الحق السياسي عند جان جاك روسو
الأحد 11 يوليو-تموز 2010 القراءات: 1449
توفيق المديني
يشترك جان جاك روسو (1712- 1778)، مع هوبز وسبينوزا، من أن “حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي “ليست سوى أصل المجتمع. ولكن روسو يختلف مع هوبز بوصف الإنسان في حالة الطبيعة، بالذئب لأخيه الإنسان، أي معنى آخر بالشر. وتتجسد نقطة الخلاف هنا، حسب وجهة نظر روسو في أن هوبز ينظر للإنسان في حالة الطبيعة بنفس المنظار الموجود عليه اليوم في حالة المجتمع.
يقول روسو: “اكتشف هوبز عيب كل التعريفات الحديثة للحق الطبيعي، بيد أن النتائج التي يستخلصها من التعريف الذي يعطيه هو تظهر لنا أنه يأخذها في معنى ليس بأقل خطأ (...) لقد تعين على هذا المؤلف أن يقول أن حالة الطبيعة هي الحالة التي يكون فيها الاهتمام بحفظ وجودنا الخاص أقل إلحاقاً للغير بالضرر وبأن هذه الحالة هي بالتالي الحالة الأكثر موافقة للسلام والأكثر ملائمة للنوع البشري، ولكنه يقول بالضبط عكس ذلك لأنه يدخل خطأ رغبات هي من صنع المجتمع ويدرجها في عداد ما يسعى إليه الإنسان من أجل حفظ حياته”.
ففي حالة الطبيعة نجد في السلوك الخاص للإنسان، تتحكم فيه غريزة البقاء والرأفة، حسب روسو. وانطلاقاً من هذين المبدأين الأساسيين تنحدر قوانين الحق الطبيعي كافة.
فالرأفة تلعب دوراً مهماً في حالة الطبيعة، وهي بمنزلة القوانين، والأخلاق، والفضيلة. ويستطرد روسو قائلاً، أن البشر في حالة الطبيعة لا صالحين ولا أشراراً، إذ لا تجمع بينهم أية علاقة أخلاقية أو واجبات مشتركة.
وبما أن العمل هو قانون التطور الإنسان، فضلاً عن أن الإنسان الفاعل المنتج، يستنير بعقله، لتحسين شروط الإنتاج المادي، فإن البشر يتعذر عليهم أن يبقوا في ديمومة ثابتة في حالة الطبيعة، لأن البشر ابتدعوا حاجات مصطنعة، أورثتها الأجيال السابقة وزرها الثقيل، وبخاصة مع بروز الملكية العقارية، حيث حصل التحول الحقيقي للجنس البشري باتجاه الانحطاط، والنزوع إلى الشر، وإلى حب الامتلاك. وكما يقول روسو: “إن أول من سيج أرضاً وقال هذا ملك لي، ووجد أناساً سذجاً بما فيه الكفاية ليصدقوا قوله، هو المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني”. ويضيف روسو قائلاً: “لم تتكون فكرة الملكية هذه دفعة واحدة في العقل البشري، فقد احتاج الإنسان إلى الكثير من التقدم، وإلى اكتساب قدر لابأس فيه من المهارات العملية والمعارف... حتى يصل إلى هذه النهاية الأخيرة للحالة الطبيعية.
في حالة الطبيعة تبدو اللامساواة شكلية وتافهة، ولا تكاد تكون محسوسة، أما في المجتمع حيث تسود الملكية، وما تفرزه من ظواهر سيادة الجشع، والطموح، والمنافسة، وصراع المصالح، فإن اللامساواة بين البشر تكون شديدة الوطأة. ولقد شكل بروز الملكية العقارية مرحلة حاسمة في تعميق الفوارق، واللامساواة بين البشر.
في مؤلفه: المقال في اللامساواة، احتل تعريف الحالة الطبيعية حيزاً كبيراً، ولكن في هذا المؤلف نجد روسو ينحني جانباً في مفهوم الإنسان الطبيعي، الطليق من مكتسباته التاريخية كافة، ويتبنى بدلاً منه مفهوم الإنسان التاريخي، الذي يحمل السمات النوعية للعصر الذي خلقه.
ويخلي مبدأ القانون الطبيعي كنظام من القيم القابلة للتطبيق في كل مكان وزمان مكانه عنده لصالح مبدأ النسبية التاريخية. فالطبيعة البشرية بحسب وصف روسو لها تتغير، وتتبدل، حتى ليعزو تعرف قسماتها الأولى، في مجرد تطور الجنس البشري. فما قد يكون ممتازاً في عصر من العصور، قد يقدر غير مناسب في عصر آخر».
إن قيمة المقال في اللامساواة، تكمن في نقد روسو الجذري للعلاقات الاجتماعية القائمة، وفي التعبير عن آرائه ومواقفه السياسية الصريحة بصدد تعاطفه مع النظام الجمهوري، والديمقراطية. فهو يقول “لكم تمنيت أن أرى النور في ظل حكم ديمقراطي... كل بودي أن أعيش حراً وأن أموت حراً.
