تم انتخاب دونالد ترامب بناءً على برنامج حمائي. ومع دخوله المنصب في يناير 2017، بدأ تطبيق هذا البرنامج في مارس 2018 بفرض رسوم بنسبة 25% على واردات الصلب و10% على واردات الألمنيوم. استهدفت هذه الإجراءات جميع الدول المصدّرة، بما في ذلك الصين، الاتحاد الأوروبي، كندا، المكسيك، والبرازيل. وقد أدت إلى ردود فعل انتقامية من بعض هذه الدول التي فرضت بدورها ضرائب إضافية على الواردات الأمريكية.
رغم أن هذه السياسة كانت معلنة في الحملة الانتخابية، إلا أنها كانت مفاجئة. ففي حين كانت التوترات الحمائية متوقعة أثناء أزمة 2008، لم يكن أحد يتوقعها في عام 2018، خصوصًا في الولايات المتحدة التي كانت تتمتع بنمو اقتصادي قوي وشبه توظيف كامل.
كان الهدف الأساسي لهذه السياسات واضحًا نسبيًا ومحددًا: حماية الوظائف في القطاعات الصناعية المتراجعة وتقليص العجز التجاري. ومع ذلك، أدى الرد الصيني السريع إلى توسيع الحجة الأمريكية لتشمل معاقبة ما تعتبره واشنطن ممارسات تجارية "غير عادلة". أخذت الولايات المتحدة بذلك مخاطرة الدخول في دوامة من التصعيدات المتبادلة، لم يتم التخفيف منها إلا بوعود بالمفاوضات، التي لم تسفر حتى الآن عن نتائج سواء مع الصين أو الاتحاد الأوروبي.
في ربيع 2018، أعلنت الولايات المتحدة الحرب التجارية، مع سلسلة من المعارك والهدنات والتصعيدات. سرعان ما أصبحت الصين الخصم الرئيسي. صحيح أن الإدارات الأمريكية السابقة كانت تشارك بعض المخاوف تجاه الصين واتخذت إجراءات مشابهة، لكنها لم تصل أبدًا إلى هذا المستوى من التأثير، ولم تهدد النظام التجاري المتعدد الأطراف الذي دافعت عنه الولايات المتحدة وفرضته بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا الدور القيادي، الذي يجمع بين الهيمنة والنوايا الحسنة، واجه مقاومة من الاتحاد السوفييتي الذي، رغم قبوله بمنظمة الأمم المتحدة، رفض التصديق على اتفاقيات بريتون وودز وابتعد بشكل واضح عن اتفاقية الجات (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة). كما أن إنهاء الاستعمار، الذي دعمته الولايات المتحدة لإضعاف القوى الكبرى السابقة، أدى إلى تفاقم رغبة الدول الجديدة في الاستقلال والسيادة، وهي رغبات لم تكن تتماشى بسهولة مع القواعد والإيديولوجية التي فرضتها "الهيمنة" أو "الإمبريالية" الأمريكية.
بالإضافة إلى ذلك، رغم أن الولايات المتحدة أصبحت القوة التجارية الأولى بعد الحرب، فإن حصتها من الأسواق استمرت في التراجع لصالح الدول الأوروبية، ثم اليابان، وأخيرًا الصين. بحلول الستينيات، اختفى الفائض التجاري الأمريكي وبدأت تظهر عجز تجاري دائم.
كل هذه التطورات أضعفت العقيدة الروزفلتية القائلة بأن ما هو جيد للعالم هو أيضًا جيد لأمريكا. وردًا على ذلك، وبتحفيز من الكونغرس، بدأت السياسة الأمريكية في إدخال مزيد من الأحادية إلى النظام متعدد الأطراف. انهار نظام بريتون وودز النقدي في عام 1971، مما أدى إلى إزالة القيود المفروضة على الدولار (35 دولارًا للأونصة الذهبية) والسيطرة على تدفقات رأس المال. في الوقت نفسه، مع تراجع قيمة الدولار، أصبحت القوانين التجارية أكثر صرامة، خاصة المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974، التي أعطت السلطة التنفيذية صلاحية اتخاذ تدابير انتقامية لمعاقبة أي عمل من دولة يعتبر "غير مبرر" أو "غير معقول" أو "تمييزي".
