Announcement Title

Your first announcement to every user on the forum.
في مقالهما المنشور في مجلة Foreign Affairs، يحذر أونا هاثواي وسكوت شابيرو من أن تهديدات دونالد ترامب باللجوء إلى القوة العسكرية، وسعيه لتقويض مبدأ حظر استخدام القوة الذي تأسس منذ معاهدة كيلوج-بريان وميثاق الأمم المتحدة، تمثل انقلابًا على النظام القانوني الدولي الذي ساهم في تقليص الحروب والغزوات لعقود. ويشير الكاتبان إلى أن ترامب لا يكتفي بالتخلي عن دور الولايات المتحدة في حماية هذا النظام، بل يعيد تفعيل منطق "القوة تصنع الحق" الذي ساد قبل القرن العشرين، مما يهدد بعودة حروب الغزو والتوسع الإمبريالي. ويريان أن البديل يكمن في تحالف دولي أوسع — تقوده دول أوروبية وأخرى من الجنوب العالمي — لإعادة تأكيد الحظر على الغزو، وتطوير مؤسسات قانونية جديدة أكثر شمولًا وعدالة. ويدعوان إلى تفعيل دور الجمعية العامة للأمم المتحدة والتحالفات الإقليمية لفرض العقوبات وتطبيق القانون دون الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، محذرَين من أن انهيار هذا النظام سيؤدي إلى سباق تسلح، وتفكك التعاون الدولي، وعودة منطق الغنائم في العلاقات بين الدول.
القوة تُبطل الحق

Might Unmakes Right​

في أشهره الأولى بعد عودته إلى المنصب، هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب باستخدام القوة العسكرية للاستيلاء على غرينلاند وقناة بنما، واقترح أن الولايات المتحدة يمكنها أن تتملك غزة بعد طرد مليوني فلسطيني، وطالب أوكرانيا بالتخلي عن أراضٍ لصالح روسيا مقابل وقف إطلاق النار. قد تبدو هذه الأفعال والتصريحات أمثلة قليلة فقط على مبالغات ترامب المعتادة الواسعة النطاق والمفرطة، لكنها في الواقع تشكل جزءًا من هجوم منسق على مبدأ راسخ في القانون الدولي: وهو أن الدول ممنوعة من التهديد باستخدام القوة العسكرية أو استخدامها ضد دول أخرى لحل النزاعات.

قبل القرن العشرين، كان المنظّرون القانونيون لا يرون فقط أن بإمكان الدول شن الحروب للاستيلاء على أراضي وموارد غيرها، بل كانوا يرون أنه يجب عليها فعل ذلك في بعض الظروف. كانت الحرب تُعد قانونية، ووسيلة أساسية لفرض الحقوق الوطنية وحل النزاعات بين الدول. وقد تغيّر ذلك كله عام 1928، عندما انضمت كل دولة تقريبًا في العالم حينها إلى ميثاق كيلوج-برياند، ووافقت على أن تكون الحروب العدوانية غير قانونية، وأن يُحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة. وأكد ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 هذا الالتزام ووسّعه، واضعًا في صلبه حظرًا على “التهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة”. وبعد أن أدركت الدول أن مجرد الاتفاق على حظر الحرب لا يكفي وحده، بذلت جهدًا استثنائيًا لتصميم أطر ومؤسسات لترسيخ هذه القاعدة الجوهرية، مما أدى إلى قيام نظام قانوني جديد يرفع من شأن الأدوات الاقتصادية على حساب القوة العسكرية لضمان السلام.

ونتيجة لذلك، أصبحت الحروب بين الدول أقل شيوعًا بكثير. ففي السنوات الـ 65 التي تلت التسويات الأخيرة للحرب العالمية الثانية، انخفضت كمية الأراضي التي استولت عليها دول أجنبية كل عام إلى أقل من ستة في المئة مما كانت عليه خلال أكثر من قرن سبق حظر الحرب. وتضاعف عدد الدول ثلاث مرات من عام 1945 حتى اليوم، حيث لم تعد الدول تخشى أن تلتهمها جيرانها الأقوى. كما أصبحت الدول تتاجر فيما بينها بحرية أكبر، وهي مطمئنة إلى أن الثروات التي تجمعها أقل عرضة للنهب من قبل دول أخرى. وأصبح العالم أكثر سلمًا وازدهارًا.

لقد بدأ تأثير حظر استخدام القوة بالتآكل بالفعل قبل عودة ترامب إلى المنصب. ففي عام 2003، غزت الولايات المتحدة العراق، مبرّرة الحرب بادعائها أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل لم يكن يمتلكها؛ وقضت الصين العقد الأخير تبني قواعد عسكرية في مناطق متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي؛ أما غزو روسيا الشامل لأوكرانيا عام 2022 فقد أطلق أكبر حرب برية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. لكن ترامب يقوم الآن بتمزيق ما تبقى من هذه القاعدة ضد استخدام القوة. وحتى الآن، لعبت الولايات المتحدة دورًا حاسمًا — وإن كان غير مثالي — في الحفاظ على النظام القانوني العالمي بعد الحرب والدفاع عنه. وكان بقاء هذا النظام يعتمد أقل على الالتزام التام بالقانون الدولي، وأكثر على مجموعة مشتركة من التوقعات حول كيفية تصرف الدول الأخرى: حتى لو لم تكن دولة ما ملتزمة شخصيًا بحظر استخدام القوة الذي يفرضه ميثاق الأمم المتحدة، فإنها كانت تعلم أن خرق هذه القاعدة قد يؤدي إلى التنديد والعقوبات وربما حتى إلى تدخل مشروع من الولايات المتحدة وحلفائها.

