كيف يغفل المؤمنون عن ربهم ؟!!
تعمير أوقات الغفلة بالطاعة في شعبان
· كيف يغفل المؤمنون عن ربهم ؟!!
· شأن المؤمنين القرب من الله.
· فوائد إعمار أوقات الغفلة بالطاعة:
· الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى:
§ القيام في نصف الليل الآخر.
§ القيام حال كون النوم أحب إليك مما سواه.
§ القيام ما بين المغرب والعشاء.
· دفع البلاء النازل على النفس وعلى الأمة.
§ مسئولية المؤمنين في دفع البلاء النازل الآن على إخوانهم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
· تحصيل الأجور المضاعفة.
كيف يغفل المؤمنون عن ربهم ؟!!
نعود إلى قوله صلى الله عليه وسلم :«يغفل عنه النَّاس» معناه: أن
المؤمنين مُطالبون بأن يُعَمِّروا أوقات الغفلة بأعمال الذكر، والقربُ إلى
الله تعالى وألا يكونوا مع الغافلين
لمَّا غفل عنه النَّاس لم يكن للمؤمنين أن يغفلوا عنه؛ لأنَّ المؤمنين متيقظون، حَذِرُون من ناحية..
ومن ناحية أخرى: أنَّ المؤمنين مقبلون على ربهم دومًا ؛ لأنَّهم لا ينقطعون
عنه، وإن انقطعوا عن ربهم، وغفلوا عن ذكرهم ماتوا ..ماتت قلوبهم، وضلت
أفئدتهم وبَعَدُوا عن طريق ربهم.
لذلك يصعب على المؤمنين أشد الصعوبة أن يغفلوا عن ربهم، وأن يتكاسلوا عنه،
أو يبتعدوا عن طريقه، فكأنما خرجوا إلى الموت، لقد خرج أحدهم إذن
عن طريق ربه الذي يحفظه ويرزقه ويقويه، فلابد أن يقْدم عليه وأن يرجع إليه
، وليس له عنه بُدُّ سبحانه وتعالى؛ فهو ربه، وهو حبيبه، وهو الذي
يُرَبَّيه، ويُراعي إيمانَه، وهو الذي يَمُدُّه بأسباب النجاة، وهو الذي
ينتظره في الآخرة؛ ليُسْكِنَه جنَّتَه مع النبيين والصديقين والشهداء، فكيف
يبعد عنه المرءُ؟! أو كيف يغفل عنه؟! أو كيف ينسى ربَّه سبحانه وتعالى؟!
إن خرج عن ذكره وطاعته كان كالسمك إذا خرج من الماء .. خرج إلى الموت. تلك
هي عاقبة الغفلة عن الرب والابتعاد عن طريقه سبحانه وتعالى.
والمؤمنون اليوم مع الأسف لا يُحِسُّون بهذا الموت، لا يُحِسُّون بضعف الحياة
وقد انصرفوا إلى حياتهم وأولادهم وأموالهم وشهواتهم وقدَّموا ذلك كله على
ربهم، فكان ذلك سببَ لهوهم عنه وشقائهم وخسرانهم ويعلمون أنه هو سبحانه
وتعالى الذي يُصْلِحُ أحوالهم، وهو الذي يُدَبِّر معايشهم، وهو يُوَسِّع
أرزاقهم، وهو الذي يكفيهم كلَّ ما أَهَمَّهُم في أمور دينهم ودنياهم، فكيف
يلجئون إلى عدوه؟! كيف يغفلون عنه؟! كيف ينامون عن طاعته سبحانه وتعالى ؟!
كيف يتكاسلون عن طريقه؟! وطريقه هو حياتهم ونجاتهم ... وطريقه هو محبتهم له
وقربهم منه... وطريقه هو عُلُوهم وارتفاعهم ... وطريقه هو كل أملهم في
الدنيا والآخرة.
شأن المؤمنين القرب من الله تعالى والوقوف ببابه:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ
رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى
رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا
صَائِمٌ))([1]).
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ للمؤمنين أنهم لا ينبغي أن
يغفلوا حين يَغفُلُ النَّاس عن الله تعالى، بل لابد أن يكونوا متيقظين
لربهم سبحانه وتعالى، غير غافلين عنه جلَّ وعلا، مقبلين عليه حال إعراض
النَّاس، ذاكرين له حال غفلة النَّاس، مهتدين بهدايته حال ضلال النَّاس.
لهم شأن، والنَّاس لهم شأن آخر.
شأنهم : القُرب من الله تعالى، والوقوف ببابه، والتضرع له. والدعاء،
والذكر، والبكاء، والتذلل، والانكسار إلى ربهم في كل حين، لا يخرجون عن ذلك
طرفة عين. وإذا خرجوا فذلك هو الخذلان المبين. فأشواقهم
لمحبته ... ونعيمهم ولذتهم وشهواتهم في طاعته.
فوائد إعمار أوقات الغفلة بالطاعات :
وعمارة أوقات الغفلة بأعمال الإيمان والطاعة لها فوائدها التي ينبغي أن
يُحَصِّلها المؤمنون اليوم استعدادًا لذلك الشهر الكريم الذي يُعِدُّون
أنفسهم فيه لرحمة الله .
فما هي فوائد تعمير أوقات الغفلة بالطاعة؟
الفائدة الأولى: الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى:
أوَّل هذه الأمور - وإن كنا نريد أن نشير فقط إلى معانٍ مهمة فيها - هو:
أنَّه عندما يغفل بعض النَّاس عن الله تعالى ، ويذكره ويقبل عليه آخرون،
فإن هؤلاء الآخرين – الذاكرين والمقبلين - يكونون هم محل محبته سبحانه
وتعالى.
يعني: إن أوَّل شيء يحصله هؤلاء المعمِّرون لأوقات الغفلة بالذكر، والعمل،
والإقبال على الله تعالى أن ينالوا محبة الله سبحانه وتعالى.
لذلك: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة يحض المؤمنين على
تعمير أوقات الغفلة بالذكر ليحصلوا أعلى درجات الدين والتي هي محبة الله
سبحانه وتعالى.
ومن ذلك: ما ذكره صلى الله عليه وسلم في نصف الليل الآخر : «فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِى تِلْكَ
السَّاعَةِ فَكُنْ» ([2])
يعني: وقت هدوء النَّاس، ونومهم، وشهواتهم إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم
يُوقِظ المؤمنين المتقين، وينبههم على أنهم ينبغي أن يَتَخَلَّوا عن تلك
الشهوات من "النوم والدعة والراحة والأهل" ليقوموا إلى الشهوة العظمى
والراحة القصوى، وهي محبة الله تعالى التي يُؤثِرُونها على الدنيا والآخرة،
والمال، والأهل والولد..