هذه المادة تم تعزيزها لاحقًا (تحت مسمى "Super 301") وتم توسيعها لتشمل قضايا مثل حقوق الملكية الفكرية ("Special 301"). ومن خلال ذلك، ظهر مفهوم "التجارة العادلة" (Fair Trade)، الذي يتعارض مع مفهوم "التجارة الحرة" (Free Trade) التقليدي، ويعزز الفكرة القائلة إن التجارة الحرة كما تُمارس من خلال المؤسسات المتعددة الأطراف مثل الجات (ثم منظمة التجارة العالمية منذ 1995) لا تخدم المصالح الأمريكية. وبحسب هذا الرأي، فإن التعددية تفشل في تحقيق توازن عادل (Level Playing Field) في التجارة، مما يجعل الولايات المتحدة "الطرف الجيد" (Nice Guy) الذي يقدم الكثير للآخرين دون أن يحصل على ما يكفي في المقابل. وبالتالي، فإن "القيادة الحسنة" تصبح مجرد سذاجة وضعف.
هذا التراجع في الالتزام بالتسامح مع الشركاء التجاريين، حتى الحلفاء منهم، دفع الولايات المتحدة إلى إشعال عدد من النزاعات أو الحروب التجارية التي استهدفت جميع القوى الاقتصادية الكبرى تقريبًا، سواء كانت ناشئة (مثل البرازيل والهند) أو متقدمة (مثل الاتحاد الأوروبي وكندا). ومن بين هذه الأزمات، يمكن الإشارة إلى اليابان، التي فرضت عليها الولايات المتحدة في عام 1987 تعريفة بنسبة 100% على صادراتها من المنتجات الإلكترونية. وقد استخدمت الإدارة الأمريكية آنذاك حججًا مشابهة لتلك المستخدمة اليوم ضد الصين: سرقة التكنولوجيا، عقبات أمام الاستثمارات المباشرة، دعم حكومي، وتخفيض قيمة العملة.
بحلول نهاية التسعينيات، ورغم المصادقة الصعبة على اتفاقية مراكش التي أنشأت منظمة التجارة العالمية، أصبح الإطار الإقليمي أو الثنائي أكثر ملاءمة لفرض القواعد الأمريكية، خصوصًا في مجالات مثل حقوق الملكية الفكرية والاستثمار ومعايير العمل، وهي مجالات لم تحظ باهتمام كافٍ في إطار منظمة التجارة العالمية. وبالتالي، كثّفت الولايات المتحدة إبرام الاتفاقيات التجارية (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا"، تشيلي، كولومبيا، كوريا، أستراليا، وغيرها)، التي تطلبت غالبًا مفاوضات شاقة مع الكونغرس، الذي أصبح أكثر تحفظًا نتيجة ضغط النقابات وتغير توجه الحزب الديمقراطي من الانفتاح التجاري التقليدي إلى الميول الحمائية.
ومع ذلك، ورغم أن بعض المسؤولين السابقين عبّروا عن مواقف مشابهة، إلا أن ترامب ذهب أبعد من ذلك وسلك مسارات مختلفة. فهو لم يقتصر على السعي لفتح الأسواق الأجنبية لصادرات الولايات المتحدة بل ركز أيضًا على حماية الإنتاج المحلي، خاصة في القطاعات الصناعية المتراجعة مثل الصلب، الألومنيوم، السيارات، والأجهزة المنزلية. كما أدخل مفهوم "الفك الارتباط" (Decoupling)، الذي يسعى إلى تقليل الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين.
الرؤية التجارية التي يدافع عنها ترامب تتسم بطابع "ميركانتيلي" أكثر تقليدية، وهي تعتمد على فكرة أن العجز التجاري الأمريكي هو نتيجة سياسات غير عادلة تمارسها دول مثل الصين وألمانيا، على الرغم من أن هذه الرؤية تتجاهل الحقائق الاقتصادية التي أوضحها منذ قرون اقتصاديون مثل هيوم، مونتسكيو وآدم سميث. فهذه العجوزات ليست بالضرورة نتيجة "مكر" هذه الدول، بل هي انعكاس طبيعي لتوازنات الادخار والاستثمار داخل الولايات المتحدة.
العجز الأمريكي في الميزانية والعجز في الحساب الجاري مرتبطان بشكل وثيق. وبالتالي، فإن الحل لا يمكن أن يكون في زيادة التعريفات الجمركية، بل في تقليل العجز في الميزانية وتشجيع الادخار. ومع ذلك، فإن إدارة ترامب اختارت مسارًا آخر، يتمثل في تصعيد الحرب التجارية مع الصين.
