أولاً : القيـــــاس
مفهوم القياس :
يفهم القياس من قول ابن الأنباري " اعلم أن القياس في وضع اللسان بمعنى التقدير ، وهو مصدر قايست الشيء بالشيء مقايسة وقياساً :قدرته ومنه المقياس أي المقدار ،وقيس رمح ٍ أي قدر رمح " (1)
أما القياس في النحو فهو حمل غير المنقول على المنقول في حكم علة جامعة ، ويعد ابن أبي اسحق " أول من بعج النحو ومد القياس ، وشرح العلل " (2) ، وقبل أن نستطرد في حديثنا عن مفهوم القياس ،لابد من ذكر أركانه وهي أربعة :
1- أصل وهو المقيس عنه
2- فرع وهو المقيس
3- حكم
4- علة جامعة
المقيس عنه : ومن شروطه :
1- ألاّ يكون شاذاً خارجاً عن سنن القياس ، فما كان كذلك لا يجوز القياس عليه كتصحيح مثل :استحوذ ، استصوب ،استنوق ، وكحذف نون التوكيد في قوله : " اصرف عنك الهموم طارقها " أي (اصرفن) ووجه ضعفه في القياس إن التوكيد للتحقيق وإنما يليق به الإسهاب والإطناب لا الاختصار والحذف .
2- كما لا يقاس على الشاذ نطقاً لا يقاس عليه تركاً ،كامتناعك عن (وذر ،ودع ) مع جوازهما قياساً لأن العرب تحامتها .
3- ليس من شرط المقيس عليه الكثرة ، فقد يقاس على القليل لموافقته للقياس ويمتنع على الكثير لمخالفته له مثال الأول : شنئي نسبة إلى شنوءة ، اكتفى سيبويه بهذا الوارد لأن السماع لم يرد بخلافه لا في هذا اللفظ ولا فيما كان من نوعه ، فقاس عليه وجعل وزن (فعليّ) قياساً في (فعولة) مع انه لم يقع إليه من شواهد الا هذه الكلمة المفردة ، فهو يقول في النسب إلى( ركوبة ،حلوبة : ركبيّ وحلبيّ ) . أما الاخفش فجعله شاذاً لا يقاس عليه ،ونسب إلى الكلمتين بقوله : ( ركوبي،وحلوبي) لكن القياس يؤيد سيبويه في قياسه على شنوءة شنئيّ بما يأتي :
فعولة _فعيلة ، فكل منهما ثلاثي ، وثالثه حرف لين وانتهى بتاء التأنيث فجعلوا واو شنوءة كياء حنيفة وعاملوها مثلها في النسبة . ( ولا يقول في ضرورة :ضروري لأنه لا يقال في جليلة : جللي )
قال أبو الحسن :" فان قلت : إنما جاء هذا في حرف واحد ( يعني شنوءة ) فالجواب انه جميع ما جاء " .
ومثال الثاني ك قولهم في ( ثقيف وقريش وسُليم ) :ثقفي وقرشي وسُلمي وان كان أكثر من شنئي فانه عند سيبويه ضعيف في القياس فليس لك أن تقول في سعيد :سعدي .
4- للقياس أربعة أقسام :
أ- حمل فرع على اصل كإعلال الجمع لإعلال المفرد مثل ( قيمة : قيم ) أو تصحيحه لصحة المفرد مثل ( ثور : ثِوَرة ) .
ب_ حمل اصل على فرع لإعلال فعله ( قام : قياماً ) أو تصحيحه لصحة فعله مثل ( قاومت : قواماً ) .وكحذف الحروف في الجزم وهي أصول حملاً على حذف الحركات .
ج- حمل نظير على نظير : منعوا ( افعل التفضيل ) من رفع الظاهر لشبهه بـ ( افعل التعجب ) ،وأجازوا تصغير افعل التعجب حملاً على اسم التفضيل .
د- حمل ضد على ضد : من أمثلته النصب بـ ( لم ) حملاً على الجزم بـ ( لن ) اولهما لنفي الماضي والثاني لنفي المستقبل .
المقيس :
وهل يوصف بأنه من كلام العرب أم لا . وقد قال ابن جني :" اللغات على اختلافها كلها حجة , والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطيء " .
الحــكم ، وفيه مسألتان :
جواز القياس على حكم ثبت بالقياس ( إذ الأصل أن يثبت بالسماع ) وجواز القياس على أصلٍ اختلف في حكمه كقولهم في (الا ) أنها نابت فناب الفعل فهي تعمل عمله قياساً على ( يا ) ، فان إعمال ( يا ) مختلف فيه .
العـــلل :
1- اعتلالات النحويين صنفان : علة تطرد على كلام العرب وتنساق إلى قانون لغتهم ، وعلة تظهر حكمتهم وتكشف عن صحة أغراضهم ومقاصدهم في موضوعاتهم ، فالأولى أكثر استعمالا واشد تداولا وهي واسعة الشعب.
2- يجوز التعليل بعلتين : كقولك ( هؤلاء مسلميّ ) فان الأصل : مسلموي : قلبت الواو ياء لأمرين كل منهما موجب للقلب : اجتماع الواو والياء وسُبق أحداهما بسكون ، والثانية أن ياء المتكلم توجب كسر ما قبلها فوجب قلب الواو ياء وإدغامها .
3- يجوز التعليل بالأمور العدمية كتعليل بعضهم بناء الضمير باستغنائه عن الإعراب وباختلاف صيغه لحصول الامتياز بذلك . (3)
المفهوم الشكلي للقياس النحوي :
وسأعرض لتطور مفهوم القياس عبر القرون ، شهد أواخر القرن الثالث الهجري وبدايات القرن الرابع تحولاً في مفهوم القياس، فلم يعد يعنى باطراد الظواهر واستقراء مادتها والقياس على ما شاع منها واطرد ، بل بدأ يأخذ طابعاً شكليا يعتمد على حمل فرع على أصل لعلة جامعة بينهما ، سواء أكان هذا الحمل هو حمل المسموع على مسموع ، أو مفترض على مسموع أو حكم نحوي على آخر(4) . ولم يكن هذا التحول فجأة ، بل إن من النحاة من أنكـره ولم يسلم به ، وتشبث بما درج عليه الأوائل من فهم له ، ولا أدل على ذلك مـن الفصل الذي عقـده ابن الأنباري " في شُبَه تـورد على القياس " تمثلت فيما يأتي (5) :
1- لو جـاز حمل الشيء على الشيء بحكم الشبه لما كان حمل أحدهما على الآخر بأولى من صاحبه ، فإنه ليس حمل الاسم المبني لشبه الحرف على الحرف في البناء بأولى من حمل الحرف لشبه الاسم على الاسم في الإعراب
2- إذا كان القياس حمل الشيء بضرب من الشبه ، فما من شيء يشبه شيئاً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر فإذا كان وجه المشابهة يوجب الجمع ، فوجه المفارقة يوجب المنع.
3- " لو كان القياس جائزاً لكان ذلك يؤدي إلى اختلاف الأحكام لأن الفرع قد يأخذ شبهاً من أصلين مختلفين فإذا حمل على كل واحد منهما وجد التناقض في الحكم وذلك لا يجوز ، فإن (أن) الخفيفة المصدرية تشبه ( أنّ) المشددة من وجه ، وتشبه (ما) المصدرية من وجه ، و(أنّ) المشددة معمله و(ما) المصدرية غير معمله ، فلو حملنا ( أن) الخفيفة على (أنّ) المشددة في العمل ، وعلى (ما) المصدرية في ترك العمل لأدى ذلك إلى أن يكون الحرف الواحد معملا وغير معمل في حال واحدة ، وذلك محال "(6)