فإن استطعت أن تكون ممن يذكرون الله في هذه الساعة فكنْ، أي في جوف الليل
الآخر، وهو الذي يغفل عنه النَّاسُ اليوم - المؤمنون و غيرُهم - بأن يذكروا
الله تعالى فيه: هو موضع محبة الله تعالى.
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يؤخِّر صلاة العشاء إلى ثلث الليل؛ يقول كما
رَوَى البخاري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم : «مَا يَنْتَظِرُهَا»
يَعْنِي: العشاء «أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُكُمْ ..» ([3]).
وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: هذه الصلاة التي تصلون إنما أنتم الذين
تصلونها في الدنيا كلها حال غفلة كل النَّاس عن الله تعالى، و هذه ميزة
عظيمة للمؤمنين، أن يذكروا الله تعالى عند غفلة النَّاس عنه، وأن يُقْبِلوا
عليه حال إعراض النَّاس عنه سبحانه وتعالى ..
ولك أن تتخيل أيُّها المؤمن كم من رحمة الله تعالى تنزل ، ومحبة لله تعالى تحل بهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ … وَقَوْمٌ
سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ
مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ أَحَدُهُمْ
يَتَمَلَّقُنِي ([4]) وَيَتْلُو آيَاتِي ..»([5])
«حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ» لا يعادله شيء هذا النوم فناموا.
«قام إليَّ أحدهم»: الذي هو في محل محبة الله له سبحانه وتعالى.
«قام إليَّ»: قام إليَّ حال تعبه، وحال مشقته، وحال كون النوم أحب إليه مما
سواه، قام إليه، لا يُحِسُّ بهذا التعب، ولا يشعر بتلك المشقة، ولا
يُهمَّه النَّومُ والراحة التي لا يساويها شيء، بل يحس بأنَّ قيامه إلى
ربه، وتلاوته لآياته، وتَمَلُّقَه ودعائه، والطلب منه هو راحته وسروره،
فأنساه تعبَه ومشقته؛ لأنه أحس في ذلك بنعيمه، أحس في ذلك بطمأنينته،
وإقباله على ربه سبحانه وتعالى، فكانت أعلى وأجلَّ وأعظم من كل هذه
السعادات التي يلقاها في غير ذلك، فكانت سعادته العظمى،
وقُرَّةُ عينيه التي لا تنقضي، ونعيمه الذي لا يفنى أن يقبل على
ربه، وأن يتلوا آياته، وأن يتملقه سبحانه وتعالى، إلى آخر ذلك. ثم ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم الثاني ممن يحبهم الله تعالى فقال:
«وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا وَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ»
يعني: فروا من أمام العدو ، فقابلهم رجل بصدره فقاتلهم حتى قُتِلَ.
فذلك يضحك الله له([6])،فهذا يحبه ربه. كأنه لما فرَّ النَّاس عن الله
تعالى، وفروا عن دين الله تعالى، ونُصْرَتِهِ إذا به هو وحده في هزيمتهم،
وفرارهم، وبُعْدِهِم، وإدبارهم يُقْبِل بصدره؛ يَوَدُّ ما عند الله تعالى
من الشهادة، ومن القُرب، يود ما عند الله تعالى من الأجر في الدفع عن
دينه، والذَّبِّ عن إيمانه، والقيام بِنُصْرَةِ هذا الدين ملقياً بنفسه لا
يضن بها.
والثالث: «رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ
بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ
بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا
الله وَالَّذِي أَعْطَاهُ » . يعني: أعطاه بينه وبينه، أعطاه مما أعطاه
الله تعالى، أعطاه مما رزقه الله تعالى، أنفق في السِّر من هذا الباب الذي
يحبه الله تعالى ([7]). فكان ذلك الشَّخص ممن يحبهم الله تبارك وتعالى.
فرأيت هذا الحديث يُصَوِّر هذه المحبة من الله تعالى لهؤلاء الذين تركوا
رَغْدَ عيشهم، ودَعَتَهُم، وسكونهم، وراحتهم، وزوجاتهم، وغِطائهم ونومهم،
وأنفقوا مالهم ، وضحَّوا بأنفسهم فقاتلوا وقُتِلُوا في سبيل الله، وهكذا..
وحسبك بقوم يحبهم الله، حسبك بهم في علو درجتهم وحُسْن منزلتهم وقل ما شئت فلن تبلغ العبارةُ وصف حالهم.
فلعلك قد أخذت هذا المعنى من تعمير أوقات الغفلة بذكر الله تعالى وطاعته
ليكون رصيدُك في "شعبان": أن تكون أنت المُقْبِلَ حال فرار النَّاس،
والمُتَصَدِّقَ حال بُخْلِهِم وإحجامهم وحرصهم، أن تكون القائمَ حال نومِهم
وغفلتِهم، والذَّاكِرَ لله تعالى والداعي المُتَمَلِق له حال بُعْدِهِم
وحال نومهم.
ذلك كله يكون سَبَبَ محبة الله تعالى لعبده، فإن الله تعالى يحب لهم ذلك.
ومثل آخر: كان المؤمنون في عهدهم الأول يقومون ما بين "المغرب" و"العشاء"
صلاةً لله تعالى([8])؛ لقولهم: إن هذه ساعة يغفل النَّاس فيها عن الله
تعالى، فيقومون فيها لربهم سبحانه وتعالى، ساعة غفلة يغفل النَّاس عنها لا
ينبغي للمؤمنين المتقين أن يغفلوا كما غفل غيرهم، وأن يناموا كما نام
غيرهم، أو أن يَلْهُوا كما لَهِى غيرهم، أو يبتعدوا كما ابتعد غيرهم، أو
يَفِرُّوا كما فرَّ غيرهم.
وعادة الناس اليوم هي الفِرَارُ من الطاعة والعمل الصالح والمَلَل منها،
والضيق بها، يَوَدُّون شيئًا سريعًا، شيئًا خفيفًا لا يكلفهم أنفسهم أو ما
دونها، شيئًا لا يكون له أثره الجميل في قلوب المؤمنين، ولا في أعمالهم
وأقوالهم، كأنَّ أثقلَ شيءٍ عليهم هو إقبالُهم على ربِّهم، ومحبَّتُهم
لربهم، وبذلهم لربِّهم، فضلا عن تضحيتهم لربهم! وإن كان شيءٌ لغير الله
تعالى وَجَدْتَهُم يسارعون ويعطون ويبذلون، ولا يُهِمُّهُم وقت، ولا مال،
ولا جُهْد، وإن كان لله تعالى وجدتَ العِلَلَ والأعذار، والبُعْد عن الله
تعالى!
