Announcement Title

Your first announcement to every user on the forum.

الجناس في الضاد

Basil Abdallah

عضو جديد
عضو انكور
وهو تشابه اللفظين في النطق في أداء المعنى، فقد ورد على مر العصور في كلامنا فصيحة وغير فصيحة. فالقرآن يورد: وأسلمت مع سليمان، وأقم وجهك للدين القيم، تتقلب فيه القلوب والإبصار، أزفت الآزفة، إذا وقعت الواقعة، إني وجهت وجهي….[16] وبالطبع فإن القرآن عمد إلى هذا الجناس المطلق وسيلة من وسائل الجذب والسحر اللغوي.



وفي الحديث نجد الرسول يتحدث عن قبائل عصية وغفار وأسلم فيقول: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله [17]، ويقول الظلم ظلمات يوم القيامة، المسلم من سلم الناس من يده ولسانه [18] .وفي الفترة الإسلامية الأولى قال رجل من قريش لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان . فقال الرجل: إن اسمك لكذب، ما خلد أحد، وإن أباك لصفوان وهو حجر. فقال خالد: من أي قريش أنت؟ قال: من بني عبد الدار. قال:فمثلك يشتم تميمًا في عزها وحسبها، وقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وجمحت بك جُمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصي، فجعلتك عبد دارها .[19]



وحتى في العصور المتأخرة في قصص السير نرى بعض اللازمات تتكرر ، وفيها هذه المحسنات، فمن تغريبة بني هلال مثلاً: والتقى البطلان كأنهما جبلان، وحان عليهما الحَين، وغنى على رأسيهما غراب البين وقد أورد الشدياق نماذج كثيرة منها:



فلما ذقت طيب العشق وسوس إلي الوسواس أن أتزوج بنتًا فقيرة مهملة، وهذا العشق يسمى عند الإفرنج العشق الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون الحكيم، ولا حقيقة له عندهم، وإنما هي مجرد تسمية، ويعرف عندنا بالهوى العذري نسبة إلى عذرة قبيلة في اليمن لا إلى عذرة الجارية أي بكارتها .[20] وفي الأمثال العامية نجد تجنيسًا تامًا وناقصًا : الخال مخلّى ، خيرها بغيرها ، الأقارب عقارب ، الحركة بركة ، الزيارة غارة .



بل إن الأسماء توحي عند الغضب لبعض الأمهات فعائشة- ليتها لا تعيش، و حسن الله لا يحسن إليه، و محمود الله لا يحمده… وهكذا بقدر ما يسمح الاشتقاق. حتى في الإجابات - -أي أحرف الجواب - فإن نعم تصبح عند الغضب دافعة للإجابة نعامة ترفسك ، و لا (لع) – لعوعة؟؟ وإذا كنا قد استشهدنا من شعر امرئ القيس للدلالة على التشطير ، فيمكننا هنا أيضًا أن نستشهد بنموذج الجناس:



لـقد طمح الطماح من بعد أرضه



ليلبسنـي من دائه ما تلبسـا [21]



فهذه الاستعمالات ليست مجرد تلاعب لفظي، وإنما تدبيج لتمكين المعاني ولتقويتها. أما الجناس الذي يؤدي إلى تعقيد، ويحول دون انطلاق المعاني فهو المتكلف الذي وجدنا له النماذج الكثيرة في أدب المقامات: وأقدح زند جدك بجدك، واقرع باب رعيك بسعيك، ولج كل لج [22].



فمثل هذا النموذج لا نجده في لغتنا المعاصرة، ولكنا نجد الاستعمالات المتجددة بصور مراوغة وأحيانًا تدعو إلى الابتسام ، فإميل حبيبي في كتابه المتشائل يستعمل:

- حديث شطط في الطريق إلى سجن شطه.

- فقمت إلى اللوح فصاح: عد لمكانك يا لوح.

- وبرطعوا في برطعة.

- أخذ الذهب وذهب.[23] ومما ذكر في كتاب أستاذ قد الدنيا لكاتب هذه السطور بعض العينات:

- وصرت معلم الإنجليزية بقدرة قادر.

- أو ليس تشكيل الرئاسة أهم من تشكيل القطعة.

