):-
إن هذا النمط من أنماط القافية هو امتداد للموروث التقفوي في القصيدة العربية التقليدية التي ترتكز فيها على قافية واحدة من بداية القصيدة حتى نهايتها، وقد تكون المرحلة الأولى التي ولدت فيها القصيدة الحرة من أكثر المراحل استئثاراً بهذا الاستخدام، وذلك لأن الروح التراثية الفنية مازالت هي المهيمنة، كما أن روح التمرد والانفلات من قيود الشكل مازالت في بدايتها.
وتتسم هذه القافية ببساطتها لأنها تقوم على قافية واحدة لا تتغير، أي أن بناءها يرتكز على قاعدة بسيطة خالية من التركيب والتعقيد، وهي لذلك لا تحتفظ إلا بجمالياتها التقليدية المعروفة التي تستقل في جزء كبير في وحدة الإيقاع والنغم.
ويمكن تمييز ثلاثة أنواع منها حسب طبيعة البنية الهيكلية للقصيدة وهي:
1-1- التقفية السطرية:-
لعل من أولى النتائج الفنية التركيبية التي تمخضت عنها ثورة الشعر العربي الحديث هي ظهور مصطلحات جديدة تتلاءم مع طبيعة التغير الحاصل في بنية القصيدة، فتحطم الشكل الشعري القائم على نظام الصدر والعجز) أدى إلى إبعاد الكثير من المصطلحات التي كانت تحكم دراسة هذه القصيدة، واستدعت الضرورة إيجاد مصطلحات إجرائية بديلة وجديدة تصلح لمواجهة حداثة القصيدة على مستوى بنيتها التركيبية، وتعمل بوصفها أدوات نقدية للفحص والتحليل والكشف.
وكان من أولى هذه المصطلحات هو "السطر الشعري" الذي يعد بديلاً إجرائياً لـ"البيت الشعري". وفي الوقت الذي كان فيه البيت الشعري بنية صغيرة تنطوي على قدر كبير من الوحدة الموسيقية والدلالية داخل الهيكل العام للقصيدة، فإن السطر الشعري لا يعد سوى بنية جزئية لا تحمل قدرا كبيراً من الاستقلالية لأنها تستند استناداً جدلياً إلى كل البنى الأخرى التي تشكل بمجموعها هيكل القصيدة العام.
والتقفية التي يعتمدها السطر الشعري هي من أبسط أنواع التقفية البسيطة الموحدة، إذ إنها تنهض على أساس تكرار قافية موحدة في كل سطر شعري، قد تتعاقب تعاقباً لا انقطاع فيه، وقد تنقطع بين الحين والآخر لكنها في كل الأحوال تعتمد السطر أساساً لها.
وغالباً ما تكون الأسباب الغنائية والتطريبية والإيقاعية الصرف هي من أكثر دواعي استخدام هذا النوع من التقفية، مما يسبب إهمالاً في الجانب الدلالي الذي يجعل منها قافية "فقيرة" لأنها لا تحقق موازنة بين القيمة الإيقاعية والقيمة الدلالية في التقفية.
ففي قصيدة "انتظار" للشاعر عبد الوهاب البياتي تتلاحق التقفيات تلاحقاً متسارعاً، لتفرض نمطاً من الإيقاع المتكرر الذي ينطوي على رتابة واضحة:-
صلي لأجلي
عبر أسوار
وطني الحزين، الجائع، العاري
وعلى رصيف المرفأ انتظري
-يا كوكبي الساري
وحديث سماري
قلبي مياه البحر تحمله
تفاحة حمرا.. كتذكار
وعبير آذاري
ورفاق أسفاري
يتلمسون طريق عودتهم
ورسائلي وأبي وأزهاري
وكلبنا الضاري
يعوي، وعينا شيخ حارتنا
مصلوبتان على لظى النار
وشجيرة الليمون يسرقها
مهما تعالت، صبية الجار
.. وكقبرات الصبح، هائمة
والموت والثار
تعلو وتعلو عبر أسوار
وطني الحزين الجائع العاري
وأنا وأطماري
في غربة الدار
وحدي بلا حب وتذكار(1)
القافية هنا مؤلفة من ثلاثة أصوات على التوالي الألف الممدودة، الراء، الياء) ويأتي صوت الياء على شكلين، الأول هو الياء الكاملة التي تأتي في خاتمة قسمين من الأسماء، الصفات العاري- الساري- الضاري- العاري)، وأسماء تضاف إلى الياء سماري- أسفاري- أزهاري- أفكاري- أطماري).
أما الشكل الثاني من أشكال صوت الياء فهو الإشباع الكسري أسوار- تذكار- آذار- النار- الجار- الثار- أسوار- الدار- تذكار).