وكان تعمير النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهذه الأوقات التي هي في
محل الغفلة لهذا السبب الأول وهو: أن يحصِّلوا محبة الله تعالى، ، وأن
يُجازِيَهُم ويكافئهم أحسن الجزاء، وأن يُعَظِّمَ مثوبتهم.
الفائدة الثانية: دفع البلاء النازل على النفس والأُمَّة :
شيء آخر ينبغي النظر فيه وهو: مسئولية المؤمنين اليوم:
فإن تعمير أوقات الغفلة مما يدفع الله تعالى به السوء عن النفس
وعن الأمة، والذي يجب أن يكون في اهتمام المؤمنين اليوم، كيف يدفعون عن
أنفسهم ؟ وكيف يدفعون عن إخوانهم في أقطار الإسلام ما نزل بهم، وما أحاط
بهم، وما حَلَّ عليهم؟ وقد فتح الله تعالى لهم هذا الشهر الكريم ليستشعروا
تلك المسئولية؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يدفع بالمؤمنين القائمين،
الراكعين، الساجدين، الذاكرين، الصائمين، المتصدقين، المتكافلين،
المتعاونين؛ يدفع الله -تبارك وتعالى- بهم عن أنفسهم، وعن غيرهم البلاء
النَّازل، إذا ما نزل البلاء فوجد قومًا يُصَلون، ووجد قومًا يصومون، ووجد
قومًا يتهجدون، ووجد قومًا يذكرون رُفِعَ عنهم البلاء، ودُفِعَ بهم عن
غيرهم، فهم حائط الصد الأول الآن، تُرى الهزيمة تأتي من قِبَلهم؟!
: لولا أن يدفع الله -تبارك وتعالى- بالمؤمنين عن غيرهم لنزل بهم
البلاء، وقد علمتم أنَّ الله -تبارك وتعالى- يحفظ بالرجل الصالح أهله
وولده والنَّاس مِن حوله.
نزلت الملائكة بقرية ليخسفوا بها، فوجدوا فيها رجلًا قائمًا يصلي، فرفعوا
عنهم البلاء. وأصل هذا القَصَص في كلام الله جل وعلا( ويقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «أَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي. فَإِذَا ذَهَبَ
أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»([9])
يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الأمان للأمة، ومَن بَعدَهُم كذلك
كلَّما كان فيهم صالحٌ من الصالحين إذا بالله تعالى يجعله أمنةً لهم،
وحفظًا لهم بما يُقَدِّمُ لله تعالى من العمل الصالح ... بما يَرفع إلى
الله تبارك وتعالى من الدعاء ... بما يُرفع له مِن الذِّكر والقيام ...
بما يرفع له من الصيام ... وبما يُرفع له من النصيحةِ، والأمرِ بالمعروف
والنهي عن المنكر، والعلمِ النافعِ والعمل الصالح، والسعي في مصالح
المسلمين، والقيامِ عليها.. والدعوةِ إلى الله تعالى والجهادِ في سبيله.
كل ذلك يرتفع إلى الله تعالى، فإذا به يدفع البلاء عن المؤمنين.
فها قد فتح الله -تبارك وتعالى- شهر "شعبان" ليتحمل المؤمنون مسئولياتهم،
وليعلموا حجم هذه المسئولية وضخامتها وهم يرون أن ما نزل بغيرهم من البلاء
قد تحققت أسبابه فينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولولا أنه ثمة إيمانٌ
موجود ، أو لوجود بعض أهلِ الإيمان يرَحِمَ الله تعالى بهم البلاد والعباد
لَنَزَلَ بهم ما ساءهم، وَلَنَزَلَ بهم ما نزل بغيرهم.
لا بُدَّ إذن أن يسارع المؤمنون بالتحقق بتلك الأسباب، وأن ينتهزوا هذه الأيام التي لا مرد لها مرة أخرى، ولا رجوع.
فقد فتح الله لك بابًا من أبواب الطاعة فاسلكْه لتتقرب إليه به ، واعلم أنه
تكفل لك سبحانه وتعالى بالعاقبة. طالما فتح لك هذه القربات ستأتي هذه
العواقب كلُّها حميدة،
الفائدة الثالثة :تحصيل الأجور المضاعفة :
«ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ،
وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»([10])
ونشير إلى معنًى آخر من المعاني المهمة وهو:
أن غفلة النَّاس تجعل هذه الطاعات شاقة على النفس؛ لأنه إذا ما كثر
الطائعون لله تعالى فإنَّ النَّاس كُلَّهم يألفون الطاعة في "رمضان". ففي
رمضان كل الناس صائمون، وكلهم متعاونون على هذا الأمر من أوامر الله تعالى،
وكلهم لوجود الطائعين الصائمين القائمين يتأسَّون بهم، ويسيرون ورائهم،
ولا يُحسِّون بمشقة الصيام، ولا بمشقة القيام. أما إذا جاءت أوقات الغفلة،
وتفرَّد المرء بالطاعة كانت شاقة على نفسه وصعبة عليه؛ لأنه لا يجد مَن
يتأسى به.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المتعبدين في أيام المحنة، أو
في أيام الفتنة، أو في أيام عدم وجود الطاعة والعبادة من النَّاس لله
تعالى، قال:
«لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ
عَمَلِكُمْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ
مِنْهُمْ؟! قَال:َ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» ([11]).
فأجر هؤلاء الذين يتفردون بطاعة الله تعالى في هذه الأيام التي تكثر فيها
الغفلة، وتزداد فيها الفتنة أجرهم يزداد على حسب مشقة هذه الأعمال على
نفوسهم، وعلى حسب ثِقَل هذه الطاعات على قلوبهم وأبدانهم، وعلى حسب ما
يتحملون من تلك المشقة، ومن هذه الصعوبة، ويبذلون حتى يحققوا أقصى عبادة
يمكن أن يحققوها . «أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ». يعني: الذي يعمل العمل
الصغير في مثل هذه الأيام -من أيام الغفلة- التي لا يساعده فيها أحد
يُحَصِّل أجر خمسين من أعمال الصحابة..
ليس ذلك معناه أنَّ أحدًا سيعمل كأعمال الصحابة، لا، وإنما العمل الواحد
يوازن ذلك، أما أن يُحَصِّل أحدٌ مجموع عمل الصحابي فلا يحصل أحدٌ بعدَهم
تلك الدرجةَ لصحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
لذلك كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون على الخير أعوانا» .
ولذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ،
قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: وَمَنْ الْغُرَبَاءُ ؟ قَالَ الَّذِينَ
يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس»([12]) .
فإذا كثر الفساد، وَعَمَّ البلاء، هؤلاء هم الغرباء الذين يُحسنون ويصلحون طوبى لهم.