أما في كتابه «العقد الاجتماعي»، الذي حدد روسو لنفسه فيه، مهمة البحث عن مبادئ الحق السياسي وجلائها، فهو يشكل ركيزة نظرية لأفكار روسو حول الجمهورية، والديمقراطية، حيث تحول فيما بعد إلى «إنجيل سياسي للديمقراطيين الثوريين»، في الثورة الفرنسية 1789، أي إن العقد الاجتماعي، الذي يقدمه روسو للجميع، يعبر عن حقيقة المساواة في الحالة المدنية، التي ينتقل إليها الإنسان من حالة الطبيعة. إنه يضع مساواة خلقية وشرعية» محل ما أمكن أن تضعه الطبيعة من لا مساواة فيزيائية بين البشر، والبشر، مع إمكان كونهم غير متساويين في القوة أو في القريحة، يصبحون جميعاً متساوين بالاتفاق وبالحق».
إن العقد الاجتماعي شرط ملازم لكل سلطة شرعية، وبالتالي شرط ضروري لكل نظام سياسي طبيعي.
فالعقد الاجتماعي يشكل مرحلة تاريخية نوعية في عملية الانتقال من الحالة الطبيعية إلى حالة المجتمع المدني. وهنا يربط روسو رباطاً جدلياً بين تكون المجتمع المدني، وبين تأييده للعقد الاجتماعي. فهو يقول: “ما يجسده الإنسان من جراء العقد هو حريته الطبيعية والحق اللامحدود في كل ما يغريه، وكل ما يستطيع أن يبلغه ويطوله، وما يربحه بالمقابل هو الحرية المدنية وحق تملكه لكل ما ملكته يده”، وفي هذا القول الصريح، يؤكد روسو على أهمية المجتمع المدني، “يقلد الميثاق الاجتماعي الجسم السياسي سلطة مطلقة على أعضائه كافة. وتشمل هذه السلطة حياة المواطن بالذات فليست الحياة في المجتمع المدني من حسن صنيع الطبيعة ومعروفها، وإنما هي هبة مشروطة من الدولة. إن غاية العقد الاجتماعي الحفاظ بلا ريب على حياة المتعاقدين.
ويتكون بفعل الأصل التعاقدي، أي العقد الاجتماعي مالك السيادة، أي سلطة الشعب، التي تتطابق مع الإرادة العامة، التي يعبر عنها القانون، الذي يعول له وحده الفصل في الحرية والعدل وتتمتع هذه السيادة بسمات معينة، كونها لا تخلع، وغير قابلة للتصرف، ومعصومة عن الخطأ، ومطلقة. إن السيادة عند روسو، حسب نظرة جان جاك شفالييه، هي:«سيادة مجردة تماماً، محل سيادة لويس الرابع عشر العيانية المغصوبة على سيادة الله سيادة تعارض الدولة أنا للمونارك المطلق بالدولة نحن للمحكومين في جسم».
إن نظرية الإرادة العامة تخص السيادة فيها إلى الشعب، باعتباره شخصية مشتركة، بينما تكون الحكومة مجرد وسيط «لسلطات مفوضة يمكن سحبها وتعديلها وفقاً لما تمليه إرادة الشعب» وتشكل نظرية التعاقد الاجتماعي نقطة الالتقاء بين الفيلسوفين السياسيين، الكبيرين، هوبز و روسو، وإن اختلفت طرائقهما في التحليل للوصول إليها.
وهكذا، نصل إلى تطور المفاهيم حول السيادة، والإرادة العامة عند روسو، والملكية الخاصة، والحرية الفردية عند لوك، والمواطن عند سبينوزا، والقانون، والديمقراطية، لكي تتفاعل هذه المفاهيم مجتمعة، وتتمفصل بعضها عن بعض، لتشكل أساساً راسخاً للمجتمع المدني الحديث.
ليس من شك، أن نظرية العقد الاجتماعي أسهمت إسهاما حقيقياً في دك سلطة النظام الإقطاعي حتى وإن كانت من وحي برجوازي.
وبالفعل فإن فكرة كون البشر هم صانعو مجتمعهم في حلف أصلي يمكن أن يزدوج أحياناً إلى حلف مشترك (مدني) وحلف سيطرة (سياسي) هي حينئذ فكرة ثورية، مرددة ضمن النظرية البحتة، النزاعات الاجتماعية والسياسية لعالم في طور الولادة. وإن هذه الفكرة هي في آن معاً احتجاج ضد الظلم القديم، وبرنامج من أجل نظام جديد في هذه النظرية حول حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي، التي تبدو مجرد تأمل، نشهد نظاماً اجتماعياً وسياسياً يسقط، وأناساً يشيدون النظام الجديد الذي يريدون الدفاع عنه أو بناءه على أسس ومبادىء مبتكرة».