أما الآن، فقد اختفى هذا التوقع. فترامب لا يكتفي فقط بالتخلي عن الدور التقليدي للولايات المتحدة في الدفاع عن حظر الحرب، وما يرتبط به من رفض لمبدأ الغزو، بل يبدو أنه يريد ما هو أكثر: أن يُعيد الحرب، أو التهديد بها، لتكون الوسيلة الأساسية التي تحل بها الدول خلافاتها وتسعى من خلالها لتحقيق المكاسب الاقتصادية. والدول الأخرى بدأت بالفعل تُظهر تقبّلها لهذا التغيير في القواعد. فقد بدا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوافق على تأملات ترامب بشأن غزة، واختارت بنما تهدئة الرئيس الأميركي عبر قبول رحلات الترحيل لغير البنميين وتوقيع اتفاق يتيح للولايات المتحدة نشر أفراد عسكريين على طول قناة بنما. وفي ظل تهديدات ترامب بالسماح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم أجزاء من أوكرانيا، وقّعت كييف اتفاقًا مع واشنطن يمنح الولايات المتحدة حق الوصول إلى مواردها المعدنية الغنية. وإذا تُرك هذا التآكل في حظر استخدام القوة دون رادع، فإن الجغرافيا السياسية ستعود إلى مسابقة عارية للقوة العسكرية. وستكون العواقب وخيمة: سباق تسلح عالمي، حروب غزو متجددة، تراجع في التجارة، وانهيار التعاون اللازم لمواجهة التهديدات العالمية المشتركة.​

الحرب المترسخة​

لسنوات طويلة قبل الحرب العالمية الأولى، كانت الحرب وسيلة معترفًا بها قانونيًا تلجأ إليها الدول لحل النزاعات. لم يكن اندلاع الحرب يُعدّ انهيارًا للنظام الدولي — بل كان هو النظام. ففي غياب محكمة عالمية للبتّ في النزاعات الدولية، كانت الدول ذات السيادة تملك السلطة لتطبيق حقوقها كما تراه مناسبًا — أي من خلال الذهاب إلى الحرب. وكانت الدول تضع مبرراتها القانونية لشن الحروب ضد دول أخرى في ما يسمى بـ "بيانات الحرب". وكان أي تظلم قانوني يمكن أن يُشكّل سببًا عادلًا لاستخدام القوة العسكرية: كالأضرار بالممتلكات مثل الإضرار بالسفن، والديون غير المسددة، وانتهاكات المعاهدات، وبالطبع الدفاع عن النفس. وكما كتب الفيلسوف والفقيه الهولندي في القرن السابع عشر هوغو غروتيوس — الذي يُطلق عليه غالبًا "أبو القانون الدولي" — في كتابه تعليق على قانون الغنيمة والغرامات، فإن "الحرب تُعدّ 'عادلة' إذا كانت تنفيذًا لحق ما".

ولأن الحرب كانت تُعتبر وسيلة لتطبيق الحقوق، فقد اعترف القانون الدولي بحق الغزو. فالأراضي والممتلكات يمكن الاستيلاء عليها كتعويض عن الأضرار التي تسببت في النزاع. وكما أوضح غروتيوس، فإن الدول عبر الحرب "تنال ما هو حقها أصلًا" عند الاستيلاء على الغنائم أو الغرامات. وبالطبع، غالبًا ما كانت القوى الكبرى تدّعي ما ليس من حقها. لكن وبما أنه لم تكن هناك سلطة عليا تحكم بشرعية الحروب، فإن النظام الدولي كان يفترض فعليًا أن كل غزو هو عادل. لقد كانت القوة تخلق الحق. فعندما شنت الولايات المتحدة حربًا ضد المكسيك في عام 1846، كان المبرر القانوني الرئيسي هو ديون المكسيك غير المسددة. ومقابل إنهاء الحملة العسكرية، أجبرت الولايات المتحدة المكسيك على توقيع معاهدة تتنازل بموجبها عن 525,000 ميل مربع من الأراضي — التي أصبحت فيما بعد جنوب غرب الولايات المتحدة — مقابل 15 مليون دولار، وإعفاء المكسيك من سداد الديون.

لم يكن هذا المثال حالة فريدة. فقد مارست الدول غالبًا ما أصبح يُعرف بـ "دبلوماسية الزوارق الحربية" — أي استخدام التهديدات العسكرية لتحقيق مطالب سياسية أو اقتصادية — وذلك للضغط على دول أضعف لتوقيع معاهدات غير متكافئة. فإذا كان من المبرر أن تشن دولة ما حربًا دفاعًا عن حقوقها، فإنه كان من المبرر أيضًا أن تهدد بالحرب دفاعًا عن تلك الحقوق. وفي أوائل عام 1854، جسّد القائد البحري الأميركي ماثيو بيري هذا المنطق عندما أبحر إلى خليج إيدو (طوكيو حاليًا) بأسطول من السفن الحربية الأميركية. وقد ادّعى أن للولايات المتحدة حقًا قانونيًا في التجارة مع اليابان، وأوضح أنه إذا لم توافق اليابان على فتح موانئها، فسيفعل ذلك بالقوة العسكرية. وقد نجح الضغط: ففي 31 مارس 1854، وقعت الدولتان معاهدة كاناغاوا، التي فتحت ميناءين يابانيين أمام السفن الأميركية.