وعلى الرغم من تنوع صيغ حرف الروي "الراء" الواردة في القصيدة، إلا أن النتيجة الإيقاعية لا تختلف كثيرا، وإذا أضفنا إلى ذلك تكرار بعض القوافي العاري- أسوار- تذكار) فإننا سندرك تماماً حجم الرتابة التي تسيطر على إيقاع هذه التقفية.
لقد حاول الشاعر التلاعب بالنظام التقفوي "السطري" للقصيدة من خلال تقسيم بعض السطور الشعرية على سطرين، فبدت بعض السطور الشعرية وكأنها خالية من التقفية. غير أن نظرة فاحصة تكشف عن هذه اللعبة مثل صلي لأجلي عبر أسوار: قلبي مياه البحر تحمله، تفاحة حمرا.. كتذكار/ وشجيرة الليمون يسرقها مهما تعالت، صبيبة الجار / وكقبرات الصبح هائمة والموت والثار.. الخ).
فالسطر الشعري هنا لا يحدده رسم الشاعر لنظام كلمات القصيدة إنما يحدده واقع هذا السطر الذي يجتهد الشاعر أحياناً في جعله سطرا واحدا أو سطرين وأحياناً أكثر من ذلك، لكنه في كل الأحوال سطر شعري واحد من حيث بنية السطر وصيغته العامة.
ومن خلال استقراء دلالي متأمل لهذه القصيدة يمكننا التعرف على انحياز التقفية للجانب الإيقاعي على حساب الجانب الدلالي الذي جاء ضعيفاً في معظم التقفيات، فضلاً عن أن تقفيات أخرى جاءت زائدة ولا تضيف شيئاً في هذا الجانب من مثل العاري -كتذكار- أزهاري) وغيرها.
وفي قصيدة "الضعف" للشاعر محمد مفتاح الفيتوري تتوالى في كل السطور الشعرية المؤلفة للقصيدة قافية مقيدة مكونة من صوت "العين المفتوحة" و"الكاف الساكنة":-
ما بيدي أن أرفعك
ولا بها أن أضعك
أنت أليم ..
وأنا أحمل آلامي معك
وجائع..
ومهجتي جوعها من جوعك
وأنت عار
وأنا.. ها أنذا عار معك
يا شعبي التائه
ما أضيعني، وأضيعك
ما أضيع الثدي الذي أرضعني..
وأرضعك
يا ليت جرعني سمومه
وجرعك
فما احتقرت أدمعي
ولا احتضنت أدمعك
ولا انكفأت فوق قبر اليأس
أبكي مصرعك
أيتها الجميزة العجوز
من ذا زرعك
يا غرسة الخمول
لا بورك حقل أطلعك
هيهات أن يكون مبدع النجوم مبدعك
أما سئمت تحت أقدام الدجى مضطجعك
فقمت في نهر الطموح
تغسلين أذرعك
كم جنح الريح بواديك
فهلا اقتلعك
وانتهض الفجر حواليك
فهلا صرعك
ففكرة الحياة
أن تبدعني أو أبدعك
وفكرة الفناء
أن تصرعني أو أصرعك
يا ليتني عاصفة، قاصفة
كي أسمعك (2)
تتنوع القافية في صيغتها اللغوية بين الفعل المضارع المسند إلى كاف المخاطب ارفعك - أضعك - أبدعك- أصرعك - أسمعك)، والماضي المسند إلى كاف المخاطب جوعك- أرضعك - زرعك.. الخ)، الظرف المقترن بكاف المخاطب معك)، والاسم المسند إلى كاف المخاطب أيضاً مصرعك - مبدعك- مضطجعك).
ويمارس الشاعر الطريقة نفسها في تحويل السطر الشعري الواحد إلى سطرين في الرسم الكتابي من مثل أنت أليم وأنا أحمل آلامي معك/ وأنت عار وأنا ها أنذا عار معك/ أيتها الجميزة العجوز من ذا زرعك.. الخ).
القافية هنا بتواليها المستمر المتلاحق لا بد أنها تشيع شيئاً من الملل عند المتلقي، غير أن الشاعر اعتمد موازنة لغوية معينة مع القافية ولد فيها نوعاً من الطرافة التي تبعد بعضاً من الملل الذي يتسرب من توالي قافية واحدة تتكرر عشرين مرة في عشرين سطراً، ومن هذه الموازنات اللغوية جوعها- جوعك/ أضيعني - اضيعك/ ارضعني - أرضعك).