فتفطن المؤمنون إلى أنَّه كلما تعبدوا لربهم في أوقات الغفلة، وازدادت
عبادتهم، وازداد تمسكهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووجدوا في ذلك
مشقةً على نفوسهم، وصعوبةً على أبدانهم، وكذلك وجدوا هذا الكلال الذي يمكن
أن يتحملوه في سبيل قُربهم مِن ربهم، وعبادتهم لله تعالى، فإنَّ أجورهم
تزداد عند الله تعالى، وإن درجتهم ترتفع عند الله تعالى، وإن الله -جل
وعلا- بكرمه وَمَنِّهِ يُجْزِلُ لهم المثوبة سبحانه وتعالى ويَزيد لهم في
الأجر الذي يفرحون به عندما يلقون الله تعالى. هذا المعنى يُخَفِّف على
المرء الطاعاتِ الْمُستَثقَلة هذه الأيام، وهذه القُرُباتِ الشَّاقة على
النفس في مثل تلك الأحوال. وإن كانت الطاعة لا مشقة فيها بل هي نعيم الروح
ولذة النفس وبهجة القلب وقرة العين.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»([13]) .
فإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد فازوا بهجرتهم إلى النبي صلوات
الله وسلامه عليه؛ إيمانًا بالله تعالى وتسليمًا له، وتركًا للأهل والمال
والوطن والديار، فإنَّ الله تعالى قد فتح للمؤمنين كذلك في أيام الفتنة هذا
الباب الذي يشابهون به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة إليه.
فالعبادة في الفتنة كالهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن النَّاس في هذه
العهود قد عادت إلى أهوائها، وعادت إلى اتّباع شهواتها ونزواتها كعادة أهل
الجاهلية، فمن خرج منهم إلى عبادة الله تعالى، والاستقامة على أمره،
والثبات على دعوته سبحانه وتعالى كان حاله كحال من هاجر إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وترك الجاهلية وأهلها.
وهذا يحمل المؤمنين على أن يستمسكوا بالله تعالى وأن يعتصموا بالله تعالى،
وبِسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يَزيدوا من بذلهم. فكلما زاد ذلك
في مثل هذه الأيام كان الأجرُ الحسن هو الذي ينتظرهم عند الله تعالى وهو
أجر الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وكفى بذلك شرفًا وفخرًا أن
يُحَصِّل المرء ذلك .
(1) سبق تخريجه. انظر الحاشية ص (11).
([2]) أخرجه النسائي (572) ، والترمذي (3579) وقال: حديث حسن صحيح غريب من
هذا الوجه ، وابنُ خزيمة في صحيحه(1147) كلهم من حديث عمرو بن عبسة t.
([3]) البخاري (566)، ومسلم (638).
([4]) (المَلَقُ) الوُدّ واللطف الشديد وأَصله التليين ، وقيل المَلَقُ شدة
لطف الودّ، و مَلِقَ مَلَقاً وتمَلَّقَ وتَملَّقَهُ وتمَلّقَ له تمَلُّقاً
وتِمِلاَّقاً أَي تودد إليه وتلطف له. انتهى من اللسان مادة (م ل ق).
قال الطيبي رحمه الله: (الملق) بالتحريك الزيادة في التودد والدعاء
والتضرع. قيل: دل أولُ الحديث على أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم وآخره
على أنه من كلامه تعالى.ووُجٍّه بأن مقام المناجاة يشتمل على أسرار
ومناجاة بين المحب والمحبوب. انتهى بتصرف من مرقاة المفاتيح للملا علي
القاري رحمه الله تعالى.
([5]) أخرجه الترمذي (2568) ، والنسائي (1615) ، وأحمد في المسند (5 / 153)
من حديث أبي ذر t، وابن خزيمة في صحيحه (2456طالمكتب
الإسلامي) وابن حبان في صحيحه (8/137) ، و قال الشيخ شعيب في التحقيق :
حديث صحيح.
([6]) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثةٌ يحبهم الله و يضحك إليهم:
الذي إذا تكشف فئةٌ قاتل وراءها بنفسه لله عزَّ وجلَّ.. » أخرجه الحاكم
وصححه (68) من حديث أبي الدرداء t مرفوعًا.
([7]) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ
تَعَالَى فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ.... وَرَجُلٌ
تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا
تُنْفِقُ يَمِينُهُ.. » أخرجه البخاري(1423)، وعن أبي أمامة t عن رسول صلى
الله عليه وسلم قال: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» أخرجه
الطبراني في الكبير وحسّن إسناده المنذري في الترغيب ح: (1317) . ط.
العلمية.
([8]) عن قتادة عن أنس t: ((كانوا يصلون بين العشاء والمغرب)). أخرجه
الحاكم (3737) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، قال الذهبي في التلخيص
: على شرط البخاري ومسلم.اهـ . وعن حذيفةt((أنه صلَّى مع النبي صلى الله
عليه وسلم المغرب ثم صلَّى حتى صلَّى العشاء )) أخرجه الحاكم (1177) وقال:
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه، والترمذي بنحوه وقال حسن
غريب(3781).
([9]) أخرجه مسلم (2531) من حديث أبي موسى الأشعريt.
([10]) تقدم من حديث أسامة بن زيد t.
([11]) رواه أبو داود (4341) عن أبي ثعلبة الخشني t مرفوعا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ، وصحَّح لغيره المتنَ المذكور الشيخُ الألباني في صحيح
الترغيب( 3172 ).
([12]) رواه الآجري في ((الغرباء )) من رواية عبد الله بن مسعود t، وأخرجه
الإمام أحمد بنحوه في مسنده (1/184) من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله
عنه، قال الشيخ شعيب في التحقيق: إسناده جيد، وأبو يعلى (2/99) ، ورواه
الإمام مسلم في صحيحه (145) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مختصرا مرفوعًا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً،
وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قال الإمام
النووي في شرح مسلم: أَمَّا مَعْنَى ( طُوبَى )
( فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ
فَرَح وَقُرَّة عَيْن . وَقَالَ عِكْرِمَة : نِعْمَ مَا لَهُمْ . وَقَالَ
الضَّحَّاك : غِبْطَة لَهُمْ . وَقَالَ قَتَادَةُ : حُسْنَى لَهُمْ .
وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا مَعْنَاهُ أَصَابُوا خَيْرًا . وَقَالَ
إِبْرَاهِيم : خَيْر لَهُمْ وَكَرَامَة : وَقَالَ اِبْن عَجْلَان : دَوَام
الْخَيْر . وَقِيلَ : الْجَنَّة . وَقِيلَ : شَجَرَة فِي
الْجَنَّة. وَكُلّ هَذِهِ الْأَقْوَال مُحْتَمَلَة فِي الْحَدِيث .