ولأن الحرب كانت الوسيلة التي تلجأ إليها الدول لممارسة حقوقها القانونية، فإن شنّ الحروب لم يكن يُعدّ جريمة، بل وسيلة لتطبيق القانون. فعندما خسر نابليون حرب التحالف السادس عام 1814، لم تسجنه القوى الأوروبية التي هزمته باعتباره مجرم حرب. بل نُفي إلى جزيرة إلبا، وسمح له بالاحتفاظ بلقب الإمبراطور، وحكم الجزيرة كحاكم ذي سيادة. وحتى بعد عودته إلى البر الأوروبي وهزيمته مجددًا في معركة واترلو، لم تكن منفيّه اللاحق إلى جزيرة سانت هيلينا في جنوب المحيط الأطلسي عقوبة جنائية، بل إجراءً وقائيًا — نوعًا من الحجر — يهدف إلى منعه من إطلاق حرب جديدة في أوروبا.

لم تكن الدول تملك حق غزو أراضي الدول الأخرى وممارسة دبلوماسية الزوارق الحربية والتمتع بالحصانة من الملاحقة الجنائية بسبب شنّ الحروب فحسب، بل كانت أيضًا ملزمة بواجبات صارمة في الحياد تجاه أطراف النزاع. فلم يكن يحق للدول المحايدة فرض عقوبات على الأطراف المتحاربة. وإذا فعلت ذلك، فإنها تتدخل في جهود المتحاربين لتطبيق حقوقهم القانونية؛ وإذا انتهكت دولة ما هذا الواجب في الحياد، فإنها تخلق سببًا عادلًا للحرب ضدها. لقد كان الغزو قانونيًا، أما فرض العقوبات الاقتصادية ضد المتحاربين فلم يكن كذلك.

في ظل هذا النظام القانوني، الذي استمر حتى أوائل القرن العشرين، كانت الدول القوية تلجأ إلى الحرب بحرية لتطبيق مطالبها، وكانت الدول الأضعف مضطرة للخضوع أو المجازفة بالإبادة، مما أدى إلى دورة شبه دائمة من النزاعات. ومع غياب الحظر على الغزو، كانت الحدود الوطنية تتغير باستمرار بفعل العنف، وتوسعت الإمبراطوريات بالقوة، مما رسّخ التفاوتات العالمية. فطرق التجارة كانت تُفتح ثم تُسيطر عليها بواسطة المدافع، والمستعمرات كانت تُكسب وتُفقد كما تُمنح التعويضات في دعوى قضائية. وبقي الاقتصاد العالمي مشلولًا بسبب التهديد الدائم باندلاع الحروب.​

من الحرب إلى السلام​

جلبت الحرب العالمية الأولى، مع ذلك، تقنيات تدميرية جديدة إلى ساحة المعركة، وكانت مآسيها تفوق بكثير تلك التي شهدتها الحروب السابقة. فقد شاركت في القتال أكثر من 20 دولة، ويُقدّر عدد القتلى بنحو 20 مليون شخص، حوالي نصفهم من المدنيين. وبمجرد أن هدأ القتل، بدأ بحث يائس لإيجاد وسيلة تمنع تكرار مثل هذه الكارثة مرة أخرى. وقدّمت عصبة الأمم، التي تأسست عام 1920 للمحافظة على السلام عبر الأمن الجماعي، أحد الحلول. لكن مجلس الشيوخ الأميركي، الحذر من الانجرار مجددًا إلى الحروب الأوروبية، منع انضمام الولايات المتحدة، مما أضعف القدرة التنفيذية لتلك المنظمة الدولية.

في الوقت نفسه تقريبًا، ظهرت فكرة جديدة وأكثر جرأة: حظر الحرب تمامًا. ففي أواخر عام 1927، اقترح وزير الخارجية الأميركي فرانك كيلوج معاهدة عالمية تُضفي الطابع الرسمي على هذه الفكرة لرئيس الوزراء الفرنسي أريستيد بريان. وخلال أقل من عام، حصل ما يُعرف باسم ميثاق كيلوج-بريان لعام 1928 — والذي يحمل رسميًا اسم "المعاهدة العامة للتنازل عن الحرب كأداة للسياسة الوطنية" — على توقيع 58 دولة، أي الغالبية العظمى من الدول في العالم آنذاك. وبإرساء مبدأ أن الحرب العدوانية غير قانونية، اتفقت الأطراف على "إدانة اللجوء إلى الحرب لحل النزاعات الدولية، والتخلي عنها كأداة للسياسة الوطنية في علاقاتهم مع بعضهم البعض"، وتعهدوا بتسوية أي نزاع بينهم "بالوسائل السلمية".