أما قصيدة مثل "خائف من المطر" للشاعر محمود درويش فإنها لا تكتفي بالتقفية السطرية الموحدة، إنما تقدم قافية واحدة هي "القمر" تتكرر أربع مرات في سطور شعرية:
خبئيني أتى المطر
ليت مرآتنا حجرا
الف سر سرى
وصدرك عار
وعيون على الشجر
لا تغطي كواكبا
ترشح الملح والخدر
خبئيني.. من القمر
وجه أمسي مسافر
ويدانا على سفر
منزلي كان خندقا
لا أراجيح للقمر..
خبئيني.. بوحدتي
وخذي المجد.. والسهر
ودعي لي مخدتي
أنت عندي
أم القمر؟!(3)
إن هذا التكرار لتقفية واحدة يسهم بدرجة أعلى في تسرب الرتابة إلى القصيدة التي اعتمدت على قافية مقيدة تنتهي بـ "راء ساكنة" يسبقها صوت مد قصير مفتوح، وتقوم في تركيبها اللغوي على الأسماء فقط القمر - حجر- الشجر- خدر- سفر- السهر)، ويلعب الشاعر اللعبة نفسها في تقسيم السطر الشعري الواحد على قسمين مرة لا تغطي كواكباً ترشح الملح والخدر)، ومرة أخرى على ثلاثة أقسام ألف سر سرى وصدرك عار وعيون على الشجر) وغالباً ما تستخدم "الواو العاطفة" للفصل بين أجزاء السطر الشعري الواحد.
وتبلغ الرتابة أعلى مستوى لها في هذا النوع من التقفية عند الشاعر أمل دنقل في قصيدته "العينان الخضروان"، إذ لا يكتفي بتقفية السطور الشعرية بقافية موحدة إنما يقفي أجزاء السطر الشعري مما يجعل من القصيدة تقفوية محض:-
العينان الخضراوان
مروحتان
في أروقة الصيف الحران
أغنيتان مسافرتان
أبحرتا في نايات الرعيان
بعبير حنان
بعزاء من آلهة النور إلى مدن الأحزان
سنتان
وأناأبني زورق حب
يمتد عليه من الشوق شراعان
كي أبحر في العينين الصافيتين
إلى جزر المرجان
ما أحلى أن يضرب الموج فينسدل الجفنان
وأنا أبحث عن مجذاف
عن إيمان!
في صمت "الكاتدرائيات" الوسنان
صور "للعذراء" المسبلة الأجفان
يا من أرضعت الحب صلاة الغفران
وتمطى في عينيك المسبلتين
شباب الحرمان
ردي جفنك
لأبصر في عينيك الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبتي؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن الحب
عن ذكرى
عن نسيان!
قلبي حران، حران
والعينان الخضراوان
مروحتان!(4)
فالسطور الشعرية الثلاثة الأولى العينان الخضراوان مروحتان /في أروقة الصيف الحران أغنيتان مسافرتان /أبحرتا في نايات الرعيان بغير حنان)، أصبحت في الرسم الكتابي للقصيدة ستة سطور، بمعنى أن كل سطر شعري قسمه الشاعر على قسمين، وقفى السطور وأجزاءها بقافية مقيدة مكونة من صوت "النون الساكنة" المسبوقة بصوت مد طويل مفتوح.
ولا يكتفي بذلك بل يكرر التقفية نفسها في سطر لا يتألف سوى من ثلاث كلمات قلبي حران، حران)، مما يعطي هيمنة كاملة للبعد الإيقاعي ويغيب إلى درجة كبيرة البعد الدلالي.
ويجزئ الشاعر سامي مهدي في قصيدته "المدن" السطور الشعرية مستخدما قافية مفتوحة:
كل يوم أراها
وأرى غيرها تشرئب
وتتبعها أخريات سواها
كل يوم أراها
مدن تتأسس في كل متسع
نحن تاريخها، وهوانا هواها(5)
تتكون القافية من صوتي مد طويلين بينهما "ها" أراها - سواها - هواها)، وتبدو تقفية "سواها" في السطر الشعري الثاني وأرى غيرها تشرئب وتتبعها أخريات سواها) زائدة لأن معنى "سواها" متحقق تماماً في "تتبعها أخريات" غير أن مجيئها كان لضرورة تقفوية محض.
إن انطلاقة القافية هنا بحضور صوتي مد مفتوحين يعطيها مدى يبعد عنها شيئاً من الرتابة. إن هذه النماذج المختارة من ديوان الشعر العربي الحديث إنما تكشف عن ضرورة النظر إلى وظائف القافية وقدرتها على الإسهام في تأسيس شبكة النص الشعري على نحو فاعل فتقفية السطر الشعري كما شاهدنا هي في المقام الأول استمرار للقافية الخارجية الموحدة في القصيدة ذات الشطرين، وهي قيد يحد من تطور حيوات القصيدة، لذلك فإن هذا الأسلوب التقفوي يقل كثيراً مع تطور التجربة الشعرية الحديثة حتى يكاد ينعدم في المرحلة الراهنة.
