كانت ستغذي قدرة موسكو على ضرب عدوها الحقيقي: أميركا القائمة على الديمقراطية، والاقتصاد السوقي، والتجارة العالمية. وبما أن واشنطن كانت في منافسة مع القوة الوحيدة التي تقترب من مكافأتها، لم يكن بمقدورها المخاطرة بنشوب حرب عالمية ثالثة على القارة. بكلمات أخرى، كان الأمن الأوروبي والأميركي لا ينفصلان، ويشكّلان منفعة جماعية مشتركة.

وبما أن المنفعة الجماعية تفيد جميع أعضاء المجموعة بغض النظر عمّن يوفّرها، فلا يوجد حافز كبير لمعظم الأعضاء كي يدفعوا نصيبهم. لكن بالنسبة للطرف الأقوى، الذي يملك مصلحة كبيرة في ضمان أمن هذه المنفعة، فإن تحمل الجزء الأكبر من العبء يبدو منطقيًا تمامًا. بعد كوارث حربين عالميتين وكساد عالمي، كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تملك الموارد اللازمة لضمان الدفاع عن أوروبا ضد الاحتلال السوفييتي، فقامت بذلك. ورغم أن التفاوت في الإنفاق الدفاعي ظل مصدر توتر داخل الحلف، فإن القيادة الأميركية كانت تصب في مصلحة واشنطن في نهاية المطاف.

ولم تحصل الولايات المتحدة في المقابل على نظام عالمي مستقر فحسب، بل نالت مجموعة من المكاسب العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية. بعضها كان صريحًا وتفاوضيًا، وبعضها نشأ تلقائيًا من هياكل وعلاقات الحلف، والبعض الآخر جاء نتيجة لحرص حلفاء أفراد على دعم واشنطن بشكل ثنائي. (كل دولة استفادت بطرق فريدة من علاقتها الثنائية مع القوة العظمى.) كل هذه الفوائد عادت بالنفع على الأميركيين.

خذ على سبيل المثال أكثر الفوائد وضوحًا: أكثر من 30 قاعدة عسكرية أقامتها الولايات المتحدة في أنحاء أوروبا. الوضع القانوني لهذه القواعد محدد في اتفاقيات ثنائية تُنظم كيف ومتى وما إذا كان بمقدور الجيش الأميركي أن يستخدم هذه القواعد، وكذلك المجال الجوي والممرات المائية المؤدية إليها. وتُعرف هذه الترتيبات باسم "الوصول، التمركز، والتحليق" (ABO). وغالبًا ما تكون الشروط سخية للغاية، إذ تسمح للولايات المتحدة باستخدام هذه القواعد ليس فقط للدفاع عن أوروبا، بل لدعم مصالحها حول العالم أيضًا.

وقد استفادت واشنطن من هذه القدرات مرارًا. ففي عام 1973، سمحت البرتغال للولايات المتحدة باستخدام قاعدة جوية في جزر الأزور لتزويد إسرائيل بالأسلحة خلال حرب أكتوبر، رغم خطر العقوبات الاقتصادية من الدول العربية. وفي عام 2001، منحت عدة دول أوروبية واشنطن إذنًا باستخدام قواعدها لشن عمليات في أفغانستان، بالإضافة إلى الحق في عبور الطائرات العسكرية الأجواء الأوروبية. وحتى بعض حلفاء الناتو الذين عارضوا حرب الولايات المتحدة على العراق عام 2003 سمحوا مع ذلك لواشنطن باستخدام قواعد أوروبية للغزو — أو على الأقل سمحوا بعبور الطائرات العسكرية الأميركية أراضيهم. أما فرنسا، التي لم تفعل ذلك، فقد تعرضت لانتقادات من بعض الأعضاء بسبب زعزعة وحدة الناتو. وهذه هي جوهر ميزة الهيمنة الأميركية التي تم بناؤها على مدى 75 عامًا من القيادة: غالبًا ما يدعم حلفاء الناتو الأولويات الأميركية، حتى حين لا يتفقون معها، من أجل الحفاظ على قيادة الولايات المتحدة.