وبما أن الميثاق فشل في منع الحرب العالمية الثانية، فقد سُخر منه على نطاق واسع بوصفه ساذجًا وعديم الفعالية. لكن في الحقيقة، أطلق الميثاق عملية أدت إلى نشوء النظام القانوني الدولي الحديث. فمؤلفو الميثاق، رغم طموحهم، لم يدركوا حجم ما أنجزوه. فبمجرد أن أصبحت الحرب محظورة، كان لا بد من إعادة تصوّر كل جانب تقريبًا من جوانب القانون الدولي. عندما غزت اليابان منشوريا عام 1931، استغرق الأمر عامًا من وزير الخارجية الأميركي هنري ستيمسون ليصوغ ردًا يتوافق مع مبادئ الميثاق. وقد قرر ستيمسون أن الولايات المتحدة سترفض الاعتراف بحق اليابان في الأرض التي استولت عليها بشكل غير قانوني، وسرعان ما حذت دول عصبة الأمم حذوه. وأصبح هذا المبدأ الجديد، المعروف الآن باسم "مبدأ ستيمسون"، نقطة تحول. فالغزو، الذي كان قانونيًا في السابق، لن يُعترف به بعد الآن. وحتى لو أجبرت اليابان الصين على توقيع معاهدة تمنحها الأرض المغتصبة، فلن يُعترف بتلك المعاهدة على أنها قانونية. ولم تعد دبلوماسية الزوارق الحربية تفضي إلى التزامات تعاهدية معتبرة.

ورغم أن ألمانيا واليابان — وكلاهما طرف في ميثاق كيلوج-بريان — انتهكتا الميثاق بإشعالهما الحرب العالمية الثانية، فقد واجهتا في نهاية المطاف عواقبه: إذ فقدتا جميع الأراضي التي غزتاها بالقوة، ومثُل قادتهما أمام محاكم جرائم الحرب. وقد ورد في البند الأول من لائحة الاتهام في محاكمات نورمبرغ أن "الحرب العدوانية التي أعد لها المتآمرون النازيون... كانت مخططة مسبقًا، في انتهاك لأحكام ميثاق كيلوج-بريان لعام 1928".

كما أعادت مبادئ الميثاق تعريف جوانب أخرى من القانون الدولي. فقد دافع المدعي العام الأميركي روبرت جاكسون عن قانون الإعارة والتأجير لعام 1941 — الذي مكّن الولايات المتحدة من تزويد الدول التي تحارب ألمانيا النازية بالأسلحة دون إعلان حرب رسمي — مشيرًا إلى أن ميثاق كيلوج-بريان قد غيّر القوانين التي تنظّم الحياد. وبما أن الموقعين على الميثاق قد وافقوا على "التخلي عن الحرب كأداة للسياسة"، أوضح جاكسون أنه يتبع ذلك أن "الدولة التي تذهب إلى الحرب في انتهاك لالتزاماتها لا تكتسب حقًا في المعاملة بالمثل من قبل الدول الأخرى". فلم يعد الحياد يتطلب من الدول أن تظل محايدة تمامًا في مواجهة العدوان.

بمعنى آخر، بدأت المعايير بالتحول منذ عام 1928. لكن قادة العالم أدركوا أن المبادئ وحدها لا تكفي. كانوا بحاجة إلى قواعد قانونية جديدة ومؤسسات تُضفي على تلك المبادئ قوة تنفيذية. وبعد الحرب العالمية الثانية، أسّست الدول المنتصرة منظمة الأمم المتحدة لتدوين الثورة التي أطلقها ميثاق كيلوج-بريان. وفي ميثاق الأمم المتحدة، يُحظر على الدول "التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة". وأصبحت المعاهدات الموقعة تحت الإكراه باطلة رسميًا، ولم يعد الحياد يتطلب الحيادية المطلقة، وأصبح بالإمكان محاسبة القادة الذين يرتكبون أعمال حرب عدوانية جنائيًا.

هذا التحول، الذي قادته الولايات المتحدة، شكّل أحد أعمق التحولات القانونية في تاريخ العالم. فعلى مدى ما يقارب الثمانية عقود منذ دخول ميثاق الأمم المتحدة حيز التنفيذ، أصبحت الحروب بين الدول والغزوات الإقليمية التي أعادت رسم الحدود الوطنية لقرون أمرًا نادرًا. فلم تخض أي من القوى الكبرى حربًا علنية ضد أخرى منذ عام 1945، ولم تختفِ أي دولة عضو في الأمم المتحدة نهائيًا نتيجة الغزو. وبالطبع لم يختفِ الصراع، لكنه أصبح أقل انتشارًا بكثير. ففي القرن الذي سبق الحرب العالمية الثانية، وقعت أكثر من 150 غزوة ناجحة للأراضي؛ أما في العقود التي تلتها، فلم تحدث سوى أقل من عشر.

يعزو بعض المحللين السلام الذي تلا الحرب إلى الردع النووي، وآخرون إلى انتشار الديمقراطية، وغيرهم إلى نمو التجارة العالمية. لكن هذه التفسيرات تفشل في احتساب أهمية قرار حظر الحرب. فعندما غزا الزعيم العراقي صدام حسين الكويت في أغسطس 1990، منتهكًا ميثاق الأمم المتحدة، طالب مجلس الأمن بانسحاب القوات العراقية فورًا. وعندما لم تنسحب، فوّض المجلس الدول الأخرى بـ"استخدام كل الوسائل الضرورية" لـ"استعادة السلام والأمن الدوليين". وقد قادت الولايات المتحدة حينها تحالفًا عسكريًا دوليًا طرد القوات العراقية من الكويت. وتعلمت الدول المراقبة أن انتهاك الحظر المفروض على استخدام القوة ستكون له عواقب. لقد شكّل القانون سلوك الدول — ليس بالضرورة لأنها قررت الالتزام به، بل لأنه غيّر توقعاتها بشأن كيفية ردّ الدول الأخرى، وخصوصًا الولايات المتحدة.