وَاَللَّه أَعْلَم . انتهى. [/b]
تعمير أوقات الغفلة بالطاعة في شعبان
· كيف يغفل المؤمنون عن ربهم ؟!!
· شأن المؤمنين القرب من الله.
· فوائد إعمار أوقات الغفلة بالطاعة:
· الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى:
§ القيام في نصف الليل الآخر.
§ القيام حال كون النوم أحب إليك مما سواه.
§ القيام ما بين المغرب والعشاء.
· دفع البلاء النازل على النفس وعلى الأمة.
§ مسئولية المؤمنين في دفع البلاء النازل الآن على إخوانهم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
· تحصيل الأجور المضاعفة.
كيف يغفل المؤمنون عن ربهم ؟!!
نعود إلى قوله صلى الله عليه وسلم :«يغفل عنه النَّاس» معناه: أن
المؤمنين مُطالبون بأن يُعَمِّروا أوقات الغفلة بأعمال الذكر، والقربُ إلى
الله تعالى وألا يكونوا مع الغافلين
لمَّا غفل عنه النَّاس لم يكن للمؤمنين أن يغفلوا عنه؛ لأنَّ المؤمنين متيقظون، حَذِرُون من ناحية..
ومن ناحية أخرى: أنَّ المؤمنين مقبلون على ربهم دومًا ؛ لأنَّهم لا ينقطعون
عنه، وإن انقطعوا عن ربهم، وغفلوا عن ذكرهم ماتوا ..ماتت قلوبهم، وضلت
أفئدتهم وبَعَدُوا عن طريق ربهم.
لذلك يصعب على المؤمنين أشد الصعوبة أن يغفلوا عن ربهم، وأن يتكاسلوا عنه،
أو يبتعدوا عن طريقه، فكأنما خرجوا إلى الموت، لقد خرج أحدهم إذن
عن طريق ربه الذي يحفظه ويرزقه ويقويه، فلابد أن يقْدم عليه وأن يرجع إليه
، وليس له عنه بُدُّ سبحانه وتعالى؛ فهو ربه، وهو حبيبه، وهو الذي
يُرَبَّيه، ويُراعي إيمانَه، وهو الذي يَمُدُّه بأسباب النجاة، وهو الذي
ينتظره في الآخرة؛ ليُسْكِنَه جنَّتَه مع النبيين والصديقين والشهداء، فكيف
يبعد عنه المرءُ؟! أو كيف يغفل عنه؟! أو كيف ينسى ربَّه سبحانه وتعالى؟!
إن خرج عن ذكره وطاعته كان كالسمك إذا خرج من الماء .. خرج إلى الموت. تلك
هي عاقبة الغفلة عن الرب والابتعاد عن طريقه سبحانه وتعالى.
والمؤمنون اليوم مع الأسف لا يُحِسُّون بهذا الموت، لا يُحِسُّون بضعف الحياة
وقد انصرفوا إلى حياتهم وأولادهم وأموالهم وشهواتهم وقدَّموا ذلك كله على
ربهم، فكان ذلك سببَ لهوهم عنه وشقائهم وخسرانهم ويعلمون أنه هو سبحانه
وتعالى الذي يُصْلِحُ أحوالهم، وهو الذي يُدَبِّر معايشهم، وهو يُوَسِّع
أرزاقهم، وهو الذي يكفيهم كلَّ ما أَهَمَّهُم في أمور دينهم ودنياهم، فكيف
يلجئون إلى عدوه؟! كيف يغفلون عنه؟! كيف ينامون عن طاعته سبحانه وتعالى ؟!
كيف يتكاسلون عن طريقه؟! وطريقه هو حياتهم ونجاتهم ... وطريقه هو محبتهم له
وقربهم منه... وطريقه هو عُلُوهم وارتفاعهم ... وطريقه هو كل أملهم في
الدنيا والآخرة.
شأن المؤمنين القرب من الله تعالى والوقوف ببابه:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ
رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى
رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا
صَائِمٌ))([1]).
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ للمؤمنين أنهم لا ينبغي أن
يغفلوا حين يَغفُلُ النَّاس عن الله تعالى، بل لابد أن يكونوا متيقظين
لربهم سبحانه وتعالى، غير غافلين عنه جلَّ وعلا، مقبلين عليه حال إعراض
النَّاس، ذاكرين له حال غفلة النَّاس، مهتدين بهدايته حال ضلال النَّاس.
لهم شأن، والنَّاس لهم شأن آخر.
شأنهم : القُرب من الله تعالى، والوقوف ببابه، والتضرع له. والدعاء،
والذكر، والبكاء، والتذلل، والانكسار إلى ربهم في كل حين، لا يخرجون عن ذلك
طرفة عين. وإذا خرجوا فذلك هو الخذلان المبين. فأشواقهم
لمحبته ... ونعيمهم ولذتهم وشهواتهم في طاعته.
فوائد إعمار أوقات الغفلة بالطاعات :
وعمارة أوقات الغفلة بأعمال الإيمان والطاعة لها فوائدها التي ينبغي أن
يُحَصِّلها المؤمنون اليوم استعدادًا لذلك الشهر الكريم الذي يُعِدُّون
أنفسهم فيه لرحمة الله .
فما هي فوائد تعمير أوقات الغفلة بالطاعة؟
الفائدة الأولى: الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى:
أوَّل هذه الأمور - وإن كنا نريد أن نشير فقط إلى معانٍ مهمة فيها - هو:
أنَّه عندما يغفل بعض النَّاس عن الله تعالى ، ويذكره ويقبل عليه آخرون،
فإن هؤلاء الآخرين – الذاكرين والمقبلين - يكونون هم محل محبته سبحانه
وتعالى.
يعني: إن أوَّل شيء يحصله هؤلاء المعمِّرون لأوقات الغفلة بالذكر، والعمل،
والإقبال على الله تعالى أن ينالوا محبة الله سبحانه وتعالى.
لذلك: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة يحض المؤمنين على
تعمير أوقات الغفلة بالذكر ليحصلوا أعلى درجات الدين والتي هي محبة الله
سبحانه وتعالى.
ومن ذلك: ما ذكره صلى الله عليه وسلم في نصف الليل الآخر : «فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِى تِلْكَ
السَّاعَةِ فَكُنْ» ([2])
يعني: وقت هدوء النَّاس، ونومهم، وشهواتهم إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم
يُوقِظ المؤمنين المتقين، وينبههم على أنهم ينبغي أن يَتَخَلَّوا عن تلك
الشهوات من "النوم والدعة والراحة والأهل" ليقوموا إلى الشهوة العظمى
والراحة القصوى، وهي محبة الله تعالى التي يُؤثِرُونها على الدنيا والآخرة،
والمال، والأهل والولد..