ولا تزال فوائد الهيمنة الأميركية في الناتو قائمة حتى اليوم. فقد اعتمد دفاع واشنطن عن إسرائيل في عام 2024 ضد الهجمات الجوية الإيرانية على الطائرات والسفن العسكرية الأميركية المتمركزة في اليونان وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة. كما مكّنت قواعد التمركز والتحليق الأوروبية الولايات المتحدة من تدمير منشآت القيادة والضرب التابعة للمتمردين الحوثيين في اليمن. وتدعم القواعد الأوروبية أيضًا عمليات مكافحة الإرهاب الأميركية في القرن الأفريقي.

بل وتساعد هذه القواعد الولايات المتحدة في حماية نفسها. فعلى سبيل المثال، يتعين على الغواصات الروسية، للوصول إلى المحيط الأطلسي الشمالي، أن تعبر أولًا من قاعدة بحرية وجوية في المحيط المتجمد الشمالي عبر نقطة اختناق تُعرف باسم "فجوة GIUK" (اختصارًا لجرينلاند، آيسلندا، والمملكة المتحدة). وإذا نجحت هذه الغواصات في التسلل دون أن تُرصد، يمكنها التوجه على طول السواحل الأميركية دون أن تُكتشف، لتكون جاهزة لإطلاق أسلحة نووية ضد مئات الأهداف الأميركية دون سابق إنذار. وسيكون من الصعب جدًا التصدي لهجوم كهذا. لكن البنتاغون يستطيع عادة تتبع هذه الغواصات عبر الفجوة، وذلك بفضل الأصول البحرية والجوية الأميركية المتمركزة في أوروبا. وتساعدها في ذلك دوريات من الدنمارك وآيسلندا والنرويج والمملكة المتحدة.​

متجر واحد لكل شيء​

تستفيد الولايات المتحدة من قيادتها لحلف الناتو بطرق تتجاوز مجرد تمركز القواعد العسكرية. فلكي يعمل الحلف بشكل فعّال، يحتاج أعضاؤه إلى أن يكونوا قادرين على التخطيط المشترك، والدوريات، وتنفيذ العمليات العسكرية معًا. وهذا يتطلب استخدامهم لمجموعات متشابهة من الأسلحة. وعلى الرغم من أن دول الناتو حرة في شراء أي أنظمة تتوافق مع معايير التوافق والقدرات التي يحددها الحلف، فإنها، في الواقع، غالبًا ما تشتري أسلحة مصنوعة في الولايات المتحدة.

والميزة من شراء الأسلحة الأميركية بسيطة: فالقوات الأوروبية تكون أكثر كفاءة في العمل إلى جانب القوات الأميركية عندما تستخدم أنظمة أميركية. فمثلًا، تقوم دوريات الناتو من النرويج والولايات المتحدة في فجوة GIUK بالتدرب على الأنظمة ذاتها، خاصة طائرات بوينغ P-8 بوسيدون، مما يتيح لها التنسيق بسلاسة في تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة معقدة. وقد أولت بولندا ودول البلطيق الأولوية لشراء أنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة (HIMARS)، لأنه عندما تضطر وحداتها ووحدات الولايات المتحدة إلى تبادل مهام الدورية لتأمين تغطية مستمرة للخط الأمامي الشرقي للناتو، فإن استخدام المعدات نفسها يجعل العملية أكثر سلاسة. كما أن الحكومة البولندية من المرجح أن تضمن وجود جنود أميركيين يقومون بالدوريات ويتدربون مع الجنود البولنديين يوميًا إذا كانوا جميعًا يستخدمون نفس أنظمة الأسلحة. فالقادة الأميركيون، في النهاية، سيكون لديهم ثقة أكبر بأن جنودهم سيكونون فعّالين وآمنين إذا كان الجنود الذين يقاتلون بجانبهم يستخدمون التكنولوجيا نفسها. ومن خلال تزويد القوات الأوروبية بأسلحة أميركية، يمكن لحلفاء الشرق الأوروبيين تشجيع واشنطن على إبقاء قواتها العسكرية في المنطقة.