كما غيّر الحظر المفروض على الغزو الإقليمي الطريقة التي يمكن للدول أن تكتسب بها الثروة. فقبل إرساء هذا القانون، كانت قدرة الدول على جمع الثروة تعتمد غالبًا على مدى ما تستطيع الاستيلاء عليه من أراضٍ وموارد وتنازلات من دول أخرى. وكانت الحرب والغزو طريقًا معترفًا به للازدهار. وبإلغاء حق الغزو، أجبر النظام القانوني ما بعد الحرب الدول على السعي للنمو الاقتصادي عبر الوسائل السلمية، وبالدرجة الأولى عبر التجارة. وقد ارتبط توسع التجارة ارتباطًا مباشرًا بحظر الحرب، إذ لم تعد الدول قادرة على إثراء نفسها بالغزو. بل كان عليها الاعتماد على التعاون الاقتصادي، والمنافسة في السوق، والتدفق الحر للبضائع ورؤوس الأموال.

أما القوى الكبرى التي اعتمدت سابقًا على دبلوماسية الزوارق الحربية لفرض إرادتها، فقد اضطرت لاستبدالها بدبلوماسية الشيكات. وأصبحت العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية بديلًا عن الحرب كوسيلة أساسية لتطبيق القانون الدولي. ومع ازدياد الترابط الاقتصادي بين الدول، صممت هذه الدول أساليب أكثر دقة لـ"النبذ"، أي استبعاد الدول من فوائد التعاون الدولي. ومن بين هذه الأدوات، أصبحت العقوبات التجارية وسيلة رئيسية للرد على مجموعة متنوعة من الأفعال غير القانونية، مثل انتهاكات حقوق الإنسان، ودعم الإرهاب، أو شن الحروب العدوانية. ففي عام 1945، شكّلت الواردات والصادرات نحو 10% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي؛ وبحلول عام 2023، بلغت 58%. وظهرت عشرات الآلاف من المنظمات الدولية، وتم إنشاء أكثر من 250,000 معاهدة للمساعدة في إدارة هذا المستوى غير المسبوق من الاعتماد المتبادل. وأصبح التهديد بالإقصاء من التعاون الدولي أكثر صعوبة على الدول في تحمّله.

وبفضل حصتها الكبيرة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ووضع الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية، اكتسبت الولايات المتحدة قوة استثنائية في تطبيق القواعد. وبالنسبة لمعظم الدول، أصبح الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة أمرًا ضروريًا ماليًا. ولم يكن دور واشنطن في الحفاظ على النظام القانوني بعد الحرب مثاليًا بأي حال: فقد اعتمدت الحرب الأميركية في فيتنام، وغزو العراق عام 2003، وحملتها المستمرة لعقود ضد الإرهاب في الشرق الأوسط، على تفسيرات موسعة جدًا لمفهوم الدفاع عن النفس. لكنها لم تنتهك الحظر الأساسي على الغزو الإقليمي، ولعبت دورًا حاسمًا في دعم النظام، حيث تعهدت بالدفاع عن الدول الأوروبية المنضوية في حلف الناتو، والدول الأميركية في معاهدة ريو، وكذلك أستراليا، واليابان، ونيوزيلندا، والفلبين، وكوريا الجنوبية، وتايلاند، إذا تعرضت أي منها لهجوم غير قانوني. وجعل قرار واشنطن قيادة المواجهة ضد غزو العراق للكويت واضحًا أنه إذا حاولت دولة ما غزو أخرى، فقد تواجه مقاومة تقودها الولايات المتحدة — حتى وإن لم يكن للولايات المتحدة التزام تعاقدي بالرد. وقد ساعد هذا النظام — غير المثالي ولكنه فعّال — في تجنّب الصراعات الكبرى، وضمان ألا ينحدر العالم المترابط، رغم توتراته، إلى فوضى عنيفة غير محكومة. وتمكنت الدول من بناء اقتصادات أكثر ازدهارًا دون خوف من أن تغزوها قوة عسكرية أعظم أو تُجبر على توقيع معاهدات غير متكافئة للتخلي عن غنائم الحرب.​

خطر قانوني​

قد يكون كل ذلك على وشك أن يتغير. يمكن إدانة الإدارات الأميركية السابقة بسبب نفاقها، لكن استعداد إدارة ترامب للتخلي تمامًا عن حظر الحرب هو أمر أكثر خطورة بكثير. إن الفرضية ذاتها القائلة بأن الولايات المتحدة يمكنها أن تستولي على كندا أو غرينلاند أو قناة بنما بالقوة — أو أنها قد تدّعي ملكية غزة — ليست مجرد واقعية أو شكل جديد من السياسة القائمة على الصفقات. إنها عودة إلى حقبة سابقة كان فيها الحق يُحدد بالقوة. فخطاب ترامب وتصرفاته ينعشان الفكرة السابقة لمعاهدة كيلوج-بريان، والتي مفادها أن التهديد بالحرب أو الشروع في غزو إقليمي هو وسيلة مشروعة لحل النزاعات وإجبار الدول الأخرى على تقديم تنازلات.