- وما زلت غير مؤهل حتى الآن مع أني مؤهل زواجًا .[24] وقد جذب نظري في أثناء كتابة المقال صورة قلمية للدكتور إدوار إلياس نشرت في الاتحاد بعنوان أوفاهن وفاء وأجملهن جميلة، وأشرفهن شريفة .[25] فاللغة هنا تتطور،وتقرب الشكل من المضمون ،أي تستعمل الأسلوب نفسه كحيلة فنية لتوصيل المضمون. الطباق والمقابلة الطباق هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام، وفي المقابلة أكثر من طباق واحد. قال تعالى: وإنه هو أضحك وأبكى * وإنه هو أمات وأحيا [26]. يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل * ويخرج الميت من الحي [27] ؛ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب[28] ؛لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [29]. ومثل هذا التضاد يقوي المعنى ويرسخه في ذهن السامع. وفي الحديث نماذج منه: اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت… خير المال عين ساهرة لعين نائمة، إياكم والمشارة فإنها تميت الغرَّة وتحيي العُرّة [30]. ومن المقابلة ما يأتي لإيراد الكلام، ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ من جهة الموافقة أو المخالفة. فإذا كان منها في المعنى فهو مقابلة الفعل بالفعل كقوله تعالى: فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [31] فخواء بيوتهم وخرابها بالعذاب مقابلة لظلمهم، فهذا هو الربط المناقض، وهو على غرار ما نراه بالإنجليزية كذلك - Anti- thesis ، وهو أسلوب بلاغي نجد نماذج كثيرة له في كل عصر وحتى في اللهجات العامية:



- القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود.

- قرعة تتباهى بشعر بنت خالها.

- العصفور يتفلى والصياد يتقلى. وسنرى أن هذا الأسلوب يتقوى الضد به عن طريق الضد. الموازنة وهو تساوي الفواصل في الوزن دون التقفية نحو قوله تعالى: ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة ؛ وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد [32]. ومبنى الجملة في العصر العباسي عامة فيه هذا الترادف الذي تُمكِّن الجملة فيها سابقتها. فمثلاً يقول قدامه في كتابه نقد النثر: …. أن يكون في جميع ألفاظه ومعانيه جاريًا على سجيته غير مستكره لطبيعته، ولا يتكلف ما ليس في وسعه، فإن التكلف إذا ظهر في الكلام هجّنه وقبح موقعه. فانظر كيف تتشبث الجملة بالأخرى. وأساليب المنفلوطي وطه حسين والزيات قريبة الشبه بالموازنة، بل إن العقاد الذي أفاد من الأساليب الإنجليزية لم يتخلص من هذه الأنماط المقطعة ، ولنسق مثلاً:



إن الكتابة الأدبية فن، والفن لا يكتفي فيه بالإفادة، ولا يعني عنه مجرد الإفهام. وعندي أن الأديب في حل من الخطأ في بعض الأحيان ، ولكن على شرط أن يكون الخطأ خيرًا وأجمل وأوفى من الصواب [33]. لنعد إلى السؤال: لماذا حافظ العرب على هذا التزيين أو التدبيج على مدى العصور؟ يبدو لنا أن حركة الكتابة والتفكير في صوغ العبارة تلزم التقطيع ذهنيًا آنا بالسجع وآخر بالموازنة، وإذا لم يجد بدًا فهو يعرض عن الموسيقى والإيقاع إلى إيقاع آخر يتمثل بالطباق أو الجناس. يقول صاحب كتاب الصناعتين:



لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجًا… [34] فالكلمات العادية لا تثير انتباه القارئ أو السامع، وتتجلى المتعة بالإيقاع نفسه، وفي الإيقاع نوع من التكرار. فإذا قيل: ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية فإننا نطرب للقسم الثاني، بل أحيانًا نستخرجه وحده، لأنه تكرار من نوع جديد يزيد الإيقاع قوة على قوة. إذًا فبقدر ما يؤدَّى الغرض الجمالي فإن ثمة مضمونًا تأكيديًا هو إيقاع وتمكين معًا. وهذه الأساليب منها ما هو تعويض عن قافية الشعر وتمكين معًا. وإذا كان الشعر كثافة معنى وتركيزًا فإن هذا التدبيج أو التزيين يركز الخلاصة في موسقة وجمال بناء شبيهين لما لهما في النظم. وقد يدخل التكرار في هذا الباب كما نجد أن للمفعول المطلق (وخاصة المصدر للتوكيد) أهمية في هذا المجال، فهي محسنات رغم أنها لم ترد على السنة علماء البلاغة بهذا الوصف. فكلما كانت طبيعية انسابت وانساقت حلى وديباجة، أما إذا تعسفنا فيها وتكلفنا فعندها تكون تلاعبًا لغويًا - لا تغني العبارة بقدر ما تفقرها.