وتُشكّل موثوقية القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية وحجم العقود طويلة الأجل التي يبرمها البنتاغون حوافز إضافية لاستخدام الأسلحة الأميركية. صحيح أن نظام المبيعات العسكرية الأجنبية الأميركي معروف بكونه غير فعّال، إذ يستغرق سنوات لإتمام العقود ويشهد زيادات مفاجئة في الأسعار، إلا أن الدول الأوروبية لا تزال تفضّل المعدات العسكرية الأميركية على مثيلاتها المحلية، جزئيًا لأن شركات الدفاع الأميركية، التي اعتادت على خدمة القوات المسلحة الأميركية الهائلة، قادرة عادة على توفير الصيانة وقطع الغيار والتحديثات على مدى عقود. وهذه الموثوقية هي أحد الأسباب التي دفعت الدول الأوروبية إلى توقيع عقود لشراء طائرات F-35 من الجيل الخامس، رغم أسعارها المرتفعة والجداول الزمنية المرهقة.

وتُسهم مشتريات أوروبا في الحفاظ على قاعدة صناعية دفاعية قوية في الولايات المتحدة. فبين عامي 2022 و2024، اشترت الدول الأوروبية أنظمة دفاعية أميركية بقيمة 61 مليار دولار، وهو ما يُشكّل 34 بالمئة من إجمالي مشترياتها من عقود الدفاع، وفقًا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. وطائرات F-35 وحدها تُمثّل مليارات الدولارات لشركات الدفاع الأميركية. وهذه الصفقات تزداد حجمًا ونطاقًا: فمنذ عام 2020، ضاعف حلفاء الناتو الأوروبيون تقريبًا عدد الأسلحة التي يستوردونها، وارتفعت نسبة ما يشترونه من الولايات المتحدة من 54 بالمئة إلى 64 بالمئة. وشركات الدفاع الأميركية لا تقوم فقط بتصدير المزيد لحلفاء أوروبا، بل تستحوذ أيضًا على حصة أكبر من إنفاق القارة الدفاعي. نعم، الولايات المتحدة تنفق على الدفاع أكثر مما تنفقه أوروبا، لكن واشنطن لطالما جنت فوائدها الخاصة من هذا التفوق.​

انتبه للفجوة​

مع تزايد الإنفاق الدفاعي الأوروبي، أصبحت الكفتان تميلان نحو التوازن بين الطرفين. ففي عام 2014، أنفق أعضاء الناتو الأوروبيون في المتوسط 1.5% من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، بما في ذلك المشتريات، مقارنة بـ3.7% للولايات المتحدة. أما في عام 2024، فقد ارتفع إنفاق الأعضاء الأوروبيين إلى متوسط 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أنفقت الولايات المتحدة أقل من 3.4%. بل إن بلدين من الاتحاد الأوروبي — إستونيا وبولندا — أنفقا نسبة أعلى من واشنطن: 3.43% و4.12% على التوالي. ولو كانت حصة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي أكبر بكثير من حصة أوروبا، لكان بمقدورها أن تواصل الإنفاق على الناتو بشكل يتجاوز إنفاق نظرائها عبر الأطلسي، حتى لو باتت أوروبا تخصص نفس النسبة من ناتجها المحلي للدفاع. لكن بحلول عام 2025، شكّلت الولايات المتحدة 14.8% من الناتج العالمي، في حين شكّلت الدول الأوروبية (الاتحاد الأوروبي إلى جانب النرويج والمملكة المتحدة) ما نسبته 17.5%. وقد خصص حلفاء الناتو الأوروبيون الغالبية العظمى من إنفاقهم الدفاعي للقارة ذاتها، بينما تمتلك الولايات المتحدة قوات عسكرية منتشرة حول العالم.

وقد استغرق الوصول إلى هذا التقارب في الإنفاق النسبي سنوات من العمل. إذ بدأ الإنفاق الدفاعي الأوروبي في الارتفاع بعد الغزو الروسي الأول لأوكرانيا عام 2014. ونتيجة للصدمة التي أحدثها الهجوم الروسي، ومع تصاعد الضغط الأميركي، بدأت غالبية دول الناتو في تخصيص نسب أعلى من إنفاقها العام للدفاع، في الوقت الذي بدأ فيه الإنفاق الأميركي يتراجع نسبيًا. كما بدأت أوروبا في زيادة استثماراتها في شراء وصيانة المعدات العسكرية. ففي عام 2024 وحده، زاد أعضاء الناتو من غير الولايات المتحدة إنفاقهم على المعدات بنسبة 37%، في حين ارتفع الإنفاق الأميركي على المعدات بنسبة 15% فقط.