وهذه الاعتراضات لمنكر القياس قد أجاب عنها ابن الأنباري بما يثبت تأييده للقياس والرد على من أنكره وهى تعبير عن رفض فئة مـن النحاة للقياس بمفهومه الشكلي ، ولقد بلغ هذا المفهوم الشكلي للقياس قمة نضجه واكتماله على يد ابن الأنباري ، ثم السيوطي من بعده ، فقد تحددت عندهما حدوده، وأنـواعه ، وأقسامه ، واعتمدا في كثير مما جاءا به على ما كتبه ابن جني في الخصائص. فقال : " أعلم أن القياس في وضع اللسان بمعنى التقدير ، وهو مصدر قايست الشيء بالشيء مقايسة وقياساً ، أي قدرته ، ومنه المقياس أي المقدار وهو في عرف العلماء عبارة عن تقدير الفرع بحكم الأصل ، وقيل هو حمل فرع على أصل بعلة تقتضي إجراء حكم الأصل على الفرع ، وقيل : هو ربط الأصل بالفرع بجامع ، وقيل : هو اعتبار الشيء بالشيء بجامع ، وهذه الحدود كلها متقاربة"(7) " وهذه المحاولة - بما تسعى إليه من إخفاء صفة الأصالة وبما فعلته من الربط بين المدلولين اللغوي والاصطلاحي - قد وقعت في خطأين بارزين :
أولهما: أن تلمُّس الصلة بين هذين المعنيين قد أبعد النحاة عن مقتضيات الدقة العلمية، إذ لو كان لفظ القياس قد أخذ هذا المدلـول الجديد عليه في البحث النحوي ، لعرف به من قديم ، ولترك آثاره في التفكير النحوي وفي البحث النحوي معا ، وذلك غير صحيح .
والثاني : أن اعتبارهم المعنى اللغوي أساس المعنى الاصطلاحي جعلهم ينصرفون عن تحليل المؤثرات الحقيقية في المعنى الجديد للقياس وتقويم آثارها فيما أصابه من تطور ومن ثم ظلت أسباب هذا التطور ومصادره بعض النقاط الغامضة في البحث النحوي(/users/2814/54/98/72/smiles/698865.gif .
أماّ القياس في الاصطلاح ، فمفهوم شامل يدل على مفهومات متعددة ، فمنه" قياس الاستعمال" أو " القياس اللغوي " و " القياس النحوي" و "القياس المنطقي"، والذي يهمنا هنا هو النوع الأول والثاني ، أما القياس الأول فيقوم به المتكلم وأما الثاني فيقوم به الباحث ، وإذا كان القياس الأول هو " قياس الأنماط " فالثاني هو " قياس الأحكام"، وإذا كان الأول هو " الانتماء " فإن الثاني هو "النحو" ، ولعل الذي دعا ابن سلام إلى وصف الحضرمي بأنه " مد القياس " هو معرفته أن الحضرمي قد حول النحو من طابع الانتماء التطبيقي الذي رسمـه علي بـن أبي طالب بقوله : " انح هذا النحو يا أبا الأسود " إلى الطابع النظري الذي يتسم بقياس حكم غير المسموع على حكم المسموع الذي في معناه .
فلا بد لنا إذن أن نفرق بين هذين النوعين من القياس ، " فالقياس اللغوي هو مقارنة كلمات بكلمات أو صيغ بصيغ أو استعمال باستعمال ، رغبة في التوسع اللغوي ، وحرصاً على اطراد الظواهر اللغوية " وهذا القياس يقوم به المتكلم وهو الذي يلجأ إليه الأطفال عندما يقيسون ما لم يسمعوه من جمل أو صيغ على ما سمعوه من قبل وقد يحدث أن يخطئ الأطفال عندما يقيسون ما لم يسمعوه من جمل أو صيغ على ما سمعوه من قبل ، يحدث هذا في مرحلة اكتساب اللغة ، وهي مرحلة مبكرة جداً من عمر الإنسان ، وقد يحدث أن يخطئ الطفل في قياسه ، وهنا يبرز دور الأسرة في إرشاده إلى الاستعمال الصحيح، فالطفل يسمع مثلاً : كبير وكبيرة ، وصغير وصغيرة ، وطويل وطويلة فيظن أن الفرق بين المذكر والمؤنث ينحصر في " تاء التأنيث " فحسب ، لذا يقيس على هذه الكلمات التي سمعها ما لم يسمعه فيقول: أحمر و أحمرة ، وأعرج وأعرجة، وهذا ما يعرف بالقياس الخاطيء.