1-2-تقفية الجملة الشعرية:-
تعد الجملة الشعرية واحداً من المصطلحات الفنية الحديثة التي قدمتها حركة الشعر الحديث. واستطاع هذا المصطلح بفعل دقته ووضوحه أن يتكرس ويكتسب قوة حضورية مهمة في عملية المعالجة النقدية التي تتخذ من الشعر مجالاً لعملها، كما استطاع أن يستقر خارج دائرة الغموض واللبس والضبابية.
والجملة الشعرية في دلالتها المصطلحية بنية مكتفية بذاتها، وقد تتكون من سطر أو مجموعة سطور شعرية، واستقلاليتها ليست استقلالية دلالية بل استقلالية موسيقية، إذ إنها تعتمد على الدفقة الشعورية التي تتناسب في طول موجتها من الموقف النفسي والعاطفي والفكري للتجربة الشعرية من جهة، ومع طول النفس عند الشاعر من جهة أخرى. لذلك فقد تكون الجملة الشعرية طويلة وقد تكون قصيرة، وتخضع هذه الجملة من حيث بنيتها الموسيقية إلى نمطين من البناء الموسيقي، النمط الأول هو النمط التدويري الذي تنتهي فيه الجملة الشعرية بتفعيلة من جديد دون وجود فضلة موسيقية، والنمط الثاني هو الذي ينتهي نهاية مفتوحة بفضلة موسيقية تشكل نصف أو أي جزء من أجزاء التفعيلة، لا تضاف إلى البنية الموسيقية للجملة الشعرية اللاحقة لأنها ترتبط شعورياً وفكرياً بالجملة فلا يحصل عندئذ التدوير، ولكل من النمطين قوانينه النفسية والعاطفية التي يعتمدها تكوين الشاعر وخصائصه الذاتية.
وتؤدي "القافية دوراً مهماً في تحديد الجملة الشعرية وتشكيل موسيقاها، فغالباً ما تشكل التقفية نهايات الجمل الشعرية"(6) .
وهذا النوع من التقفية المنتمي إلى نمط القافية البسيطة الموحدة)، والذي يقوم على قافية واحدة تنتظم كل الجمل الشعرية المؤلفة للقصيدة هو أكثر فنية وأبعد تأثيراً من سابقه "التقفية السطرية" وذلك بسبب قلة التقفيات المستخدمة قياساً إلى تقفية السطر، مما يقلل من الملل الذي يمكن أن يحدثه الضغط المتواصل على قافية واحدة من بداية القصيدة حتى نهايتها وبتكرار متتال لا يتوقف وبدون فواصل معقولة، إلا أنها من حيث التقفية الفنية لا تكاد تختلف عنها كثيراً فكلاهما يعتمد النظام التقفوي نفسه.
ففي قصيدة "حلم" للشاعر بلند الحيدري مثلاً يقوم نظام التقفية على أساس تكرار قافية موحدة في نهاية كل جملة شعرية:
أنت يا من تحملين الآن
ماذا تحملين......؟
بالدروب الزرق
بالغابة
بالموت مع الكون الذي لا تفهمين
ولعلي الآن شيء
غابة
أو ذلك الدرب
أو الموت الذي لا تفهمين
ولعلي
قبضة تخنقك الآن
وعين لا تلين
أو شتاء قارس يندس في قلبك من حين
لحين
ثم ماذا..؟
أنت يا من تحملين الآن
ماذا تحملين..؟
وغداً إذ تدركين الفجر
ماذا تدركين..؟
كنت حلماً والليل بلا معنى كأيام سجين
وتلاشيت مع الدرب
مع الغابة
والموت الذي لا تفهمين(7)
إذ تتألف القصيدة من تسع جمل شعرية تنتهي ثلاث منها بتقفية واحدة "تحملين"، واثنان منها بتقفية أخرى "لا تفهمين"، وتتنوع التقفيات الأربع المتبقيات على النحو الآتي "لا تلين- لحين- تدركين- سجين". بمعنى أن أكثر من نصف التقفيات لا يخضع للتنوع مما يقلل من جدة التقفية وطرافتها.
إلا أن تباعد التقفيات بفعل طول الجمل الشعرية قياساً إلى السطور يقلل بعض الشيء من رتابتها، إذ إن جملة شعرية واحدة فقط جاءت بسطر واحد، وجاءت ثلاث جمل بسطرين وثلاث أخرى بثلاثة أسطر، وواحدة بأربعة أسطر. وهذا التنوع في التكوينات السطرية للجمل الشعرية إنما يعمل على اختلاف مديات حضور التقفية مما يجعلها أكثر قبولاً من التتالي المستمر بلا فواصل.