وتبدو أوروبا على استعداد للذهاب أبعد في السنوات القادمة. فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يجري تعديلات على سياسات الشراء والإنفاق العسكري بشكل عام لتعزيز الإنتاج الدفاعي الصناعي. وقد غيّر الاتحاد مؤخرًا من قيوده الصارمة على عجز الميزانية، مما يسمح للدول الأعضاء بتخصيص ما يصل إلى 1.5% إضافية من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع. وإذا استفادت الدول الأعضاء من هذه التعديلات، فقد تصل زيادة الإنفاق الدفاعي إلى أكثر من 700 مليار دولار بحلول عام 2030 مقارنة بالمخصصات الحالية. كما اقترح الاتحاد تخصيص صندوق بقيمة 163.5 مليار دولار كقروض طويلة الأجل منخفضة الفائدة لشراء المعدات العسكرية.

ويبدو أن حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ملتزمة أيضًا بزيادة الإنفاق. فقد أعلنت كل من بلجيكا وإيطاليا وإسبانيا عن نيتها بلوغ هدف الناتو المتمثل في 2% من الناتج المحلي في عام 2025. كما أعلنت دول أوروبية أخرى عن زيادات مماثلة في ميزانياتها الدفاعية. وأكثر ما يلفت الانتباه هو ألمانيا، التي كانت طويلًا متحفظة للغاية تجاه الدفاع والإنفاق بالعجز، فقد عدّلت دستورها للسماح باقتراض الأموال لأغراض عسكرية. وأشارت الحكومة الجديدة بقيادة المستشار فريدريش ميرتس إلى خطط لتوسيع المشتريات الدفاعية حتى عام 2030 على الأقل. وإذا استمرت هذه الاتجاهات، فإن أوروبا لن توازي الإنفاق الدفاعي الإقليمي للولايات المتحدة فحسب، بل قد تتجاوزه.

كما اتخذت القارة خطوات لضمان عدم هدر هذه الأموال الجديدة. ففي الوقت الراهن، تعاني أوروبا من التكرار وسوء التوافق التشغيلي، إلى حد كبير لأن كل دولة مسؤولة عن مشترياتها بشكل منفصل. لكن الاتحاد الأوروبي يعتمد قواعد جديدة لتوحيد التخطيط والشراء، بما في ذلك بند أُقر عام 2023 يسهّل ويشجع الشراء والإنتاج الدفاعي المشترك. وقد أدى هذا التغيير إلى توقيع عقد بقيمة 5.6 مليار دولار بين ألمانيا وهولندا ورومانيا وإسبانيا والسويد لشراء صواريخ باتريوت العام الماضي.

ولا تقتصر مساهمة الدول الأوروبية على الجانب المالي فقط، بل تشمل القيادة أيضًا. فمنذ عام 2017، أنشأ الناتو تسع مجموعات قتالية، واحدة لكل دولة من دول خط المواجهة التسع. وبدلًا من الاعتماد على واشنطن لتحمل العبء، اعتمد الحلف نهج القيادة المتوزعة لهذه المجموعات؛ إذ تتولى الولايات المتحدة القيادة فقط في بولندا. أما في فنلندا، فتقود السويد. وفي إستونيا، المملكة المتحدة. وألمانيا تقود في ليتوانيا، وإسبانيا في سلوفاكيا، وفرنسا في رومانيا، وإيطاليا في بلغاريا. وقد تولّت المجر قيادة مجموعتها الخاصة، بينما تتولى كندا القيادة في لاتفيا.