ومع هذا لا نستطيع أن ننكر استعمال كاتب معاصر للسجع أو الطباق، فلغتنا طيعة لمثل هذه المحسنات، ونحن لا نسمي هذا ارتفاعًا في الأسلوب أو انخفاضًا فيه ، كما أن الكاتب الذي يقل منها أو لا يستعملها قطعيًا لا ينقص حظه من الإجادة في الكتابة… فتفاوت العمل الأدبي هو بالأسلوب والشكل، فالشكل هو الذي يرسخ المضمون ، وهو الذي يتلاحم معه.



لنلق نظرة على الاستعمالات المعاصرة لهذه المحسنات في لغتنا الحديثة:



أ- نستعمل كثيرًا منها عناوين لمقالات أو أسماء لكتب ، وخاصة أسلوب الطباق ، فمن الكتب المحلية يحضرني: مروج وصحار، أسير يقظتي ونومي، اعتناق الحياة والممات، وابل وطل. وفي عدد واحد من صحافتنا المحلية وردت هذه العناوين:



تريد العشق وتخاف من الحمل، يا جبل ما يهزك ريح، أوفاهن وفاء وأجملهن جميلة وأشرفهن شريفة .[35] وهناك بعض زوايا في الصحافة أذكر منها : صدى الصدى! ما الهدف من الهدف؟ الجديد في الجديد- وهكذا كل صحيفة تبعًا لاسمها.



ب- الاستعمال الساخر في اللغة، حتى ولو كانت هناك بعض التجاوزات اللغوية: يقول إميل حبيبي: كنت أحسبك حمارًا فإذا أنت أحمر.

- أفحمه؟

- بل وفَحَّمه.

- واخذ الذهب وذهب .[36]



ففي المثل الأخير مكّن المعنى ورسخه، فلو قال هذا المثل أخذ الذهب وراح لكانت جملة عادية، ولكن كلمة (ذهب) خدمت المعنى . وليسمح لي القارئ باستعمال نماذج من كتابي أستاذ قد الدنيا الذي عنوانه يدل على الموازنة والمفارقة:



- أنا رياض برهان أستاذ الرياضيات.

- فأنا نسيج وحدي أو جحيش وحدي.

- أحسب وما أدراك ما أحسب ![37]



ج- نقل جو، وكثيرًا ما يكون نوعًا من Parody فيستعمل الكاتب الصيغ نفسها بصورة مختلفة، ولكنها موحية بالجو الأصلي الذي نبعت منه. ففي كشف اللثام عن أخبار ابن سلام يكتب لنا جمال الغيطاني فصلاً كأنه من فصول الجبرتي [38]. وفي رحلات السندباد السبع يستعمل عبد الرحمن فهمي العبارة يا سادة يا كرام…[39] بشكل رتيب.



وأخيرًا فإن مناحي القول وأساليبه اتسعت هذه الأيام بقدر اتساع الحياة وأساليبها، فثمة الجمل الطويلة على غرار الجملة الألمانية المركبة، وثمة المعتمدة على الاستعارات المختزلة أو المنحوتة، وهناك أنصاف الجمل وكأنها شعر حديث.



وقد وقع في يدي مؤخرًا نموذج من النثر الغريب نشرته مجلة النقطة التي صدرت في باريس. وبرغم هذا الخروج عن مألوف اللغة في مساراتها فإن المحسنات اللغوية بقيت زينة إذا استسيغت وأحكمت، وغدت أغلالاً إذا لم تكتبها يد صَناع، فهي جزء من اللغة والأسلوب ولا تشترط سياق السخرية.



وبعد فليست لنا مقاييس محددة نقيس بها ارتفاع اللغة وانخفاضها. فاللغة متطورة، وما كان عاميًا عند الزبيدي في كتابه لحن العامة أصبح فصيحًا اليوم. وبعض ما نعتبره عاميًا اليوم قد يكون فصيحًا بعد ألف سنة. وليست المحسنات اللفظية تلاعبًا لغويًا كما يحلو للبعض أن يسميها، بل لها مكانتها في خدمة المضمون.
 

ما هو انكور؟

هو منتدى عربي تطويري يرتكز على محتويات عديدة لاثراء الانترنت العربي، وتقديم الفائدة لرواد الانترنت بكل ما يحتاجوه لمواقعهم ومنتدياتهم واعمالهم المهنية والدراسية. ستجد لدينا كل ما هو حصري وكل ما هو مفيد ويساعدك على ان تصل الى وجهتك، مجانًا.
عودة
أعلى