أبو الطيب المتنبي الذي لم يكن في كل أحواله طيبًا، هو تركيبة فريدة، وتجربة إنسانية عجيبة، ما تزال تثير بعد أكثر من ألف عام، زوابع من الإعجاب والاستهجان، تعبر عن مدى تذبذب منحنى الرجل صعودًا وهبوطًا. فهو الذي لم يوازِ ثقته في نفسه، ومتانة حكمته ، إلا شدة هجائه لخصومه حد التشبيح والسب والقذف!
في إحدى أمسياته الشعرية، وأثناء تقديمه لقصيدة له يهجو فيها الصهاينة هجاءً لاذعًا (قصيدة إن سار أهلي فالدهر يتبع)، ذكر تميم البرغوثي في حق أستاذه المتنبي، مقولةً مختصرة، لكن فيها خلاصة منهج المتنبي المسجل باسمه في فن الهجاء الشعري. قال تميم ما معناه أن المتنبي يهجو على قدر احترامه لذهنية المهجو! فإن كان ذا عقلٍ وذائقة أدبية، فإنه يبدعُ له قطعًا من الهجاء الفني، والصور غير المباشرة. أما إذا كان يحتقره، فإنه (يصير يسب!) بنص ما قال تميم!
لكن لأن المتنبي كان ماكينةً بشرية لإبداع الحكمة، فإنه لا يكف عن إطلاق تُحَفِه الشعرية حتى وسطَ موجات السباب! يذكر الرواة أن أحد الأشخاص اعترض طريق المتنبي، وذلك لإجباره أن يمتدحه في قصيدة! فرّ المتنبي منه، لكنه قرر مكافأته بما يستحق وما لا يستحق من أجل ما فعل. فأهداه قصيدة من أقبح الهجائيات في الشعر العربي عرَّض -تصريحًا لا تلميحًا- فيها بنسبه وشرفه وشرف زوجته، ووالديه، ولعل أكثر أبياتها أدبًا في هجاؤه:
ومن البليَّةِ عذلُ من لا يرعوي *** عن غيِّهِ .. وخطابُ من لا يفهَم!
وإذا أشارَ مُحدِّثًا فكأنَّــهُ *** قردٌ يُقَهْقِهُ أو عجوزٌ تلطِــــمُ!
لكن رغم ذلك، لم تخْلُ القصيدة من بعض حكم المتنبي الخالدات التي لا تزال رائجةً إلى يومنا هذا.
ومن العداوة ما يُصيبُكَ نفعُهُ *** ومن الصداقةِ ما يضُرُّ ويُؤلِمُ
والحكمة ذائعة الصيت عن معضلة العلم والجهل، وأيهما أكثر ارتباطًا بالسعادة وراحة البال ..
ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ *** وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعَمُ
وحكمةٌ أخرى بارزة في سجل الشعر العربي، تعتبر من أقوى روائع الكرامة، والذوْدِ عنها، والانتقام من المعتدين ..
لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى *** حتى يُراقَ على جوانبهِ الدمُ!
ولكن بخصوص الحكمة الأخيرة، فإن أحق الناس بتطبيقها وإسالة الدم انتقامًا مما ناله، هو عين الشخص الذي هجاه المتنبي في هذه القصيدة!
هل تعلم أن واحدة من أرجح الروايات التاريخية عن نهاية المتنبي تُرجِع السبب في اغتياله إلى قصيدة هجائية من العيار الثقيل استهدف بها شخصًا يسمى ضُبَّة.. وصف في أول أبياتها أم ضُبَّة بأنها طَرطُبَّة! ولا يحاولنَّ أحد أن يسألني عن ترجمة معناها! المهم أن أخا المذكورة واسمه فاتك الأسدي، ترصَّد وجماعتُهُ للمتنبي في الطريق، فأخذته العزة بأبياتِه في الفخر والشجاعة والخيل والليل، فقاتلهم، فقتلوه. وهكذا كان المتنبي ضحية شعره بشكل مباشرٍ وغير مباشر!
في قصيدة أخرى من مشهورات المتنبي، كان يعاقب فيها كافور مصر الإخشيدي على إهماله له عندما أتاه ناقمًا على سيف الدولة الحمداني.. انقلب كافور في شعر المتنبي من البحر الذي تتصاغر أمامه السواقي، والذي يقصده الناس ويتركون غيره، إلى عبدٍ آبقٍ سيئ الخُلُق والخِلقَة!
ما كُنْتُ أحسبُني أحيا إلى زمنٍ *** يُسيئُ بي فيهِ كلُبٌ وهُوَ محمودُ!
لا تشترِِ العبدَ إلا والعصا معَهُ *** إن العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ!
ولم يشفَ صدر المتنبي بسب كافور فحسب! إنما انتقل إلى مصرَ التي تركت كافور الذي غمِطَهُ قدرَهُ ومنزلتَهُ حاكمًا عليها!
أكلما اغتالَ عبدُ السوءِ سيدَهُ *** أو خانَهُ فلهُ في مصر تمهيدُ ؟!