ولا تزال لواشنطن، بالطبع، دورٌ محوري في الدفاع عن كل هذه الدول. ولا يتوقع أحد أن تتمكن القوات الأوروبية من مضاهاة الحجم والنطاق العالمي للقوات الأميركية. لكنها أصبحت الآن أقرب بكثير إلى الولايات المتحدة من حيث القوة داخل حلف الناتو، حتى بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل خمس سنوات فقط. ومع انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، بات للقارة قوات يمكنها التعامل بشكل أفضل مع التحديات القادمة من الصين وروسيا في القطب الشمالي. ولمواجهة استخدام روسيا للبحر الأسود كنقطة انطلاق لضرب أوكرانيا، يقوم أعضاء الناتو الأوروبيون بتطوير قوات دفاع ساحلية ومركبات ذاتية التشغيل يمكنها تعزيز العمليات الأميركية في البحر المتوسط. كما أن شركات الدفاع الأوروبية تقود جهود تطوير المركبات غير المأهولة، ولم تعد القارة تعتمد على الطائرات الأميركية للمراقبة. لقد بدأت أوروبا، استجابة لروسيا، في التخفيف من العبء الثقيل الذي كانت واشنطن تتحمله بمفردها في الدفاع الجماعي.​

ندم المشتري​

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الجانب الإيجابي من صعود أوروبا سهل الفهم. فبكين تمثل التحدي الأساسي للأمن الأميركي، ولذلك يرغب المسؤولون الأميركيون في إعطائها الأولوية على حساب موسكو. والآن بات ذلك ممكنًا.

لكن الأميركيين قد يجدون أنهم بالغوا في الضغط على أوروبا كي تفعل المزيد. خذ مثلًا ما يتعلق بالتصنيع. فمع انسحاب واشنطن التدريجي من القارة، يبدو أن أوروبا قررت تقليص مشترياتها من الصناعات الدفاعية الأميركية. فالدول التي تستفيد من صندوق القروض الأوروبي الجديد البالغة قيمته 163.5 مليار دولار لشراء الأسلحة، يجب أن تنفق هذه الأموال فقط على منتجات من شركات الدفاع الأوروبية. وقال مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي أن المنتجات الأميركية قد تكون مؤهلة إذا كانت مصنّعة داخل أوروبا. ومع ذلك، فإن العقود ستلزم بتوظيف عمال أوروبيين ودفع ضرائب داخل أوروبا. ويمكن لمثل هذه الترتيبات أن تدعم الإنتاج الأميركي من خلال إنشاء سلاسل توريد أكثر مرونة، لكن ذلك لن يحدث إذا ما أعاقت الرسوم الجمركية والحواجز التجارية شركات الولايات المتحدة في السوق الأوروبية. على سبيل المثال، تبحث الشركات الأميركية عن مصادر عالمية لصواعق الذخيرة والمتفجرات، والتي استطاعت الشركات الأوروبية تأمينها. لكن المفارقة أن هذه الفائدة المحتملة قد تتلاشى إذا تم تصنيف هذه المنتجات كـ"واردات أوروبية" بموجب قواعد جمركية جديدة، حتى لو كانت قد صُنعت في النهاية من قبل شركات أميركية داخل القارة.

كما تسبب استقلال أوروبا المتزايد في خلق صعوبات استراتيجية. فعلى سبيل المثال، تريد الولايات المتحدة إنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، ولذلك فهي تدعو إلى رفع العقوبات عن روسيا في إطار مفاوضات سلام تدريجية. لكن أوروبا لا ترغب في الضغط على كييف لقبول تسوية غير مرغوبة. وفي السابق، ربما كانت أوروبا ستسير مع خطة واشنطن خوفًا من خسارة دعمها. أما هذه المرة، فقد أعلنت القارة أنها لن ترفع العقوبات حتى تكون أوكرانيا مستعدة للتسوية.