ويستمر هذا القياس مع ابن اللغة في مراحله المختلفة ، فالكبير أيضاً يستخدم القياس فيقيس ما لم يسمعه من قبل على ما لديه من مخزون لغوي، فليس من المعقول أن يكون قد سمع كل الصيغ والجمل وطرق صياغتها وكذا الأسلوب لذا نراه يلجأ دائماً إلى القياس ، وقد يحدث أن يخطئ أيضاً في قياسه.
ولا شك أن العربي القديم قبل الإسلام قد لجأ في كلامه إلى القياس ، وأخطأ أيضاً في قياسه ، ولكن قياسه لم يكن يوصف بأنه صواب أو خطأ فـي كثير من الأحيان ، ولعل كثيراً من الصيغ والاستعمالات العربية التي نعدها فصيحة صحيحة قد كانت نتيجة هذا القياس الخاطئ .
حتى إذا جاء الإسلام وارتبطت العربية بالقرآن ، لم يعد يسمح لهذا القياس بالانتشار ، فوضعت القوانين والقواعد لحفظ الألسنة من اللحن خاصة بعد انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية، ولولا ارتباط العربية بهذا النص الخالد لتطورت كغيرها من اللغات نتيجة لهذا القياس.
وما تفعله المجامع اللغوية الآن من صياغة الجديد من المصطلحات والألفاظ قياساً على طرق الصــياغة العربيــة لهو نفسه "القياس الاستعمالي "،وذلك لمسايرة التقدم الحضاري وما يصحبه من ضرورة صياغة الجديد من الألفاظ والمصطلحات للاكتشافات والعلوم الجديدة التي لم تكن معروفة في أصل هذه اللغة.
فهذا النوع من القياس هو ما يقصده ابن جنى بقوله: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب "(9) وهو ما يقصده السيوطي عندما ينقل عن ابن الأنباري قوله: " اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس ولهذا قيل في حده النحو: علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب " فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو ، ولا يُعْلَم أحد من العلماء أنكره ، لثبوته بالدلالة القاطعة، وذلك أنا أجمعنا على أنه إذا قال العربي:
" كتب زيد " فإنه يجوز أن يسند هذا الفعل إلى كل اسم مسمى يصح منه الكتابة، نحو: " عمرو" و " أردشير" و"بشر" إلى مالا يدخل تحت الحصر ، وإثبات مالا يدخل تحت الحصر بطريق النقل محال، وكذلك القول في سائر العوامل الداخلة على الأسماء والأفعال ، الرافعة، والناصبة، والجارة ، والجازمة ، ... فلو لم يجز القياس ، واقتصر على ما ورد في النقل من الاستعمال لبقي كثير من المعاني لا يمكن التعبير عنها لعدم النقل ، وذلك مناف لحكمة الوضع، فوجب أن يوضع وضعاً قياسياً عقلياً لا نقلياً... (10)
أما النوع الثاني من القياس فهو "القياس النحوي " أو قياس الأحكام "، وهذا النوع يقوم به الباحث ، ويعرّفه النحاة (11) انه" حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه"، أو " هو قياس حكم شيء على حكم شيء آخر لسبب يوردونه.."، أو بعبارة أخرى " حمل غير المنقول على المنقول فـي حكم لعلة جامعة"، " أو حمل فرع على أصل لعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع " أو " إلحاق الفرع بالأصل بجامع"، وهذا القياس هو المقابل النظري للقياس الاستعمالي ، فإذا كان ما يرمي إليه القياس الاستعمالي " هو الصوغ العملي فإن ما يرمي إليه القياس النحوي هو الحمل النظري ويجب أن يكون الموقف من القياس النحوي منطلقاً من اللغة نفسها، ولا يحكم بمعايير غير لغوية في قياسه، وهذا ما حدث بالفعل في القرنين الأول والثاني الهجريين، ثم تحول موقف الباحث حيث بدأ يحكم معايير غير لغوية في دراسة اللغة.