نامتْ نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبِها *** فقدْ بشِمْنَ وما تفنى العناقيدُ
صارَ الخصيُّ إمامَ الآبقينَ بها *** فالحُرُّ مُستَعْبَدٌ والعبدُ معبودُ!
وبالطبع نال أهلُ مصر نصيبًا موفورًا من عاصفة السباب والتقريع التي أطلقها أبو الطيب..
إني نزلْتُ بكذابينَ ضيفُهُمُ *** عن القِرَى وعن الترحالِ محدودُ
جودُ الرجالِ من الأيدي و جودُهُم *** من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ
ما يقبضُ الموتُ نفسًا من نفوسِهِمُ *** إلا وفي يدِه من نتْنِها عودُ!
رغم هذا القدر من الهجاء الخالي من الإبداع الذي تكتظ به القصيدة، لكنها لم تخلُ من حكمٍ خالداتٍ أيضًا.. ويكفي مطلعُها الذي يحتل المركز الأول في الاستشهاد على الشجون والإحباط في كل عيد ومناسبة حتى زمن "السوشيال ميديا".
عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ *** بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ ؟!
أما الأحبَّةُ فالبيداءُ دونَهُمُ *** فليتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيـــدُ!
ووصفٌ رائعٌ عن مصائب الدهر وإفقادِها للمرء شغف الحياة..
لم يترُكِ الدهرُ من قلبي ولا كبدي *** شيئًا تُتَيِّمُهُ عينٌ ولا جيدُ
يا صاحبيَّ .. أخمرٌ في كؤوسِكُما *** أم في كؤوسِكُما همٌّ وتسهيدُ
أصخرةٌ أنا؟! .. مالي لا تُتّيِّمُني *** هذي المُدامُ ولا هذي الأغاريدُ ؟!
وحتى البيْتَيْن اللذيْن ذكرتهما من هذه القصيدة في هجاء مصر لأنها تتيح لكل مغتصبٍ أن يعتلي عرشَها.. ولأن شعبها دائمًا ما يغفل أو يتغافل عن استئثار لصوصها بخيرها دونه، هما للأسف حكمة تاريخية لا تكاد تنقطع أدلة تمثُّلها في تاريخ مصر وحاضرها. ومستقبلها!
ومازال معين المتنبي لا ينضب..
ما سبق كان إثباتًا سريعًأ من الطريق الصعب لعبقرية المتنبي، وانفراده بعرش الحكمة الشعرية العربية حتى وإن تجاوزه نهر الزمن بأكثر من ألفية كاملة. وهو دليل حي على فشل الأحكام المطلقة الاختزالية على البشر. وتطبيق هذه القاعدة على المبدعين أكثر وجوبًا، وإلا سنلقي بثلاثة أرباع الإبداع البشري إلى الجحيم لبغضنا لمبدعيه، أو لبعض ما نراه لا يليق بهم أو بنا من نتاجهم البشري.
في إحدى أمسياته الشعرية، وأثناء تقديمه لقصيدة له يهجو فيها الصهاينة هجاءً لاذعًا (قصيدة إن سار أهلي فالدهر يتبع)، ذكر تميم البرغوثي في حق أستاذه المتنبي، مقولةً مختصرة، لكن فيها خلاصة منهج المتنبي المسجل باسمه في فن الهجاء الشعري. قال تميم ما معناه أن المتنبي يهجو على قدر احترامه لذهنية المهجو! فإن كان ذا عقلٍ وذائقة أدبية، فإنه يبدعُ له قطعًا من الهجاء الفني، والصور غير المباشرة. أما إذا كان يحتقره، فإنه (يصير يسب!) بنص ما قال تميم!
لكن لأن المتنبي كان ماكينةً بشرية لإبداع الحكمة، فإنه لا يكف عن إطلاق تُحَفِه الشعرية حتى وسطَ موجات السباب! يذكر الرواة أن أحد الأشخاص اعترض طريق المتنبي، وذلك لإجباره أن يمتدحه في قصيدة! فرّ المتنبي منه، لكنه قرر مكافأته بما يستحق وما لا يستحق من أجل ما فعل. فأهداه قصيدة من أقبح الهجائيات في الشعر العربي عرَّض -تصريحًا لا تلميحًا- فيها بنسبه وشرفه وشرف زوجته، ووالديه، ولعل أكثر أبياتها أدبًا في هجاؤه:
ومن البليَّةِ عذلُ من لا يرعوي *** عن غيِّهِ .. وخطابُ من لا يفهَم!
وإذا أشارَ مُحدِّثًا فكأنَّــهُ *** قردٌ يُقَهْقِهُ أو عجوزٌ تلطِــــمُ!
لكن رغم ذلك، لم تخْلُ القصيدة من بعض حكم المتنبي الخالدات التي لا تزال رائجةً إلى يومنا هذا.
ومن العداوة ما يُصيبُكَ نفعُهُ *** ومن الصداقةِ ما يضُرُّ ويُؤلِمُ
والحكمة ذائعة الصيت عن معضلة العلم والجهل، وأيهما أكثر ارتباطًا بالسعادة وراحة البال ..
ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ *** وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعَمُ
وحكمةٌ أخرى بارزة في سجل الشعر العربي، تعتبر من أقوى روائع الكرامة، والذوْدِ عنها، والانتقام من المعتدين ..
لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى *** حتى يُراقَ على جوانبهِ الدمُ!
ولكن بخصوص الحكمة الأخيرة، فإن أحق الناس بتطبيقها وإسالة الدم انتقامًا مما ناله، هو عين الشخص الذي هجاه المتنبي في هذه القصيدة!
هل تعلم أن واحدة من أرجح الروايات التاريخية عن نهاية المتنبي تُرجِع السبب في اغتياله إلى قصيدة هجائية من العيار الثقيل استهدف بها شخصًا يسمى ضُبَّة.. وصف في أول أبياتها أم ضُبَّة بأنها طَرطُبَّة! ولا يحاولنَّ أحد أن يسألني عن ترجمة معناها! المهم أن أخا المذكورة واسمه فاتك الأسدي، ترصَّد وجماعتُهُ للمتنبي في الطريق، فأخذته العزة بأبياتِه في الفخر والشجاعة والخيل والليل، فقاتلهم، فقتلوه. وهكذا كان المتنبي ضحية شعره بشكل مباشرٍ وغير مباشر!
في قصيدة أخرى من مشهورات المتنبي، كان يعاقب فيها كافور مصر الإخشيدي على إهماله له عندما أتاه ناقمًا على سيف الدولة الحمداني.. انقلب كافور في شعر المتنبي من البحر الذي تتصاغر أمامه السواقي، والذي يقصده الناس ويتركون غيره، إلى عبدٍ آبقٍ سيئ الخُلُق والخِلقَة!
ما كُنْتُ أحسبُني أحيا إلى زمنٍ *** يُسيئُ بي فيهِ كلُبٌ وهُوَ محمودُ!
لا تشترِِ العبدَ إلا والعصا معَهُ *** إن العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ!
ولم يشفَ صدر المتنبي بسب كافور فحسب! إنما انتقل إلى مصرَ التي تركت كافور الذي غمِطَهُ قدرَهُ ومنزلتَهُ حاكمًا عليها!
أكلما اغتالَ عبدُ السوءِ سيدَهُ *** أو خانَهُ فلهُ في مصر تمهيدُ ؟!
نامتْ نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبِها *** فقدْ بشِمْنَ وما تفنى العناقيدُ
صارَ الخصيُّ إمامَ الآبقينَ بها *** فالحُرُّ مُستَعْبَدٌ والعبدُ معبودُ!
وبالطبع نال أهلُ مصر نصيبًا موفورًا من عاصفة السباب والتقريع التي أطلقها أبو الطيب..
إني نزلْتُ بكذابينَ ضيفُهُمُ *** عن القِرَى وعن الترحالِ محدودُ
جودُ الرجالِ من الأيدي و جودُهُم *** من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ
ما يقبضُ الموتُ نفسًا من نفوسِهِمُ *** إلا وفي يدِه من نتْنِها عودُ!
رغم هذا القدر من الهجاء الخالي من الإبداع الذي تكتظ به القصيدة، لكنها لم تخلُ من حكمٍ خالداتٍ أيضًا.. ويكفي مطلعُها الذي يحتل المركز الأول في الاستشهاد على الشجون والإحباط في كل عيد ومناسبة حتى زمن "السوشيال ميديا".
عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ *** بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ ؟!
أما الأحبَّةُ فالبيداءُ دونَهُمُ *** فليتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيـــدُ!
ووصفٌ رائعٌ عن مصائب الدهر وإفقادِها للمرء شغف الحياة..
لم يترُكِ الدهرُ من قلبي ولا كبدي *** شيئًا تُتَيِّمُهُ عينٌ ولا جيدُ
يا صاحبيَّ .. أخمرٌ في كؤوسِكُما *** أم في كؤوسِكُما همٌّ وتسهيدُ
أصخرةٌ أنا؟! .. مالي لا تُتّيِّمُني *** هذي المُدامُ ولا هذي الأغاريدُ ؟!
وحتى البيْتَيْن اللذيْن ذكرتهما من هذه القصيدة في هجاء مصر لأنها تتيح لكل مغتصبٍ أن يعتلي عرشَها.. ولأن شعبها دائمًا ما يغفل أو يتغافل عن استئثار لصوصها بخيرها دونه، هما للأسف حكمة تاريخية لا تكاد تنقطع أدلة تمثُّلها في تاريخ مصر وحاضرها. ومستقبلها!
ومازال معين المتنبي لا ينضب..
ما سبق كان إثباتًا سريعًأ من الطريق الصعب لعبقرية المتنبي، وانفراده بعرش الحكمة الشعرية العربية حتى وإن تجاوزه نهر الزمن بأكثر من ألفية كاملة. وهو دليل حي على فشل الأحكام المطلقة الاختزالية على البشر. وتطبيق هذه القاعدة على المبدعين أكثر وجوبًا، وإلا سنلقي بثلاثة أرباع الإبداع البشري إلى الجحيم لبغضنا لمبدعيه، أو لبعض ما نراه لا يليق بهم أو بنا من نتاجهم البشري.