وبالإضافة إلى تهديده بغزوات من جانبه، يبدو أن إدارة ترامب على وشك التخلي عن الدفاع عن حق الدول الأخرى في عدم التعرّض للغزو. ففي أبريل، وبعد أن هدّد بسحب الدعم العسكري الأميركي من أوكرانيا، حذّر ترامب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أنه إذا لم ينظر في خطة سلام ترعاها الولايات المتحدة — قد تتنازل بموجبها أوكرانيا عن 20% من أراضيها لصالح روسيا، بحسب صحيفة فاينانشال تايمز — فإنه سيواجه "فقدان [بلده] بأكمله". وقد أعاد ترامب بالفعل العمل بدبلوماسية الزوارق الحربية من خلال استخدام التهديد بالقوة لإجبار دول أخرى على توقيع معاهدات بشروطه؛ وساعدت التهديدات العسكرية في الحصول على تنازلات من كندا والمكسيك. كما أن سياسة ترامب الجمركية تقوّض أيضًا الحظر المفروض على الغزو من خلال إضعاف فعالية العقوبات الاقتصادية كأداة لإنفاذ القانون. فالعقوبات تكون أكثر فاعلية عندما تُستخدم نادرًا وباستجابة لانتهاكات واضحة للقانون الدولي. أما فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على دول أخرى بشكل عشوائي، كما فعل ترامب مع كندا والمكسيك، فهو يضعف التأثير الرادع للعقوبات الاقتصادية في معاقبة السلوك غير القانوني الحقيقي.

وقد شنّ ترامب هجومًا مباشرًا على قوة العقوبات كآلية تنفيذية حين وقّع أمرًا تنفيذيًا يهدد بفرض عقوبات على القضاة والمحامين المرتبطين بالمحكمة الجنائية الدولية. وقد حوّل ذلك الإجراء أداة لتطبيق القانون الدولي إلى سلاح لتقويضه. وعلى نطاق أوسع، فإن السياسات الاقتصادية الانعزالية التي يتبناها ترامب، والتي تفكك الترابط بين الدول، تُضعف قدرة الدول الأخرى على معاقبة انتهاكات القانون الدولي من خلال النبذ، تاركة لها خيارات قليلة سوى اللجوء إلى القوة العسكرية أو السماح بتلك الانتهاكات دون رادع.

قد تبدو التصريحات الهجومية والسياسات المتغيرة التي ينتهجها ترامب فوضوية، لكنها كلها تُشكل جزءًا من محاولة أوسع لتفكيك النظام القانوني الذي تأسس بعد الحرب. ويُعد هذا الهجوم خطيرًا بشكل خاص لأنه يصدر عن الدولة التي أنشأت هذا النظام وقامت — ولو بشكل غير مثالي — بصيانته. قد لا يُنفّذ ترامب كل تهديداته: فقد تعرقلها المحاكم أو المعارضة السياسية الداخلية، وقد لا يقلّده قادة آخرون على الفور. لكن مجرد التهديدات وحدها تُضعف بشكل خطير مجموعة الافتراضات المتعلقة بالسلوك، وضبط النفس، والعواقب، التي تدعم الحظر المفروض على الغزو.

تلك الافتراضات — وهي الإيمان بأن معظم الدول، في معظم الأحيان، ستتصرف كما لو أن القواعد مهمة — هي ما يسمح للدول الأضعف بوضع خطط طويلة الأجل، وللمستثمرين باستثمار رؤوس الأموال عبر الحدود، وللحكومات بالاستجابة الجماعية لانتهاكات القانون. وإذا كانت أقوى دولة في العالم قادرة على تجاهل التوقعات الراسخة منذ أمد بعيد دون عقاب، فمن المرجح أن تشعر الدول الأخرى بأنها تستطيع أن تفعل الشيء نفسه. ومتى توقفت الدول عن توقع أن تتقيد الأخرى بالقواعد، فإن النظام الذي كان يعتمد على هذا التوقع سينهار — ليس دفعة واحدة، بل جزءًا تلو الآخر حتى ينهار تمامًا.​

المعركة العادلة​

إذا انهار الحظر المفروض على استخدام القوة، فقد يتفق فلاديمير بوتين ودونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ ببساطة على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ. حينها ستكون دولهم حرّة في إرهاب الدول الواقعة ضمن تلك المناطق، وانتزاع التنازلات من الدول الأضعف مقابل الحماية. وعلى الرغم من أنه من الممكن أن يكون مثل هذا العالم هادئًا نسبيًا لفترة مؤقتة، فإنه سيكون أقل حرية بكثير. ومن الأرجح أن تعود النزاعات المستمرة التي حظرها الحظر على الحرب، مما سينتج عالمًا، وفقًا لكلمات ثيوسيديدس الشهيرة، "يفعل فيه الأقوياء ما يستطيعون، ويعاني الضعفاء ما لا بد أن يعانوه".