" وهذا الحمل إما أن يكون مبنياً على علة أو غير مبني على علة ، فإن لم يكن مبنياً على علة فهو ما يسمونه الشبه" ، وهو أقرب أنواع القياس النحوي إلى القياس الاستعمالي ، وإن لم يكن منه تماماً ، ومثاله إعراب المضارع لشبهه باسم الفاعل أما إذا كان مبنياً على علة فإما أن تكون العلة مناسبة أو غير مناسبة، فإذا كانت العلة مناسبة سمي القياس " قياس العلة" ويلزم حينئذ أن يكون هناك أصل وفرع وعلة وحكم ، فإذا كانت العلة غير مناسبة سمي " قياس الطرد" ومثال قياس العلة قياس رفع نائب الفاعل قياساً على الفاعل بعلة الإسناد في كل منهما، ومثال قياس الطرد أن " ليس " مبنية بسبب اطراد البناء في كل فعل غير متصرف ، وكان الأفضل من هذه العلة أن يقال إنها مبنية لأن الأصل في الأفعال البناء فهذا يشكل علة مناسبة..."(12) وفي الحقيقة هذا التقسيم السابق للقياس النحوي إنما هو تقسيم عقلي محض ، وبخاصة إذا علمنا أن أركان القياس الأساسية موجودة في جميع هذه الأنواع وخاصة العلة التي بني على أساسها هذا التقسيم ، فأركان القياس متوفرة في قياس الشبه وهي أربعة: أصل وفرع وحكم وعلة فالأصل هو اسم الفاعل ، والمضارع هو الفرع ، والحكم هو الإعراب ، وشبه الفرع بالأصل هي العلة.
أهمية القيـــاس :
تتعلق بهذه القضية مسألة بالغة الأهمية تتمثل في مدى قدرتنا على الرؤية الشاملة لفهم وتحديد أهمية القياس، أو بعبارة أخرى الأمر الذي تثيره هذه المسألة يتعلق بتساؤل نطرحه على عجل عما يمكن أن يقدمه القياس باعتباره أصلاً من الأصول النحوية التي حكمت فكر النحاة في وضع القواعد واستنباط الأحكام حتى نستطيع تفسير وفهم موقف النحاة القدماء والمحدثين على حد سواء من تلك القضية التي جذبت انتباه القدماء بحثاً وتأليفاً ، وشغلت خلد المحدثين وتضاربت فيها الآراء.
وقبل أن نشرع في تحديد موقف النحاة القدماء والمحدثين لابد أن نقرّ حقيقة غاية في الأهمية مؤداها أن الأصول النحوية عامة والقياس خاصة كالشمعة المضيئة التي تأبى أن تذوب إلا بعد أن تؤدي رسالتها وتنشر نورها في الآفاق ، وهذا ما تقتضيه الحقائق التي تنبيء عنها دون التجارب العابرة التي تذهب بذهاب الأيام ، ومما يؤكد ذلك ويقويه محاكاتنا وسيرنا على درب النحاة القدماء، وتطبيق القواعد التي ارتضوها ، واحتذاؤنا عين مثالهم، والسير على مناولهم، إيماناً منا بأنهم جهابذة ينأون عن الخطأ ، لأنهم اتخذوا القرآن الكريم بقراءاته ، والشعر في عصر الاستشهاد مداداً لا ينضب ، ووقوداً لا ينفذ لقواعدهم ، .. وكوننا نستعمل قواعدهم ونطبقها فهو القياس بعينه، وعلى ذلك يكون القياس من الحقائق المتعالية التي لا يكون العلم علماً إلاّ به.