على الرغم من أن الإدارات الأمريكية السابقة لجأت أحيانًا إلى الأحادية (Unilateralism) في السياسة التجارية، إلا أنها كانت تميل إلى المرونة. فبناءً على الظروف وموازين القوى، كانت الإدارات تمزج بين السياسات متعددة الأطراف (Multilateralism) والسياسات الثنائية (Bilateralism). على سبيل المثال، شهدت التسعينيات توقيع اتفاقية مراكش (1994) التي أنشأت منظمة التجارة العالمية، في حين شهدت العقد الأول من القرن الحادي والعشرين اتفاقيات إقليمية كبيرة مثل اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ (TPP).
لكن هذه المرونة اختفت مع إدارة ترامب، التي أصبحت تهاجم التعددية بشكل مباشر وتفضل فرض العقوبات التجارية قبل التفاوض. كما رفضت الإدارة اتفاقيات كانت تهدف إلى عزل الصين مثل اتفاقيات التجارة عبر المحيط الهادئ، وفضلت تصعيد النزاعات التجارية بدلاً من محاولة حلها.
في البداية، كانت العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة مبنية على الأمل. ففي الثمانينيات والتسعينيات، كانت الصين سوقًا ناشئة ضخمة وأداة لخفض التكاليف للشركات الأمريكية. ولكن مع صعود الصين كأكبر مصدر في العالم وتوسعها في الصناعات ذات التقنية العالية، مثل مبادرة "صنع في الصين 2025"، بدأت الولايات المتحدة ترى في الصين تهديدًا حقيقيًا لهيمنتها الاقتصادية.
رغم أن هذه السياسة كانت معلنة في الحملة الانتخابية، إلا أنها كانت مفاجئة. ففي حين كانت التوترات الحمائية متوقعة أثناء أزمة 2008، لم يكن أحد يتوقعها في عام 2018، خصوصًا في الولايات المتحدة التي كانت تتمتع بنمو اقتصادي قوي وشبه توظيف كامل.
كان الهدف الأساسي لهذه السياسات واضحًا نسبيًا ومحددًا: حماية الوظائف في القطاعات الصناعية المتراجعة وتقليص العجز التجاري. ومع ذلك، أدى الرد الصيني السريع إلى توسيع الحجة الأمريكية لتشمل معاقبة ما تعتبره واشنطن ممارسات تجارية "غير عادلة". أخذت الولايات المتحدة بذلك مخاطرة الدخول في دوامة من التصعيدات المتبادلة، لم يتم التخفيف منها إلا بوعود بالمفاوضات، التي لم تسفر حتى الآن عن نتائج سواء مع الصين أو الاتحاد الأوروبي.
في ربيع 2018، أعلنت الولايات المتحدة الحرب التجارية، مع سلسلة من المعارك والهدنات والتصعيدات. سرعان ما أصبحت الصين الخصم الرئيسي. صحيح أن الإدارات الأمريكية السابقة كانت تشارك بعض المخاوف تجاه الصين واتخذت إجراءات مشابهة، لكنها لم تصل أبدًا إلى هذا المستوى من التأثير، ولم تهدد النظام التجاري المتعدد الأطراف الذي دافعت عنه الولايات المتحدة وفرضته بعد الحرب العالمية الثانية.
استمرارية تاريخية
شهدت نهاية الحرب العالمية الثانية فرض نظام متعدد الأطراف يهدف صراحةً إلى تجنب الحروب من خلال معالجة أسبابها، وخاصة النزاعات التجارية والنقدية التي ساهمت في تفاقم أزمة 1929 وأدت إلى ظهور أنظمة شمولية توسعية وعسكرية. كما كان للتعددية التي دعا إليها الرئيس روزفلت هدف غير معلن: ضمان أن تتولى الولايات المتحدة، باعتبارها زعيمة "خيرة"، وضع القواعد التي، رغم كونها مفيدة للعالم، تخدم المصالح الأمريكية بشكل أفضل من السياسة الانعزالية السابقة. فقط تحقيق هذا الشرط الأخير كان سيجعل السياسة الدولية للولايات المتحدة مقبولة لدى ناخبين وكونغرس لا يشعرون بشكل طبيعي بضرورة التدخل في شؤون العالم.هذا الدور القيادي، الذي يجمع بين الهيمنة والنوايا الحسنة، واجه مقاومة من الاتحاد السوفييتي الذي، رغم قبوله بمنظمة الأمم المتحدة، رفض التصديق على اتفاقيات بريتون وودز وابتعد بشكل واضح عن اتفاقية الجات (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة). كما أن إنهاء الاستعمار، الذي دعمته الولايات المتحدة لإضعاف القوى الكبرى السابقة، أدى إلى تفاقم رغبة الدول الجديدة في الاستقلال والسيادة، وهي رغبات لم تكن تتماشى بسهولة مع القواعد والإيديولوجية التي فرضتها "الهيمنة" أو "الإمبريالية" الأمريكية.