هناك مسار آخر محتمل، لكنه سيتطلب الشجاعة والتحرك السريع. ففي عام 2022، انضمت 142 دولة إلى الولايات المتحدة في دعم قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين محاولة روسيا ضم أراضٍ أوكرانية بوصفها غير قانونية. ويمكن لتلك الدول أن توحد صفوفها لتجديد التأكيد على الحظر المفروض على الغزو الإقليمي دون الاعتماد على الولايات المتحدة كمنفّذ رئيسي له. وهناك بعض الإشارات إلى أن أوروبا تنوي سدّ الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة. فبعد الاجتماع الكارثي في البيت الأبيض في مارس، حيث سخر ترامب ونائبه جيه دي فانس من زيلينسكي وبديا وكأنهما يهددان بالتخلي عن أوكرانيا، تحركت أوروبا لدعم حق أوكرانيا في السيادة. وقد تعهّد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بأن الدول الأوروبية ستزيد إنفاقها العسكري وتشكّل "تحالفًا من الراغبين" للدفاع عن أوكرانيا، كما تعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأن الاتحاد الأوروبي سيقدم خطة لدعم البلاد.

لكن أوروبا لا تستطيع أن تحلّ محل الولايات المتحدة بوصفها شرطي العالم. فهي لا تملك القوة العسكرية الضرورية، ولا النفوذ الاقتصادي، ولا الوحدة السياسية اللازمة. وحتى لو كانت تملك ذلك، فسيكون من الخطأ أن يعتمد العالم بشكل مفرط على فاعل واحد آخر. فلا يمكن لأي محاولة جادة لحماية الحظر المفروض على استخدام القوة أن تتحقق دون الاعتراف بالمشاكل الكامنة في النظام الذي أرساه. فعندما أُنشئت الأمم المتحدة، منحت خمس دول قوية — الصين، وفرنسا، والاتحاد السوفيتي، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة — نفسها موقعًا متميزًا بوصفها أعضاء دائمين في مجلس الأمن، مع حق النقض (الفيتو) لأي إجراء من إجراءات تنفيذ القانون عبر الأمم المتحدة. ولأن دور الولايات المتحدة في هذا النظام كان مهيمنًا بشكل ساحق، فإنها عندما خرقت القواعد — كما حصل حين غزت العراق عام 2003 — لم يكن أحد قادرًا على محاسبتها.

وقد قوّضت هذه العيوب شرعية النظام القانوني الذي يحظر استخدام القوة، لا سيما في أعين دول الجنوب العالمي. ويعني هذا الارتياب أن بعض الدول قد لا تعترف بقيمة ما ستخسره حين يقوم ترامب بتفكيك ذلك الحظر. ويُعدّ الاعتراف العلني بضعف النظام القانوني بعد الحرب — وفشل المدافعين عنه مرارًا في الالتزام بمبادئهم المعلنة — خطوة أولى أساسية نحو إنشاء نظام قانوني أكثر صلابة. وسيستلزم الحفاظ على الحظر المفروض على استخدام القوة تفكيرًا جديدًا بشأن المؤسسات الدولية: فلا بد أن يُمكَّن نظام جديد لضمان السلام والأمن الدوليين من إشراك مجموعة أوسع من الدول لتتقاسم مسؤولية حماية القواعد القانونية، مما يجعلها أكثر شرعية وأكثر قدرة على الصمود أمام التحولات الداخلية في أي دولة بعينها.

ويجب على الدول المتوسطة والصغيرة أن تُشكّل تحالفات واسعة للدفاع عن الحظر المفروض على استخدام القوة. ويعتقد العديد من المحللين أن السلام النسبي الذي ساد طوال 80 عامًا لم يكن ليُحافظ عليه دون وجود ضامن قوي أساسي. لكن هذا الرأي يقلل من شأن القوة الحقيقية التي يمكن للدول أن تمارسها حين تعمل بشكل جماعي. ويُعدّ الاتحاد الأوروبي مثالًا على ذلك: فليس لأي من أعضائه الـ 27 قوة عظمى بمفرده، لكنهم معًا يُشكّلون قوة.

ويجب أن تلعب الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تملك فيها جميع الدول الأعضاء الـ 193 صوتًا متساويًا، دورًا قياديًا. ورغم أن هذه الهيئة لا تمتلك حاليًا صلاحيات تنفيذية مثل مجلس الأمن، فإنها، بوصفها جهازًا مسؤولًا عن حفظ السلام والأمن الدوليين، يمكنها أن تفرض المزيد من السلطة لتطبيق الحظر المفروض على استخدام القوة في ميثاق الأمم المتحدة. وتُظهر مبادرة إصلاحية حديثة تُعرف باسم "مبادرة الفيتو" كيف يمكنها أن تؤدي دورًا أكبر. فقد أُنشئت هذه الآلية بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وتنص على إحالة أي قرار يستخدم فيه الفيتو في مجلس الأمن إلى الجمعية العامة لمناقشته. وقد منحت القرارات الصادرة عن الجمعية العامة بموجب هذه المبادرة للدول دعمًا قانونيًا لتنسيق العقوبات ضد روسيا وتقديم الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا. كما أدت إلى إنشاء سجل دولي للأضرار تمهيدًا للتعويضات بعد الحرب.

ويجب على الدول أيضًا أن تعمل ضمن تحالفات إقليمية أو موضوعية لتحقيق أهداف مشتركة. وقد بدأت مثل هذه التحالفات بالتشكل: فقد أعلن مجلس أوروبا، على سبيل المثال، عن تأسيس محكمة لجمع الأدلة ضد بوتين وقادة روس آخرين ومحاكمتهم لاحقًا بتهمة العدوان في أوكرانيا، كما يعمل أعضاء ما يُعرف بمجموعة لاهاي — وهم بوليفيا وكولومبيا وكوبا وهندوراس وماليزيا وناميبيا والسنغال وجنوب إفريقيا — على تنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية بشأن الحرب في غزة. وفي مايو، تعهّد وزراء خارجية الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي بتعزيز الشراكة في مجالات السلام والأمن والشؤون الاقتصادية، مما يُشكّل نقطة انطلاق محتملة لتحالف من أجل السلام لا يعتمد على الولايات المتحدة.