ومما لا يدع مجالاً للشك أن لكل علم فلسفة لا تأتي إلا بعد اكتمال العلم وكذلك لكل علم أصول ومقومات لا يقوم إلا بها ، فهي قوامه وعماده ، التي لا غنى عنها ولا يتأتى إلا بها ، ولا يكون العلم علماً إلا بها ، وليس أدل على ذلك من موقف الكسائي الذي لم يكن يرى النحو إلا قياساً لذلك يؤثر عنه:
إنّما النحو قياس يتبع وبه في كل أمر ينتفع(13)
والقياس له عظيم الفائدة للغة وقواعدها ؛فهو بمثابة شهادة ضمان للغة ووقاية لقواعدها من اللحن والتحريف ، وقد وافق الدكتور إبراهيم أنيس المحدثين ، وذهب إلى ما ذهب إلـيه المجددون من الباحثين الذين ينادون بإباحة القياس اللغوي للموثوق بهم من أدبائنا وشعرائنا ، لا إلى جــعل القياس في اللغة بأيدي الأطفال وعامة الناس كما هو الحال في كل لغة يترك أمرها لسنة التطور(14)
فالقياس هو أدعى إلى الاختصار باعتباره يقيس الظاهرة على ظاهرة أخـرى ويحكم لها بحكمها ، فتأخذ الظاهرة المقيسة حكم الظاهرة المقاس عليها ،وقد أدرك القدماء فائدته لذلك يقول أبو علي الفارسي " أخطيء في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في واحدة من القياس " (15) ويقول عنه ابن جنى " مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عـيون الناس " (16)
وأشار إلى أهمية القياس الشيخ محمد الخضر حسين ، حيث يرى أن القياس طريق يسهل به القيام على اللغة بحيث يكون وسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل أو يحتاج إلى الوثوق من صحة عربيتها ، إلى مطالعة كتب اللغة والدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها. (17)
مفهوم القياس :
يفهم القياس من قول ابن الأنباري " اعلم أن القياس في وضع اللسان بمعنى التقدير ، وهو مصدر قايست الشيء بالشيء مقايسة وقياساً :قدرته ومنه المقياس أي المقدار ،وقيس رمح ٍ أي قدر رمح " (1)
أما القياس في النحو فهو حمل غير المنقول على المنقول في حكم علة جامعة ، ويعد ابن أبي اسحق " أول من بعج النحو ومد القياس ، وشرح العلل " (2) ، وقبل أن نستطرد في حديثنا عن مفهوم القياس ،لابد من ذكر أركانه وهي أربعة :
1- أصل وهو المقيس عنه
2- فرع وهو المقيس
3- حكم
4- علة جامعة
المقيس عنه : ومن شروطه :
1- ألاّ يكون شاذاً خارجاً عن سنن القياس ، فما كان كذلك لا يجوز القياس عليه كتصحيح مثل :استحوذ ، استصوب ،استنوق ، وكحذف نون التوكيد في قوله : " اصرف عنك الهموم طارقها " أي (اصرفن) ووجه ضعفه في القياس إن التوكيد للتحقيق وإنما يليق به الإسهاب والإطناب لا الاختصار والحذف .
2- كما لا يقاس على الشاذ نطقاً لا يقاس عليه تركاً ،كامتناعك عن (وذر ،ودع ) مع جوازهما قياساً لأن العرب تحامتها .
3- ليس من شرط المقيس عليه الكثرة ، فقد يقاس على القليل لموافقته للقياس ويمتنع على الكثير لمخالفته له مثال الأول : شنئي نسبة إلى شنوءة ، اكتفى سيبويه بهذا الوارد لأن السماع لم يرد بخلافه لا في هذا اللفظ ولا فيما كان من نوعه ، فقاس عليه وجعل وزن (فعليّ) قياساً في (فعولة) مع انه لم يقع إليه من شواهد الا هذه الكلمة المفردة ، فهو يقول في النسب إلى( ركوبة ،حلوبة : ركبيّ وحلبيّ ) . أما الاخفش فجعله شاذاً لا يقاس عليه ،ونسب إلى الكلمتين بقوله : ( ركوبي،وحلوبي) لكن القياس يؤيد سيبويه في قياسه على شنوءة شنئيّ بما يأتي :
فعولة _فعيلة ، فكل منهما ثلاثي ، وثالثه حرف لين وانتهى بتاء التأنيث فجعلوا واو شنوءة كياء حنيفة وعاملوها مثلها في النسبة . ( ولا يقول في ضرورة :ضروري لأنه لا يقال في جليلة : جللي )
قال أبو الحسن :" فان قلت : إنما جاء هذا في حرف واحد ( يعني شنوءة ) فالجواب انه جميع ما جاء " .
ومثال الثاني ك قولهم في ( ثقيف وقريش وسُليم ) :ثقفي وقرشي وسُلمي وان كان أكثر من شنئي فانه عند سيبويه ضعيف في القياس فليس لك أن تقول في سعيد :سعدي .