إن هذا النمط من أنماط القافية هو امتداد للموروث التقفوي في القصيدة العربية التقليدية التي ترتكز فيها على قافية واحدة من بداية القصيدة حتى نهايتها، وقد تكون المرحلة الأولى التي ولدت فيها القصيدة الحرة من أكثر المراحل استئثاراً بهذا الاستخدام، وذلك لأن الروح التراثية الفنية مازالت هي المهيمنة، كما أن روح التمرد والانفلات من قيود الشكل مازالت في بدايتها.
وتتسم هذه القافية ببساطتها لأنها تقوم على قافية واحدة لا تتغير، أي أن بناءها يرتكز على قاعدة بسيطة خالية من التركيب والتعقيد، وهي لذلك لا تحتفظ إلا بجمالياتها التقليدية المعروفة التي تستقل في جزء كبير في وحدة الإيقاع والنغم.
ويمكن تمييز ثلاثة أنواع منها حسب طبيعة البنية الهيكلية للقصيدة وهي:
1-1- التقفية السطرية:-
لعل من أولى النتائج الفنية التركيبية التي تمخضت عنها ثورة الشعر العربي الحديث هي ظهور مصطلحات جديدة تتلاءم مع طبيعة التغير الحاصل في بنية القصيدة، فتحطم الشكل الشعري القائم على نظام الصدر والعجز) أدى إلى إبعاد الكثير من المصطلحات التي كانت تحكم دراسة هذه القصيدة، واستدعت الضرورة إيجاد مصطلحات إجرائية بديلة وجديدة تصلح لمواجهة حداثة القصيدة على مستوى بنيتها التركيبية، وتعمل بوصفها أدوات نقدية للفحص والتحليل والكشف.
وكان من أولى هذه المصطلحات هو "السطر الشعري" الذي يعد بديلاً إجرائياً لـ"البيت الشعري". وفي الوقت الذي كان فيه البيت الشعري بنية صغيرة تنطوي على قدر كبير من الوحدة الموسيقية والدلالية داخل الهيكل العام للقصيدة، فإن السطر الشعري لا يعد سوى بنية جزئية لا تحمل قدرا كبيراً من الاستقلالية لأنها تستند استناداً جدلياً إلى كل البنى الأخرى التي تشكل بمجموعها هيكل القصيدة العام.
والتقفية التي يعتمدها السطر الشعري هي من أبسط أنواع التقفية البسيطة الموحدة، إذ إنها تنهض على أساس تكرار قافية موحدة في كل سطر شعري، قد تتعاقب تعاقباً لا انقطاع فيه، وقد تنقطع بين الحين والآخر لكنها في كل الأحوال تعتمد السطر أساساً لها.
وغالباً ما تكون الأسباب الغنائية والتطريبية والإيقاعية الصرف هي من أكثر دواعي استخدام هذا النوع من التقفية، مما يسبب إهمالاً في الجانب الدلالي الذي يجعل منها قافية "فقيرة" لأنها لا تحقق موازنة بين القيمة الإيقاعية والقيمة الدلالية في التقفية.
ففي قصيدة "انتظار" للشاعر عبد الوهاب البياتي تتلاحق التقفيات تلاحقاً متسارعاً، لتفرض نمطاً من الإيقاع المتكرر الذي ينطوي على رتابة واضحة:-
صلي لأجلي
عبر أسوار
وطني الحزين، الجائع، العاري
وعلى رصيف المرفأ انتظري
-يا كوكبي الساري
وحديث سماري
قلبي مياه البحر تحمله
تفاحة حمرا.. كتذكار
وعبير آذاري
ورفاق أسفاري
يتلمسون طريق عودتهم
ورسائلي وأبي وأزهاري
وكلبنا الضاري
يعوي، وعينا شيخ حارتنا
مصلوبتان على لظى النار
وشجيرة الليمون يسرقها
مهما تعالت، صبية الجار
.. وكقبرات الصبح، هائمة
والموت والثار
تعلو وتعلو عبر أسوار
وطني الحزين الجائع العاري
وأنا وأطماري
في غربة الدار
وحدي بلا حب وتذكار(1)
القافية هنا مؤلفة من ثلاثة أصوات على التوالي الألف الممدودة، الراء، الياء) ويأتي صوت الياء على شكلين، الأول هو الياء الكاملة التي تأتي في خاتمة قسمين من الأسماء، الصفات العاري- الساري- الضاري- العاري)، وأسماء تضاف إلى الياء سماري- أسفاري- أزهاري- أفكاري- أطماري).
أما الشكل الثاني من أشكال صوت الياء فهو الإشباع الكسري أسوار- تذكار- آذار- النار- الجار- الثار- أسوار- الدار- تذكار).