وقد حدّ ذلك بشكل كبير من قدرة المسؤولين الأميركيين على تقديم تنازلات لروسيا. فثلثا الأصول الروسية المجمدة — والبالغة 330 مليار دولار — يحتفظ بها الأوروبيون، بعدما اتفق الحلفاء في عام 2022 على تجميدها لمنع موسكو من تمويل حربها في أوكرانيا. وهذا يعني أن البيت الأبيض لا يمكنه استخدام هذه الأصول كوسيلة ضغط دون إذن من أوروبا. كما أن أوروبا تضم نظام "سويفت"، آلية الدفع التي تمنع البنوك الروسية من الوصول إلى النظام المالي العالمي. ويمكن للولايات المتحدة أن تخفف العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، لكن بما أن أوروبا هي من تشتري الغاز الروسي — عبر خطوط "نورد ستريم" المغلقة الآن — فإن تغيير السياسة الأميركية وحده لن يؤثر كثيرًا على تمويل الكرملين. كما أن لأوروبا عقوبات صارمة على الشحن الروسي والوصول إلى التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، ولا تستطيع الولايات المتحدة التأثير في ذلك.

وتعتمد أجزاء أخرى من سياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا على موافقة أوروبا. فواشنطن، على سبيل المثال، تريد من الدول الأوروبية التعهد بإرسال قوات إلى أوكرانيا لتنفيذ اتفاق سلام مستقبلي. لكن الأوروبيين أظهروا القليل من الحماسة لذلك طالما أن واشنطن تستمر في التفاوض على أساس مطالب روسيا. فعلى عكس الولايات المتحدة، فإن غالبية الدول الأوروبية ترفض القبول بأن لروسيا الحق في تحديد ما إذا كان بإمكان أوكرانيا الانضمام إلى الناتو — لا سيما أن بوتين صرّح بأن اتفاق السلام مع كييف يجب أن يعيد النظر في جولات التوسيع السابقة للناتو.

وإذا استمر تآكل الشعور بالهدف المشترك عبر الأطلسي، فقد تنتهي أوروبا إلى تقويض أهداف واشنطن في أماكن أخرى من العالم. فإذا قررت الولايات المتحدة تنفيذ حملة عسكرية كبرى ضد المنشآت النووية الإيرانية، مثلًا، فإنها ستحتاج لاستخدام قواعدها العسكرية في أوروبا. وهذا سيتطلب الحصول على إذن من الدول الأوروبية. وستكون هذه الحكومات مدركة أن منحها هذا الإذن سيؤدي إلى احتجاجات شعبية واسعة في جميع أنحاء القارة. وعلى عكس ما جرى قبيل غزو العراق عام 2003، قد ترفض دول أوروبية كثيرة الطلب الأميركي هذه المرة. حينها ستكون واشنطن مضطرة إما إلى شن الهجوم من قواعد بعيدة داخل الولايات المتحدة — أو من قواعد شركائها في الشرق الأوسط، وهي أكثر عرضة لضربات إيرانية من القواعد الأوروبية.

وطالما أن الناتو لا يزال قويًا، فستظل الولايات المتحدة قادرة على استخدام قواعدها في أوروبا لأغراض الدفاع عن النفس. فحماية أميركا الشمالية منصوص عليها في ميثاق الحلف. لكن الدول الأوروبية قد لا تثق بعد الآن بأن واشنطن ستدافع عنها عند الضرورة. ونتيجة لذلك، بدأ القادة الأوروبيون يناقشون بجدية ما إذا كان على القارة امتلاك رادع نووي خاص بها. وتمتلك كل من فرنسا والمملكة المتحدة أسلحة نووية، لكن لا واحدة منهما تملك عدد الرؤوس الحربية وتنوع وسائل الإطلاق الموجود في الترسانة الأميركية، أو العمق الاستراتيجي نفسه. (فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، تفصلها محيطات واسعة عن منافسيها.) وتزعم واشنطن أنها لا تنوي سحب مظلتها النووية من أوروبا أو تجاهل المادة الخامسة من معاهدة الناتو، التي تنص على أن الهجوم على أي عضو هو هجوم على الجميع. لكن سياسات واشنطن تجاه الحلف تبدو وكأنها تتغير يوميًا، وليس لدى أوروبا ترف الوقت للانتظار لمعرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة ستفي فعلًا بالتزاماتها.​