بالإضافة إلى ذلك، رغم أن الولايات المتحدة أصبحت القوة التجارية الأولى بعد الحرب، فإن حصتها من الأسواق استمرت في التراجع لصالح الدول الأوروبية، ثم اليابان، وأخيرًا الصين. بحلول الستينيات، اختفى الفائض التجاري الأمريكي وبدأت تظهر عجز تجاري دائم.
كل هذه التطورات أضعفت العقيدة الروزفلتية القائلة بأن ما هو جيد للعالم هو أيضًا جيد لأمريكا. وردًا على ذلك، وبتحفيز من الكونغرس، بدأت السياسة الأمريكية في إدخال مزيد من الأحادية إلى النظام متعدد الأطراف. انهار نظام بريتون وودز النقدي في عام 1971، مما أدى إلى إزالة القيود المفروضة على الدولار (35 دولارًا للأونصة الذهبية) والسيطرة على تدفقات رأس المال. في الوقت نفسه، مع تراجع قيمة الدولار، أصبحت القوانين التجارية أكثر صرامة، خاصة المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974، التي أعطت السلطة التنفيذية صلاحية اتخاذ تدابير انتقامية لمعاقبة أي عمل من دولة يعتبر "غير مبرر" أو "غير معقول" أو "تمييزي".
هذه المادة تم تعزيزها لاحقًا (تحت مسمى "Super 301") وتم توسيعها لتشمل قضايا مثل حقوق الملكية الفكرية ("Special 301"). ومن خلال ذلك، ظهر مفهوم "التجارة العادلة" (Fair Trade)، الذي يتعارض مع مفهوم "التجارة الحرة" (Free Trade) التقليدي، ويعزز الفكرة القائلة إن التجارة الحرة كما تُمارس من خلال المؤسسات المتعددة الأطراف مثل الجات (ثم منظمة التجارة العالمية منذ 1995) لا تخدم المصالح الأمريكية. وبحسب هذا الرأي، فإن التعددية تفشل في تحقيق توازن عادل (Level Playing Field) في التجارة، مما يجعل الولايات المتحدة "الطرف الجيد" (Nice Guy) الذي يقدم الكثير للآخرين دون أن يحصل على ما يكفي في المقابل. وبالتالي، فإن "القيادة الحسنة" تصبح مجرد سذاجة وضعف.
هذا التراجع في الالتزام بالتسامح مع الشركاء التجاريين، حتى الحلفاء منهم، دفع الولايات المتحدة إلى إشعال عدد من النزاعات أو الحروب التجارية التي استهدفت جميع القوى الاقتصادية الكبرى تقريبًا، سواء كانت ناشئة (مثل البرازيل والهند) أو متقدمة (مثل الاتحاد الأوروبي وكندا). ومن بين هذه الأزمات، يمكن الإشارة إلى اليابان، التي فرضت عليها الولايات المتحدة في عام 1987 تعريفة بنسبة 100% على صادراتها من المنتجات الإلكترونية. وقد استخدمت الإدارة الأمريكية آنذاك حججًا مشابهة لتلك المستخدمة اليوم ضد الصين: سرقة التكنولوجيا، عقبات أمام الاستثمارات المباشرة، دعم حكومي، وتخفيض قيمة العملة.
بحلول نهاية التسعينيات، ورغم المصادقة الصعبة على اتفاقية مراكش التي أنشأت منظمة التجارة العالمية، أصبح الإطار الإقليمي أو الثنائي أكثر ملاءمة لفرض القواعد الأمريكية، خصوصًا في مجالات مثل حقوق الملكية الفكرية والاستثمار ومعايير العمل، وهي مجالات لم تحظ باهتمام كافٍ في إطار منظمة التجارة العالمية. وبالتالي، كثّفت الولايات المتحدة إبرام الاتفاقيات التجارية (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا"، تشيلي، كولومبيا، كوريا، أستراليا، وغيرها)، التي تطلبت غالبًا مفاوضات شاقة مع الكونغرس، الذي أصبح أكثر تحفظًا نتيجة ضغط النقابات وتغير توجه الحزب الديمقراطي من الانفتاح التجاري التقليدي إلى الميول الحمائية.