فإن استطعت أن تكون ممن يذكرون الله في هذه الساعة فكنْ، أي في جوف الليل
الآخر، وهو الذي يغفل عنه النَّاسُ اليوم - المؤمنون و غيرُهم - بأن يذكروا
الله تعالى فيه: هو موضع محبة الله تعالى.
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يؤخِّر صلاة العشاء إلى ثلث الليل؛ يقول كما
رَوَى البخاري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم : «مَا يَنْتَظِرُهَا»
يَعْنِي: العشاء «أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُكُمْ ..» ([3]).
وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: هذه الصلاة التي تصلون إنما أنتم الذين
تصلونها في الدنيا كلها حال غفلة كل النَّاس عن الله تعالى، و هذه ميزة
عظيمة للمؤمنين، أن يذكروا الله تعالى عند غفلة النَّاس عنه، وأن يُقْبِلوا
عليه حال إعراض النَّاس عنه سبحانه وتعالى ..
ولك أن تتخيل أيُّها المؤمن كم من رحمة الله تعالى تنزل ، ومحبة لله تعالى تحل بهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ … وَقَوْمٌ
سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ
مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ أَحَدُهُمْ
يَتَمَلَّقُنِي ([4]) وَيَتْلُو آيَاتِي ..»([5])
«حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ» لا يعادله شيء هذا النوم فناموا.
«قام إليَّ أحدهم»: الذي هو في محل محبة الله له سبحانه وتعالى.
«قام إليَّ»: قام إليَّ حال تعبه، وحال مشقته، وحال كون النوم أحب إليه مما
سواه، قام إليه، لا يُحِسُّ بهذا التعب، ولا يشعر بتلك المشقة، ولا
يُهمَّه النَّومُ والراحة التي لا يساويها شيء، بل يحس بأنَّ قيامه إلى
ربه، وتلاوته لآياته، وتَمَلُّقَه ودعائه، والطلب منه هو راحته وسروره،
فأنساه تعبَه ومشقته؛ لأنه أحس في ذلك بنعيمه، أحس في ذلك بطمأنينته،
وإقباله على ربه سبحانه وتعالى، فكانت أعلى وأجلَّ وأعظم من كل هذه
السعادات التي يلقاها في غير ذلك، فكانت سعادته العظمى،
وقُرَّةُ عينيه التي لا تنقضي، ونعيمه الذي لا يفنى أن يقبل على
ربه، وأن يتلوا آياته، وأن يتملقه سبحانه وتعالى، إلى آخر ذلك. ثم ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم الثاني ممن يحبهم الله تعالى فقال:
«وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا وَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ»
يعني: فروا من أمام العدو ، فقابلهم رجل بصدره فقاتلهم حتى قُتِلَ.
فذلك يضحك الله له([6])،فهذا يحبه ربه. كأنه لما فرَّ النَّاس عن الله
تعالى، وفروا عن دين الله تعالى، ونُصْرَتِهِ إذا به هو وحده في هزيمتهم،
وفرارهم، وبُعْدِهِم، وإدبارهم يُقْبِل بصدره؛ يَوَدُّ ما عند الله تعالى
من الشهادة، ومن القُرب، يود ما عند الله تعالى من الأجر في الدفع عن
دينه، والذَّبِّ عن إيمانه، والقيام بِنُصْرَةِ هذا الدين ملقياً بنفسه لا
يضن بها.
والثالث: «رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ
بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ
بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا
الله وَالَّذِي أَعْطَاهُ » . يعني: أعطاه بينه وبينه، أعطاه مما أعطاه
الله تعالى، أعطاه مما رزقه الله تعالى، أنفق في السِّر من هذا الباب الذي
يحبه الله تعالى ([7]). فكان ذلك الشَّخص ممن يحبهم الله تبارك وتعالى.
فرأيت هذا الحديث يُصَوِّر هذه المحبة من الله تعالى لهؤلاء الذين تركوا
رَغْدَ عيشهم، ودَعَتَهُم، وسكونهم، وراحتهم، وزوجاتهم، وغِطائهم ونومهم،
وأنفقوا مالهم ، وضحَّوا بأنفسهم فقاتلوا وقُتِلُوا في سبيل الله، وهكذا..
وحسبك بقوم يحبهم الله، حسبك بهم في علو درجتهم وحُسْن منزلتهم وقل ما شئت فلن تبلغ العبارةُ وصف حالهم.
فلعلك قد أخذت هذا المعنى من تعمير أوقات الغفلة بذكر الله تعالى وطاعته
ليكون رصيدُك في "شعبان": أن تكون أنت المُقْبِلَ حال فرار النَّاس،
والمُتَصَدِّقَ حال بُخْلِهِم وإحجامهم وحرصهم، أن تكون القائمَ حال نومِهم
وغفلتِهم، والذَّاكِرَ لله تعالى والداعي المُتَمَلِق له حال بُعْدِهِم
وحال نومهم.
ذلك كله يكون سَبَبَ محبة الله تعالى لعبده، فإن الله تعالى يحب لهم ذلك.
ومثل آخر: كان المؤمنون في عهدهم الأول يقومون ما بين "المغرب" و"العشاء"
صلاةً لله تعالى([8])؛ لقولهم: إن هذه ساعة يغفل النَّاس فيها عن الله
تعالى، فيقومون فيها لربهم سبحانه وتعالى، ساعة غفلة يغفل النَّاس عنها لا
ينبغي للمؤمنين المتقين أن يغفلوا كما غفل غيرهم، وأن يناموا كما نام
غيرهم، أو أن يَلْهُوا كما لَهِى غيرهم، أو يبتعدوا كما ابتعد غيرهم، أو
يَفِرُّوا كما فرَّ غيرهم.
وعادة الناس اليوم هي الفِرَارُ من الطاعة والعمل الصالح والمَلَل منها،
والضيق بها، يَوَدُّون شيئًا سريعًا، شيئًا خفيفًا لا يكلفهم أنفسهم أو ما
دونها، شيئًا لا يكون له أثره الجميل في قلوب المؤمنين، ولا في أعمالهم
وأقوالهم، كأنَّ أثقلَ شيءٍ عليهم هو إقبالُهم على ربِّهم، ومحبَّتُهم
لربهم، وبذلهم لربِّهم، فضلا عن تضحيتهم لربهم! وإن كان شيءٌ لغير الله
تعالى وَجَدْتَهُم يسارعون ويعطون ويبذلون، ولا يُهِمُّهُم وقت، ولا مال،
ولا جُهْد، وإن كان لله تعالى وجدتَ العِلَلَ والأعذار، والبُعْد عن الله
تعالى!