إعادة ضبط العلاقة مع روسيا​

ثمّة قوة أخرى تُسهم، بطبيعة الحال، في تعميق الانقسام بين واشنطن وأوروبا: دونالد ترامب. في عام 2017، كان بوسع الأوروبيين أن يُعزّوا أنفسهم بأن الناخبين الأميركيين لم يكونوا يدركون تمامًا ما كانوا يفعلونه عندما انتخبوه. لكن في عام 2024، كان الأميركيون قد رأوا ترامب يُرهب حلفاء بلاده، ويتلاعب بفكرة الخروج من الناتو، ويتودد إلى روسيا — ومع ذلك انتخبوه مرة أخرى. وكما قال لي أحد الدبلوماسيين الأوروبيين في يناير: "يبدو أن القارة باتت مضطرة للتعامل مع احتمال أن رئاسة جو بايدن، لا ترامب، هي التي كانت الاستثناء المؤقت."

للأسف، ومنذ تلك المحادثة، تدهورت العلاقات بشكل أكبر. ففي ولايته الأولى، كان لدى ترامب مستشارون وأعضاء في حكومته يدعمون العلاقة عبر الأطلسي، وكانوا يكبحون بعضًا من اندفاعاته الأخطر. أما الآن، فالأشخاص في إدارته يتناغمون بدرجة أكبر مع عدائه المتجذر لأوروبا. ففي فبراير، قال وزير الدفاع بيت هيغسِث للمسؤولين الأوروبيين في بروكسل إن "الولايات المتحدة لن تتسامح بعد الآن مع علاقة غير متوازنة تشجع على الاعتماد." وفي خطاب ألقاه في ميونيخ الشهر نفسه، قال نائب الرئيس جي دي فانس: "حين أنظر إلى أوروبا اليوم، أحيانًا لا يكون واضحًا ما الذي حدث لبعض المنتصرين في الحرب الباردة." أما وزير الخارجية ماركو روبيو فقال للصحفيين إن لدى واشنطن "فرصًا مذهلة" لبناء شراكة مع روسيا.

وقد استمع الأوروبيون جيدًا. ففي استطلاع شمل 18 ألف أوروبي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مباشرة بعد فوز ترامب في نوفمبر، اعتبر أكثر من نصف المشاركين أن الولايات المتحدة مجرد "شريك ضروري" بدلًا من "حليف"، وهو توصيف لم يوافق عليه سوى 22 بالمئة فقط. قبل 18 شهرًا فقط، كان أكثر من نصف الأوروبيين الذين شملهم استطلاع المجلس نفسه يعتبرون الولايات المتحدة حليفًا.

أما المسؤولون الأوروبيون، فأصبحوا يستخدمون الآن مصطلحًا في وصف العلاقة مع الولايات المتحدة، كانوا سابقًا يخصصونه للصين: "تقليل المخاطر" (de-risking). خلال العقد الماضي، أقامت الدول الأوروبية حواجز أمام الاستثمارات الصينية في البنى التحتية الوطنية الحيوية، بناءً على افتراض — دفعت به واشنطن — بأن ذلك ضروري للحد من قدرة بكين على اكتساب نفوذ سياسي واقتصادي. الآن انقلب السيناريو: فالدول الأوروبية تفكر في تعزيز تجارتها مع الصين لتقليل تعرضها للولايات المتحدة. وقد ازداد هذا التوجه بعد أن فرض ترامب رسومًا جمركية ضخمة ومفاجئة على معظم صادرات القارة.

ورغم أن الأميركيين قد يتمكنون من إبطاء ابتعاد أوروبا في انتخابات 2028 عبر انتخاب زعيم أكثر تقليدية، فإن مجرد فوز واحد لا يكفي لإقناع الأوروبيين بأن أميركا جديرة بالثقة مجددًا. وحتى لو أعقب ترامب سلسلة من الرؤساء المؤيدين للعلاقة عبر الأطلسي، فإن العلاقات الأميركية الأوروبية على الأرجح لن تعود كما كانت. فأوروبا تبتعد عن واشنطن ليس فقط بسبب ترامب، بل أيضًا لأن أولوياتها باتت مختلفة عن أولويات الولايات المتحدة، وقدراتها قد تحسنت، ولم يعد الأوروبيون واثقين من أن أميركا حليف لا يتزعزع.

لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة وأوروبا تتجهان نحو الطلاق. فصحيح أن الطرفين يمنحان أوزانًا مختلفة لمصالحهما، إلا أن هذه المصالح لا تزال مشتركة. فالصين لا تزال تمثل تهديدًا لأوروبا، وروسيا لا تزال تمثل تهديدًا للولايات المتحدة. والعالم يتغير — وليس نحو الأفضل — والطرفان بحاجة إلى بعضهما لمواجهة بكين المقلقة، وموسكو الهدّامة، وطهران الخطرة، وبيونغ يانغ الغامضة.

ومع ذلك، فإن إصلاح العلاقة يتطلب من واشنطن إعادة ضبط مقاربتها تجاه أوروبا. ويعني ذلك، أولًا وقبل كل شيء، القبول بأن العالم بات متعدد الأقطاب، وأن أوروبا هي أحد هذه الأقطاب. والمفتاح يكمن في العودة إلى أساسيات الدبلوماسية الدفاعية: استيعاب موازين القوى، والاعتراف بالمصالح، وفتح المجال للأخذ والعطاء من أجل التوصل إلى اتفاقات تحقق منافع متبادلة. فطوال ثمانية عقود من القيادة التي وُلدت من امتنان قارة مدمّرة، اعتاد المسؤولون الأميركيون على التنازلات الأوروبية لمصلحة أولويات واشنطن. الآن، عليهم أن يتقنوا فنون التفاوض والتسوية. وإذا كانت واشنطن تفكر في تقليص وجودها العسكري في أوروبا، فعليها أن تستثمر أكثر في التنافس على عقود الدفاع الأوروبية. كما سيتعين عليها الاستماع إلى الحجج الأوروبية حول ضرورة الموازنة بين الحذر من النفوذ الصيني والحاجة إلى التجارة والاستثمار والتكنولوجيا الصينية — تمامًا كما تأخذ الولايات المتحدة في الحسبان احتياجات شركائها في الشرق الأوسط الذين يطوّرون علاقات قوية مع الصين لأسباب اقتصادية. وستضطر الولايات المتحدة أيضًا إلى تقبل أن حلفاء الناتو الذين يستضيفون قواعد أميركية قد تكون لهم آراء قوية بشأن كيفية منع انتشار الأسلحة النووية الإيرانية. ومن المؤكد أنها ستضطر للاعتراف بأن الاتحاد الأوروبي قوة اقتصادية محورية لنجاح الناتو.

إذا استطاعت الولايات المتحدة الحفاظ على شراكتها مع أوروبا، فستمتلك ميزة لا تتوفر للصين أو روسيا في عالم متعدد الأقطاب. فلا بكين ولا موسكو تمتلكان تحالفًا له هذا الوزن الاقتصادي، والقوة الدبلوماسية، والامتداد العالمي. ولا يمكنهما حشد قوة بحجم الناتو. صحيح أن أوروبا تُسبّب صداعًا للأميركيين، لكنها كانت كذلك دائمًا؛ ولهذا السبب طالما أرادت واشنطن أن تكون القارة قادرة على منحها حرية التركيز على قضايا أخرى.

لكن بعد أن تحقق ما أرادته، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام خيار. إما أن ترفض أوروبا وتواجه عالمًا أكثر خطورة بمفردها ومنهكة، أو أن تصوغ علاقة عبر أطلسية جديدة وأكثر مرونة. وستواجه صعوبات في تحقيق الخيار الثاني، بالنظر إلى كل ما تغيّر. لكن الطرفين يمتلكان ما يقرب من قرن من الخبرة المشتركة. ويمكن لصداقتهما أن تصمد.​
 

ما هو انكور؟

هو منتدى عربي تطويري يرتكز على محتويات عديدة لاثراء الانترنت العربي، وتقديم الفائدة لرواد الانترنت بكل ما يحتاجوه لمواقعهم ومنتدياتهم واعمالهم المهنية والدراسية. ستجد لدينا كل ما هو حصري وكل ما هو مفيد ويساعدك على ان تصل الى وجهتك، مجانًا.
عودة
أعلى