القطيعة في عهد ترامب
من المغري القول إن إدارة ترامب عادت إلى تقاليد الولايات المتحدة الحمائية القديمة. فقد حلت الصين محل اليابان والاتحاد الأوروبي كهدف رئيسي للسياسة التجارية الأمريكية العدائية.ومع ذلك، ورغم أن بعض المسؤولين السابقين عبّروا عن مواقف مشابهة، إلا أن ترامب ذهب أبعد من ذلك وسلك مسارات مختلفة. فهو لم يقتصر على السعي لفتح الأسواق الأجنبية لصادرات الولايات المتحدة بل ركز أيضًا على حماية الإنتاج المحلي، خاصة في القطاعات الصناعية المتراجعة مثل الصلب، الألومنيوم، السيارات، والأجهزة المنزلية. كما أدخل مفهوم "الفك الارتباط" (Decoupling)، الذي يسعى إلى تقليل الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين.
الرؤية التجارية التي يدافع عنها ترامب تتسم بطابع "ميركانتيلي" أكثر تقليدية، وهي تعتمد على فكرة أن العجز التجاري الأمريكي هو نتيجة سياسات غير عادلة تمارسها دول مثل الصين وألمانيا، على الرغم من أن هذه الرؤية تتجاهل الحقائق الاقتصادية التي أوضحها منذ قرون اقتصاديون مثل هيوم، مونتسكيو وآدم سميث. فهذه العجوزات ليست بالضرورة نتيجة "مكر" هذه الدول، بل هي انعكاس طبيعي لتوازنات الادخار والاستثمار داخل الولايات المتحدة.
العجز الأمريكي في الميزانية والعجز في الحساب الجاري مرتبطان بشكل وثيق. وبالتالي، فإن الحل لا يمكن أن يكون في زيادة التعريفات الجمركية، بل في تقليل العجز في الميزانية وتشجيع الادخار. ومع ذلك، فإن إدارة ترامب اختارت مسارًا آخر، يتمثل في تصعيد الحرب التجارية مع الصين.
على الرغم من أن الإدارات الأمريكية السابقة لجأت أحيانًا إلى الأحادية (Unilateralism) في السياسة التجارية، إلا أنها كانت تميل إلى المرونة. فبناءً على الظروف وموازين القوى، كانت الإدارات تمزج بين السياسات متعددة الأطراف (Multilateralism) والسياسات الثنائية (Bilateralism). على سبيل المثال، شهدت التسعينيات توقيع اتفاقية مراكش (1994) التي أنشأت منظمة التجارة العالمية، في حين شهدت العقد الأول من القرن الحادي والعشرين اتفاقيات إقليمية كبيرة مثل اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ (TPP).
لكن هذه المرونة اختفت مع إدارة ترامب، التي أصبحت تهاجم التعددية بشكل مباشر وتفضل فرض العقوبات التجارية قبل التفاوض. كما رفضت الإدارة اتفاقيات كانت تهدف إلى عزل الصين مثل اتفاقيات التجارة عبر المحيط الهادئ، وفضلت تصعيد النزاعات التجارية بدلاً من محاولة حلها.
لماذا التركيز على الصين؟
رغم أن السياسات التجارية لترامب استهدفت العديد من الدول، إلا أن الصين سرعان ما أصبحت الخصم الرئيسي. يعكس هذا التحول قلقًا أمريكيًا متزايدًا من صعود الصين كقوة اقتصادية، وهو ما أدى إلى ظهور مقارنات تاريخية مثل "فخ ثيوسيديديس" (Thucydides Trap) الذي يشير إلى احتمالية اندلاع صراع بين القوى الصاعدة (الصين) والقوى المهيمنة (الولايات المتحدة).في البداية، كانت العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة مبنية على الأمل. ففي الثمانينيات والتسعينيات، كانت الصين سوقًا ناشئة ضخمة وأداة لخفض التكاليف للشركات الأمريكية. ولكن مع صعود الصين كأكبر مصدر في العالم وتوسعها في الصناعات ذات التقنية العالية، مثل مبادرة "صنع في الصين 2025"، بدأت الولايات المتحدة ترى في الصين تهديدًا حقيقيًا لهيمنتها الاقتصادية.
- عنوان المقال: الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين: تعددية الأطراف في مأزق
- الكاتب: جان مارك سيروين (Jean-Marc Siroën)
- الناشر: Annuaire français de relations internationales
- تاريخ النشر: 2020
- المجلد: المجلد الحادي والعشرون (XXI)