وكان تعمير النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهذه الأوقات التي هي في
محل الغفلة لهذا السبب الأول وهو: أن يحصِّلوا محبة الله تعالى، ، وأن
يُجازِيَهُم ويكافئهم أحسن الجزاء، وأن يُعَظِّمَ مثوبتهم.
الفائدة الثانية: دفع البلاء النازل على النفس والأُمَّة :
شيء آخر ينبغي النظر فيه وهو: مسئولية المؤمنين اليوم:
فإن تعمير أوقات الغفلة مما يدفع الله تعالى به السوء عن النفس
وعن الأمة، والذي يجب أن يكون في اهتمام المؤمنين اليوم، كيف يدفعون عن
أنفسهم ؟ وكيف يدفعون عن إخوانهم في أقطار الإسلام ما نزل بهم، وما أحاط
بهم، وما حَلَّ عليهم؟ وقد فتح الله تعالى لهم هذا الشهر الكريم ليستشعروا
تلك المسئولية؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يدفع بالمؤمنين القائمين،
الراكعين، الساجدين، الذاكرين، الصائمين، المتصدقين، المتكافلين،
المتعاونين؛ يدفع الله -تبارك وتعالى- بهم عن أنفسهم، وعن غيرهم البلاء
النَّازل، إذا ما نزل البلاء فوجد قومًا يُصَلون، ووجد قومًا يصومون، ووجد
قومًا يتهجدون، ووجد قومًا يذكرون رُفِعَ عنهم البلاء، ودُفِعَ بهم عن
غيرهم، فهم حائط الصد الأول الآن، تُرى الهزيمة تأتي من قِبَلهم؟!
: لولا أن يدفع الله -تبارك وتعالى- بالمؤمنين عن غيرهم لنزل بهم
البلاء، وقد علمتم أنَّ الله -تبارك وتعالى- يحفظ بالرجل الصالح أهله
وولده والنَّاس مِن حوله.
نزلت الملائكة بقرية ليخسفوا بها، فوجدوا فيها رجلًا قائمًا يصلي، فرفعوا
عنهم البلاء. وأصل هذا القَصَص في كلام الله جل وعلا( ويقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «أَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي. فَإِذَا ذَهَبَ
أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»([9])
يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الأمان للأمة، ومَن بَعدَهُم كذلك
كلَّما كان فيهم صالحٌ من الصالحين إذا بالله تعالى يجعله أمنةً لهم،
وحفظًا لهم بما يُقَدِّمُ لله تعالى من العمل الصالح ... بما يَرفع إلى
الله تبارك وتعالى من الدعاء ... بما يُرفع له مِن الذِّكر والقيام ...
بما يرفع له من الصيام ... وبما يُرفع له من النصيحةِ، والأمرِ بالمعروف
والنهي عن المنكر، والعلمِ النافعِ والعمل الصالح، والسعي في مصالح
المسلمين، والقيامِ عليها.. والدعوةِ إلى الله تعالى والجهادِ في سبيله.
كل ذلك يرتفع إلى الله تعالى، فإذا به يدفع البلاء عن المؤمنين.
فها قد فتح الله -تبارك وتعالى- شهر "شعبان" ليتحمل المؤمنون مسئولياتهم،
وليعلموا حجم هذه المسئولية وضخامتها وهم يرون أن ما نزل بغيرهم من البلاء
قد تحققت أسبابه فينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولولا أنه ثمة إيمانٌ
موجود ، أو لوجود بعض أهلِ الإيمان يرَحِمَ الله تعالى بهم البلاد والعباد
لَنَزَلَ بهم ما ساءهم، وَلَنَزَلَ بهم ما نزل بغيرهم.
لا بُدَّ إذن أن يسارع المؤمنون بالتحقق بتلك الأسباب، وأن ينتهزوا هذه الأيام التي لا مرد لها مرة أخرى، ولا رجوع.
فقد فتح الله لك بابًا من أبواب الطاعة فاسلكْه لتتقرب إليه به ، واعلم أنه
تكفل لك سبحانه وتعالى بالعاقبة. طالما فتح لك هذه القربات ستأتي هذه
العواقب كلُّها حميدة،
الفائدة الثالثة :تحصيل الأجور المضاعفة :
«ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ،
وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»([10])
ونشير إلى معنًى آخر من المعاني المهمة وهو:
أن غفلة النَّاس تجعل هذه الطاعات شاقة على النفس؛ لأنه إذا ما كثر
الطائعون لله تعالى فإنَّ النَّاس كُلَّهم يألفون الطاعة في "رمضان". ففي
رمضان كل الناس صائمون، وكلهم متعاونون على هذا الأمر من أوامر الله تعالى،
وكلهم لوجود الطائعين الصائمين القائمين يتأسَّون بهم، ويسيرون ورائهم،
ولا يُحسِّون بمشقة الصيام، ولا بمشقة القيام. أما إذا جاءت أوقات الغفلة،
وتفرَّد المرء بالطاعة كانت شاقة على نفسه وصعبة عليه؛ لأنه لا يجد مَن
يتأسى به.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المتعبدين في أيام المحنة، أو
في أيام الفتنة، أو في أيام عدم وجود الطاعة والعبادة من النَّاس لله
تعالى، قال:
«لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ
عَمَلِكُمْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ
مِنْهُمْ؟! قَال:َ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» ([11]).
فأجر هؤلاء الذين يتفردون بطاعة الله تعالى في هذه الأيام التي تكثر فيها
الغفلة، وتزداد فيها الفتنة أجرهم يزداد على حسب مشقة هذه الأعمال على
نفوسهم، وعلى حسب ثِقَل هذه الطاعات على قلوبهم وأبدانهم، وعلى حسب ما
يتحملون من تلك المشقة، ومن هذه الصعوبة، ويبذلون حتى يحققوا أقصى عبادة
يمكن أن يحققوها . «أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ». يعني: الذي يعمل العمل
الصغير في مثل هذه الأيام -من أيام الغفلة- التي لا يساعده فيها أحد
يُحَصِّل أجر خمسين من أعمال الصحابة..
ليس ذلك معناه أنَّ أحدًا سيعمل كأعمال الصحابة، لا، وإنما العمل الواحد
يوازن ذلك، أما أن يُحَصِّل أحدٌ مجموع عمل الصحابي فلا يحصل أحدٌ بعدَهم
تلك الدرجةَ لصحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
لذلك كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون على الخير أعوانا» .
ولذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ،
قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: وَمَنْ الْغُرَبَاءُ ؟ قَالَ الَّذِينَ
يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس»([12]) .
فإذا كثر الفساد، وَعَمَّ البلاء، هؤلاء هم الغرباء الذين يُحسنون ويصلحون طوبى لهم.