وبشكل رسمي، لا يزال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هو الهيئة الوحيدة المخوّلة بمنح الدول إذنًا للجوء إلى الحرب لتطبيق القانون. لكن لا شيء يمنع الدول من إنشاء "مجلس النبذ"، وهي منظمة تفوّض بفرض عقوبات مشتركة ضد الدول التي تنتهك الحظر المفروض على استخدام القوة أو أي قوانين دولية بالغة الأهمية. ولم تكن العقوبات دائمًا فعالة في كبح السلوك غير القانوني، جزئيًا لأن تنسيقها على أساس كل حالة على حدة يستغرق وقتًا وغير قابل للتنبؤ. لكن إذا عملت الدول معًا بشكل ثابت على تفعيل استجابات آلية ومنسّقة لأفعال غير قانونية محددة، فإنها قد تجعل من هذه الأداة أكثر فعالية بكثير.

وقبل كل شيء، فإن الحفاظ على الحظر المفروض على استخدام القوة يعتمد على إدراك الدول لما أتاحه هذا الحظر من منافع، ومدى صعوبة تحقيقه، وحجم الفوضى التي قد تترتب على اختفائه. فإذا استجابت الدول لتخلّي الولايات المتحدة عن دورها في فرض القانون بإنشاء مؤسسات جديدة لتحلّ محلها، فإن ذلك سيبعث برسالة قوية. وقد يدّعي القادة الأميركيون أن "القوة تصنع الحق"، لكنهم سيكونون في موقف الأقلية، وسيؤدي ذلك إلى عزلهم. فإذا سعت واشنطن، على سبيل المثال، إلى تنفيذ تهديدها بالاستيلاء على قناة بنما، فيمكن للدول أن تنسّق فيما بينها لنبذ الولايات المتحدة عبر فرض عقوبات اقتصادية، وفرض عقوبات دبلوماسية، أو حتى عبر سحب الإذن بوجود القواعد الأميركية في أراضيها. وإظهار أن دولًا أخرى مستعدة وقادرة على الاتحاد لفرض تكاليف على الولايات المتحدة عندما تنتهك القانون من شأنه أن يساعد في مواجهة الأضرار العميقة التي سببتها إدارة ترامب — ويؤكد أن طيفًا أوسع من الدول يمكن أن يؤدي دورًا أكثر توازنًا في صياغة القانون الدولي وتنفيذه.

وصعود ترامب لا يُمثّل التهديد الوحيد للحظر المفروض على استخدام القوة. فالصين وروسيا تسعيان أيضًا إلى إعادة تشكيل القواعد الدولية بما يخدم مصالحهما. لكن إذا تحملت المزيد من الدول المسؤولية الجماعية عن فرض القواعد الأساسية للنظام الدولي، فإن تلك الدول أيضًا ستكون مضطرة إلى الانتباه. ومن غير الواضح ما إذا كانت دول مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة — التي اعتادت على فرض شروط المشاركة العالمية — ستكون مستعدة لتقاسم تلك القوة. كما أنه من غير الواضح ما إذا كانت الدول التي طالما استُبعدت من اتخاذ القرار على المستوى العالمي ستتمكن من وضع ثقتها في نظام قانوني دولي قائم على الحظر المفروض على استخدام القوة. لكن دعم مثل هذا النظام يُعد أمرًا بالغ الأهمية. فقد يبدو أن الموازنة بين الصين وروسيا والولايات المتحدة قد تُوفّر منافع مؤقتة للدول النامية، لكن على المدى الطويل، ستُصبح هذه الدول هي غنائم تنافس القوى الكبرى، دون أن تملك القدرة على توجيه مصيرها أو التحكم فيه.

فالنظام الذي حافظ على السلام والازدهار النسبيين لما يقرب من ثمانية عقود ليس نظامًا قائمًا بذاته. بل يجب الدفاع عنه بقوة. فبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، أدرك صانعو السياسات الأميركيون أن الفشل في تأسيس نظام دائم لما بعد الحرب العالمية الأولى قد زرع بذور الفوضى المستقبلية. والدروس المستفادة من التاريخ تُظهر أن انتظار ما بعد لحظة الأزمة للشروع في التخطيط لما سيأتي هو وصفة للفشل. وكما سعى صانعو السياسات في الأربعينيات إلى إرساء سلام دائم من فوضى الحرب، يجب على قادة اليوم أن يصمموا مؤسسات وتحالفات واستراتيجيات لضمان السلام — لا أن يجلسوا مكتوفي الأيدي وهم يشاهدون ترامب يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء.​
 

ما هو انكور؟

هو منتدى عربي تطويري يرتكز على محتويات عديدة لاثراء الانترنت العربي، وتقديم الفائدة لرواد الانترنت بكل ما يحتاجوه لمواقعهم ومنتدياتهم واعمالهم المهنية والدراسية. ستجد لدينا كل ما هو حصري وكل ما هو مفيد ويساعدك على ان تصل الى وجهتك، مجانًا.
عودة
أعلى