وعلى الرغم من تنوع صيغ حرف الروي "الراء" الواردة في القصيدة، إلا أن النتيجة الإيقاعية لا تختلف كثيرا، وإذا أضفنا إلى ذلك تكرار بعض القوافي العاري- أسوار- تذكار) فإننا سندرك تماماً حجم الرتابة التي تسيطر على إيقاع هذه التقفية.
لقد حاول الشاعر التلاعب بالنظام التقفوي "السطري" للقصيدة من خلال تقسيم بعض السطور الشعرية على سطرين، فبدت بعض السطور الشعرية وكأنها خالية من التقفية. غير أن نظرة فاحصة تكشف عن هذه اللعبة مثل صلي لأجلي عبر أسوار: قلبي مياه البحر تحمله، تفاحة حمرا.. كتذكار/ وشجيرة الليمون يسرقها مهما تعالت، صبيبة الجار / وكقبرات الصبح هائمة والموت والثار.. الخ).
فالسطر الشعري هنا لا يحدده رسم الشاعر لنظام كلمات القصيدة إنما يحدده واقع هذا السطر الذي يجتهد الشاعر أحياناً في جعله سطرا واحدا أو سطرين وأحياناً أكثر من ذلك، لكنه في كل الأحوال سطر شعري واحد من حيث بنية السطر وصيغته العامة.
ومن خلال استقراء دلالي متأمل لهذه القصيدة يمكننا التعرف على انحياز التقفية للجانب الإيقاعي على حساب الجانب الدلالي الذي جاء ضعيفاً في معظم التقفيات، فضلاً عن أن تقفيات أخرى جاءت زائدة ولا تضيف شيئاً في هذا الجانب من مثل العاري -كتذكار- أزهاري) وغيرها.
وفي قصيدة "الضعف" للشاعر محمد مفتاح الفيتوري تتوالى في كل السطور الشعرية المؤلفة للقصيدة قافية مقيدة مكونة من صوت "العين المفتوحة" و"الكاف الساكنة":-
ما بيدي أن أرفعك
ولا بها أن أضعك
أنت أليم ..
وأنا أحمل آلامي معك
وجائع..
ومهجتي جوعها من جوعك
وأنت عار
وأنا.. ها أنذا عار معك
يا شعبي التائه
ما أضيعني، وأضيعك
ما أضيع الثدي الذي أرضعني..
وأرضعك
يا ليت جرعني سمومه
وجرعك
فما احتقرت أدمعي
ولا احتضنت أدمعك
ولا انكفأت فوق قبر اليأس
أبكي مصرعك
أيتها الجميزة العجوز
من ذا زرعك
يا غرسة الخمول
لا بورك حقل أطلعك
هيهات أن يكون مبدع النجوم مبدعك
أما سئمت تحت أقدام الدجى مضطجعك
فقمت في نهر الطموح
تغسلين أذرعك
كم جنح الريح بواديك
فهلا اقتلعك
وانتهض الفجر حواليك
فهلا صرعك
ففكرة الحياة
أن تبدعني أو أبدعك
وفكرة الفناء
أن تصرعني أو أصرعك
يا ليتني عاصفة، قاصفة
كي أسمعك (2)
تتنوع القافية في صيغتها اللغوية بين الفعل المضارع المسند إلى كاف المخاطب ارفعك - أضعك - أبدعك- أصرعك - أسمعك)، والماضي المسند إلى كاف المخاطب جوعك- أرضعك - زرعك.. الخ)، الظرف المقترن بكاف المخاطب معك)، والاسم المسند إلى كاف المخاطب أيضاً مصرعك - مبدعك- مضطجعك).
ويمارس الشاعر الطريقة نفسها في تحويل السطر الشعري الواحد إلى سطرين في الرسم الكتابي من مثل أنت أليم وأنا أحمل آلامي معك/ وأنت عار وأنا ها أنذا عار معك/ أيتها الجميزة العجوز من ذا زرعك.. الخ).
القافية هنا بتواليها المستمر المتلاحق لا بد أنها تشيع شيئاً من الملل عند المتلقي، غير أن الشاعر اعتمد موازنة لغوية معينة مع القافية ولد فيها نوعاً من الطرافة التي تبعد بعضاً من الملل الذي يتسرب من توالي قافية واحدة تتكرر عشرين مرة في عشرين سطراً، ومن هذه الموازنات اللغوية جوعها- جوعك/ أضيعني - اضيعك/ ارضعني - أرضعك).