4- للقياس أربعة أقسام :
أ- حمل فرع على اصل كإعلال الجمع لإعلال المفرد مثل ( قيمة : قيم ) أو تصحيحه لصحة المفرد مثل ( ثور : ثِوَرة ) .
ب_ حمل اصل على فرع لإعلال فعله ( قام : قياماً ) أو تصحيحه لصحة فعله مثل ( قاومت : قواماً ) .وكحذف الحروف في الجزم وهي أصول حملاً على حذف الحركات .
ج- حمل نظير على نظير : منعوا ( افعل التفضيل ) من رفع الظاهر لشبهه بـ ( افعل التعجب ) ،وأجازوا تصغير افعل التعجب حملاً على اسم التفضيل .
د- حمل ضد على ضد : من أمثلته النصب بـ ( لم ) حملاً على الجزم بـ ( لن ) اولهما لنفي الماضي والثاني لنفي المستقبل .
المقيس :
وهل يوصف بأنه من كلام العرب أم لا . وقد قال ابن جني :" اللغات على اختلافها كلها حجة , والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطيء " .
الحــكم ، وفيه مسألتان :
جواز القياس على حكم ثبت بالقياس ( إذ الأصل أن يثبت بالسماع ) وجواز القياس على أصلٍ اختلف في حكمه كقولهم في (الا ) أنها نابت فناب الفعل فهي تعمل عمله قياساً على ( يا ) ، فان إعمال ( يا ) مختلف فيه .
العـــلل :
1- اعتلالات النحويين صنفان : علة تطرد على كلام العرب وتنساق إلى قانون لغتهم ، وعلة تظهر حكمتهم وتكشف عن صحة أغراضهم ومقاصدهم في موضوعاتهم ، فالأولى أكثر استعمالا واشد تداولا وهي واسعة الشعب.
2- يجوز التعليل بعلتين : كقولك ( هؤلاء مسلميّ ) فان الأصل : مسلموي : قلبت الواو ياء لأمرين كل منهما موجب للقلب : اجتماع الواو والياء وسُبق أحداهما بسكون ، والثانية أن ياء المتكلم توجب كسر ما قبلها فوجب قلب الواو ياء وإدغامها .
3- يجوز التعليل بالأمور العدمية كتعليل بعضهم بناء الضمير باستغنائه عن الإعراب وباختلاف صيغه لحصول الامتياز بذلك . (3)
المفهوم الشكلي للقياس النحوي :
وسأعرض لتطور مفهوم القياس عبر القرون ، شهد أواخر القرن الثالث الهجري وبدايات القرن الرابع تحولاً في مفهوم القياس، فلم يعد يعنى باطراد الظواهر واستقراء مادتها والقياس على ما شاع منها واطرد ، بل بدأ يأخذ طابعاً شكليا يعتمد على حمل فرع على أصل لعلة جامعة بينهما ، سواء أكان هذا الحمل هو حمل المسموع على مسموع ، أو مفترض على مسموع أو حكم نحوي على آخر(4) . ولم يكن هذا التحول فجأة ، بل إن من النحاة من أنكـره ولم يسلم به ، وتشبث بما درج عليه الأوائل من فهم له ، ولا أدل على ذلك مـن الفصل الذي عقـده ابن الأنباري " في شُبَه تـورد على القياس " تمثلت فيما يأتي (5) :
1- لو جـاز حمل الشيء على الشيء بحكم الشبه لما كان حمل أحدهما على الآخر بأولى من صاحبه ، فإنه ليس حمل الاسم المبني لشبه الحرف على الحرف في البناء بأولى من حمل الحرف لشبه الاسم على الاسم في الإعراب
2- إذا كان القياس حمل الشيء بضرب من الشبه ، فما من شيء يشبه شيئاً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر فإذا كان وجه المشابهة يوجب الجمع ، فوجه المفارقة يوجب المنع.