فتفطن المؤمنون إلى أنَّه كلما تعبدوا لربهم في أوقات الغفلة، وازدادت
عبادتهم، وازداد تمسكهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووجدوا في ذلك
مشقةً على نفوسهم، وصعوبةً على أبدانهم، وكذلك وجدوا هذا الكلال الذي يمكن
أن يتحملوه في سبيل قُربهم مِن ربهم، وعبادتهم لله تعالى، فإنَّ أجورهم
تزداد عند الله تعالى، وإن درجتهم ترتفع عند الله تعالى، وإن الله -جل
وعلا- بكرمه وَمَنِّهِ يُجْزِلُ لهم المثوبة سبحانه وتعالى ويَزيد لهم في
الأجر الذي يفرحون به عندما يلقون الله تعالى. هذا المعنى يُخَفِّف على
المرء الطاعاتِ الْمُستَثقَلة هذه الأيام، وهذه القُرُباتِ الشَّاقة على
النفس في مثل تلك الأحوال. وإن كانت الطاعة لا مشقة فيها بل هي نعيم الروح
ولذة النفس وبهجة القلب وقرة العين.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»([13]) .
فإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد فازوا بهجرتهم إلى النبي صلوات
الله وسلامه عليه؛ إيمانًا بالله تعالى وتسليمًا له، وتركًا للأهل والمال
والوطن والديار، فإنَّ الله تعالى قد فتح للمؤمنين كذلك في أيام الفتنة هذا
الباب الذي يشابهون به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة إليه.
فالعبادة في الفتنة كالهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن النَّاس في هذه
العهود قد عادت إلى أهوائها، وعادت إلى اتّباع شهواتها ونزواتها كعادة أهل
الجاهلية، فمن خرج منهم إلى عبادة الله تعالى، والاستقامة على أمره،
والثبات على دعوته سبحانه وتعالى كان حاله كحال من هاجر إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وترك الجاهلية وأهلها.
وهذا يحمل المؤمنين على أن يستمسكوا بالله تعالى وأن يعتصموا بالله تعالى،
وبِسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يَزيدوا من بذلهم. فكلما زاد ذلك
في مثل هذه الأيام كان الأجرُ الحسن هو الذي ينتظرهم عند الله تعالى وهو
أجر الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وكفى بذلك شرفًا وفخرًا أن
يُحَصِّل المرء ذلك .
(1) سبق تخريجه. انظر الحاشية ص (11).
([2]) أخرجه النسائي (572) ، والترمذي (3579) وقال: حديث حسن صحيح غريب من
هذا الوجه ، وابنُ خزيمة في صحيحه(1147) كلهم من حديث عمرو بن عبسة t.
([3]) البخاري (566)، ومسلم (638).
([4]) (المَلَقُ) الوُدّ واللطف الشديد وأَصله التليين ، وقيل المَلَقُ شدة
لطف الودّ، و مَلِقَ مَلَقاً وتمَلَّقَ وتَملَّقَهُ وتمَلّقَ له تمَلُّقاً
وتِمِلاَّقاً أَي تودد إليه وتلطف له. انتهى من اللسان مادة (م ل ق).
قال الطيبي رحمه الله: (الملق) بالتحريك الزيادة في التودد والدعاء
والتضرع. قيل: دل أولُ الحديث على أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم وآخره
على أنه من كلامه تعالى.ووُجٍّه بأن مقام المناجاة يشتمل على أسرار
ومناجاة بين المحب والمحبوب. انتهى بتصرف من مرقاة المفاتيح للملا علي
القاري رحمه الله تعالى.
([5]) أخرجه الترمذي (2568) ، والنسائي (1615) ، وأحمد في المسند (5 / 153)
من حديث أبي ذر t، وابن خزيمة في صحيحه (2456طالمكتب
الإسلامي) وابن حبان في صحيحه (8/137) ، و قال الشيخ شعيب في التحقيق :
حديث صحيح.
([6]) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثةٌ يحبهم الله و يضحك إليهم:
الذي إذا تكشف فئةٌ قاتل وراءها بنفسه لله عزَّ وجلَّ.. » أخرجه الحاكم
وصححه (68) من حديث أبي الدرداء t مرفوعًا.
([7]) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ
تَعَالَى فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ.... وَرَجُلٌ
تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا
تُنْفِقُ يَمِينُهُ.. » أخرجه البخاري(1423)، وعن أبي أمامة t عن رسول صلى
الله عليه وسلم قال: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» أخرجه
الطبراني في الكبير وحسّن إسناده المنذري في الترغيب ح: (1317) . ط.
العلمية.
([8]) عن قتادة عن أنس t: ((كانوا يصلون بين العشاء والمغرب)). أخرجه
الحاكم (3737) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، قال الذهبي في التلخيص
: على شرط البخاري ومسلم.اهـ . وعن حذيفةt((أنه صلَّى مع النبي صلى الله
عليه وسلم المغرب ثم صلَّى حتى صلَّى العشاء )) أخرجه الحاكم (1177) وقال:
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه، والترمذي بنحوه وقال حسن
غريب(3781).
([9]) أخرجه مسلم (2531) من حديث أبي موسى الأشعريt.
([10]) تقدم من حديث أسامة بن زيد t.
([11]) رواه أبو داود (4341) عن أبي ثعلبة الخشني t مرفوعا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ، وصحَّح لغيره المتنَ المذكور الشيخُ الألباني في صحيح
الترغيب( 3172 ).
([12]) رواه الآجري في ((الغرباء )) من رواية عبد الله بن مسعود t، وأخرجه
الإمام أحمد بنحوه في مسنده (1/184) من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله
عنه، قال الشيخ شعيب في التحقيق: إسناده جيد، وأبو يعلى (2/99) ، ورواه
الإمام مسلم في صحيحه (145) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مختصرا مرفوعًا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً،
وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قال الإمام
النووي في شرح مسلم: أَمَّا مَعْنَى ( طُوبَى )
( فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ
فَرَح وَقُرَّة عَيْن . وَقَالَ عِكْرِمَة : نِعْمَ مَا لَهُمْ . وَقَالَ
الضَّحَّاك : غِبْطَة لَهُمْ . وَقَالَ قَتَادَةُ : حُسْنَى لَهُمْ .
وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا مَعْنَاهُ أَصَابُوا خَيْرًا . وَقَالَ
إِبْرَاهِيم : خَيْر لَهُمْ وَكَرَامَة : وَقَالَ اِبْن عَجْلَان : دَوَام
الْخَيْر . وَقِيلَ : الْجَنَّة . وَقِيلَ : شَجَرَة فِي
الْجَنَّة. وَكُلّ هَذِهِ الْأَقْوَال مُحْتَمَلَة فِي الْحَدِيث .
وَاَللَّه أَعْلَم . انتهى. [/b]