أما قصيدة مثل "خائف من المطر" للشاعر محمود درويش فإنها لا تكتفي بالتقفية السطرية الموحدة، إنما تقدم قافية واحدة هي "القمر" تتكرر أربع مرات في سطور شعرية:
خبئيني أتى المطر
ليت مرآتنا حجرا
الف سر سرى
وصدرك عار
وعيون على الشجر
لا تغطي كواكبا
ترشح الملح والخدر
خبئيني.. من القمر
وجه أمسي مسافر
ويدانا على سفر
منزلي كان خندقا
لا أراجيح للقمر..
خبئيني.. بوحدتي
وخذي المجد.. والسهر
ودعي لي مخدتي
أنت عندي
أم القمر؟!(3)
إن هذا التكرار لتقفية واحدة يسهم بدرجة أعلى في تسرب الرتابة إلى القصيدة التي اعتمدت على قافية مقيدة تنتهي بـ "راء ساكنة" يسبقها صوت مد قصير مفتوح، وتقوم في تركيبها اللغوي على الأسماء فقط القمر - حجر- الشجر- خدر- سفر- السهر)، ويلعب الشاعر اللعبة نفسها في تقسيم السطر الشعري الواحد على قسمين مرة لا تغطي كواكباً ترشح الملح والخدر)، ومرة أخرى على ثلاثة أقسام ألف سر سرى وصدرك عار وعيون على الشجر) وغالباً ما تستخدم "الواو العاطفة" للفصل بين أجزاء السطر الشعري الواحد.
وتبلغ الرتابة أعلى مستوى لها في هذا النوع من التقفية عند الشاعر أمل دنقل في قصيدته "العينان الخضروان"، إذ لا يكتفي بتقفية السطور الشعرية بقافية موحدة إنما يقفي أجزاء السطر الشعري مما يجعل من القصيدة تقفوية محض:-
العينان الخضراوان
مروحتان
في أروقة الصيف الحران
أغنيتان مسافرتان
أبحرتا في نايات الرعيان
بعبير حنان
بعزاء من آلهة النور إلى مدن الأحزان
سنتان
وأناأبني زورق حب
يمتد عليه من الشوق شراعان
كي أبحر في العينين الصافيتين
إلى جزر المرجان
ما أحلى أن يضرب الموج فينسدل الجفنان
وأنا أبحث عن مجذاف
عن إيمان!
في صمت "الكاتدرائيات" الوسنان
صور "للعذراء" المسبلة الأجفان
يا من أرضعت الحب صلاة الغفران
وتمطى في عينيك المسبلتين
شباب الحرمان
ردي جفنك
لأبصر في عينيك الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبتي؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن الحب
عن ذكرى
عن نسيان!
قلبي حران، حران
والعينان الخضراوان
مروحتان!(4)
فالسطور الشعرية الثلاثة الأولى العينان الخضراوان مروحتان /في أروقة الصيف الحران أغنيتان مسافرتان /أبحرتا في نايات الرعيان بغير حنان)، أصبحت في الرسم الكتابي للقصيدة ستة سطور، بمعنى أن كل سطر شعري قسمه الشاعر على قسمين، وقفى السطور وأجزاءها بقافية مقيدة مكونة من صوت "النون الساكنة" المسبوقة بصوت مد طويل مفتوح.
ولا يكتفي بذلك بل يكرر التقفية نفسها في سطر لا يتألف سوى من ثلاث كلمات قلبي حران، حران)، مما يعطي هيمنة كاملة للبعد الإيقاعي ويغيب إلى درجة كبيرة البعد الدلالي.
ويجزئ الشاعر سامي مهدي في قصيدته "المدن" السطور الشعرية مستخدما قافية مفتوحة:
كل يوم أراها
وأرى غيرها تشرئب
وتتبعها أخريات سواها
كل يوم أراها
مدن تتأسس في كل متسع
نحن تاريخها، وهوانا هواها(5)
تتكون القافية من صوتي مد طويلين بينهما "ها" أراها - سواها - هواها)، وتبدو تقفية "سواها" في السطر الشعري الثاني وأرى غيرها تشرئب وتتبعها أخريات سواها) زائدة لأن معنى "سواها" متحقق تماماً في "تتبعها أخريات" غير أن مجيئها كان لضرورة تقفوية محض.
إن انطلاقة القافية هنا بحضور صوتي مد مفتوحين يعطيها مدى يبعد عنها شيئاً من الرتابة. إن هذه النماذج المختارة من ديوان الشعر العربي الحديث إنما تكشف عن ضرورة النظر إلى وظائف القافية وقدرتها على الإسهام في تأسيس شبكة النص الشعري على نحو فاعل فتقفية السطر الشعري كما شاهدنا هي في المقام الأول استمرار للقافية الخارجية الموحدة في القصيدة ذات الشطرين، وهي قيد يحد من تطور حيوات القصيدة، لذلك فإن هذا الأسلوب التقفوي يقل كثيراً مع تطور التجربة الشعرية الحديثة حتى يكاد ينعدم في المرحلة الراهنة.
1-2-تقفية الجملة الشعرية:-
تعد الجملة الشعرية واحداً من المصطلحات الفنية الحديثة التي قدمتها حركة الشعر الحديث. واستطاع هذا المصطلح بفعل دقته ووضوحه أن يتكرس ويكتسب قوة حضورية مهمة في عملية المعالجة النقدية التي تتخذ من الشعر مجالاً لعملها، كما استطاع أن يستقر خارج دائرة الغموض واللبس والضبابية.
والجملة الشعرية في دلالتها المصطلحية بنية مكتفية بذاتها، وقد تتكون من سطر أو مجموعة سطور شعرية، واستقلاليتها ليست استقلالية دلالية بل استقلالية موسيقية، إذ إنها تعتمد على الدفقة الشعورية التي تتناسب في طول موجتها من الموقف النفسي والعاطفي والفكري للتجربة الشعرية من جهة، ومع طول النفس عند الشاعر من جهة أخرى. لذلك فقد تكون الجملة الشعرية طويلة وقد تكون قصيرة، وتخضع هذه الجملة من حيث بنيتها الموسيقية إلى نمطين من البناء الموسيقي، النمط الأول هو النمط التدويري الذي تنتهي فيه الجملة الشعرية بتفعيلة من جديد دون وجود فضلة موسيقية، والنمط الثاني هو الذي ينتهي نهاية مفتوحة بفضلة موسيقية تشكل نصف أو أي جزء من أجزاء التفعيلة، لا تضاف إلى البنية الموسيقية للجملة الشعرية اللاحقة لأنها ترتبط شعورياً وفكرياً بالجملة فلا يحصل عندئذ التدوير، ولكل من النمطين قوانينه النفسية والعاطفية التي يعتمدها تكوين الشاعر وخصائصه الذاتية.
وتؤدي "القافية دوراً مهماً في تحديد الجملة الشعرية وتشكيل موسيقاها، فغالباً ما تشكل التقفية نهايات الجمل الشعرية"(6) .
وهذا النوع من التقفية المنتمي إلى نمط القافية البسيطة الموحدة)، والذي يقوم على قافية واحدة تنتظم كل الجمل الشعرية المؤلفة للقصيدة هو أكثر فنية وأبعد تأثيراً من سابقه "التقفية السطرية" وذلك بسبب قلة التقفيات المستخدمة قياساً إلى تقفية السطر، مما يقلل من الملل الذي يمكن أن يحدثه الضغط المتواصل على قافية واحدة من بداية القصيدة حتى نهايتها وبتكرار متتال لا يتوقف وبدون فواصل معقولة، إلا أنها من حيث التقفية الفنية لا تكاد تختلف عنها كثيراً فكلاهما يعتمد النظام التقفوي نفسه.
ففي قصيدة "حلم" للشاعر بلند الحيدري مثلاً يقوم نظام التقفية على أساس تكرار قافية موحدة في نهاية كل جملة شعرية:
أنت يا من تحملين الآن
ماذا تحملين......؟
بالدروب الزرق
بالغابة
بالموت مع الكون الذي لا تفهمين
ولعلي الآن شيء
غابة
أو ذلك الدرب
أو الموت الذي لا تفهمين
ولعلي
قبضة تخنقك الآن
وعين لا تلين
أو شتاء قارس يندس في قلبك من حين
لحين
ثم ماذا..؟
أنت يا من تحملين الآن
ماذا تحملين..؟
وغداً إذ تدركين الفجر
ماذا تدركين..؟
كنت حلماً والليل بلا معنى كأيام سجين
وتلاشيت مع الدرب
مع الغابة
والموت الذي لا تفهمين(7)
إذ تتألف القصيدة من تسع جمل شعرية تنتهي ثلاث منها بتقفية واحدة "تحملين"، واثنان منها بتقفية أخرى "لا تفهمين"، وتتنوع التقفيات الأربع المتبقيات على النحو الآتي "لا تلين- لحين- تدركين- سجين". بمعنى أن أكثر من نصف التقفيات لا يخضع للتنوع مما يقلل من جدة التقفية وطرافتها.
إلا أن تباعد التقفيات بفعل طول الجمل الشعرية قياساً إلى السطور يقلل بعض الشيء من رتابتها، إذ إن جملة شعرية واحدة فقط جاءت بسطر واحد، وجاءت ثلاث جمل بسطرين وثلاث أخرى بثلاثة أسطر، وواحدة بأربعة أسطر. وهذا التنوع في التكوينات السطرية للجمل الشعرية إنما يعمل على اختلاف مديات حضور التقفية مما يجعلها أكثر قبولاً من التتالي المستمر بلا فواصل.