3- " لو كان القياس جائزاً لكان ذلك يؤدي إلى اختلاف الأحكام لأن الفرع قد يأخذ شبهاً من أصلين مختلفين فإذا حمل على كل واحد منهما وجد التناقض في الحكم وذلك لا يجوز ، فإن (أن) الخفيفة المصدرية تشبه ( أنّ) المشددة من وجه ، وتشبه (ما) المصدرية من وجه ، و(أنّ) المشددة معمله و(ما) المصدرية غير معمله ، فلو حملنا ( أن) الخفيفة على (أنّ) المشددة في العمل ، وعلى (ما) المصدرية في ترك العمل لأدى ذلك إلى أن يكون الحرف الواحد معملا وغير معمل في حال واحدة ، وذلك محال "(6)
وهذه الاعتراضات لمنكر القياس قد أجاب عنها ابن الأنباري بما يثبت تأييده للقياس والرد على من أنكره وهى تعبير عن رفض فئة مـن النحاة للقياس بمفهومه الشكلي ، ولقد بلغ هذا المفهوم الشكلي للقياس قمة نضجه واكتماله على يد ابن الأنباري ، ثم السيوطي من بعده ، فقد تحددت عندهما حدوده، وأنـواعه ، وأقسامه ، واعتمدا في كثير مما جاءا به على ما كتبه ابن جني في الخصائص. فقال : " أعلم أن القياس في وضع اللسان بمعنى التقدير ، وهو مصدر قايست الشيء بالشيء مقايسة وقياساً ، أي قدرته ، ومنه المقياس أي المقدار وهو في عرف العلماء عبارة عن تقدير الفرع بحكم الأصل ، وقيل هو حمل فرع على أصل بعلة تقتضي إجراء حكم الأصل على الفرع ، وقيل : هو ربط الأصل بالفرع بجامع ، وقيل : هو اعتبار الشيء بالشيء بجامع ، وهذه الحدود كلها متقاربة"(7) " وهذه المحاولة - بما تسعى إليه من إخفاء صفة الأصالة وبما فعلته من الربط بين المدلولين اللغوي والاصطلاحي - قد وقعت في خطأين بارزين :
أولهما: أن تلمُّس الصلة بين هذين المعنيين قد أبعد النحاة عن مقتضيات الدقة العلمية، إذ لو كان لفظ القياس قد أخذ هذا المدلـول الجديد عليه في البحث النحوي ، لعرف به من قديم ، ولترك آثاره في التفكير النحوي وفي البحث النحوي معا ، وذلك غير صحيح .
والثاني : أن اعتبارهم المعنى اللغوي أساس المعنى الاصطلاحي جعلهم ينصرفون عن تحليل المؤثرات الحقيقية في المعنى الجديد للقياس وتقويم آثارها فيما أصابه من تطور ومن ثم ظلت أسباب هذا التطور ومصادره بعض النقاط الغامضة في البحث النحوي(/users/2814/54/98/72/smiles/698865.gif .
أماّ القياس في الاصطلاح ، فمفهوم شامل يدل على مفهومات متعددة ، فمنه" قياس الاستعمال" أو " القياس اللغوي " و " القياس النحوي" و "القياس المنطقي"، والذي يهمنا هنا هو النوع الأول والثاني ، أما القياس الأول فيقوم به المتكلم وأما الثاني فيقوم به الباحث ، وإذا كان القياس الأول هو " قياس الأنماط " فالثاني هو " قياس الأحكام"، وإذا كان الأول هو " الانتماء " فإن الثاني هو "النحو" ، ولعل الذي دعا ابن سلام إلى وصف الحضرمي بأنه " مد القياس " هو معرفته أن الحضرمي قد حول النحو من طابع الانتماء التطبيقي الذي رسمـه علي بـن أبي طالب بقوله : " انح هذا النحو يا أبا الأسود " إلى الطابع النظري الذي يتسم بقياس حكم غير المسموع على حكم المسموع الذي في معناه .
فلا بد لنا إذن أن نفرق بين هذين النوعين من القياس ، " فالقياس اللغوي هو مقارنة كلمات بكلمات أو صيغ بصيغ أو استعمال باستعمال ، رغبة في التوسع اللغوي ، وحرصاً على اطراد الظواهر اللغوية " وهذا القياس يقوم به المتكلم وهو الذي يلجأ إليه الأطفال عندما يقيسون ما لم يسمعوه من جمل أو صيغ على ما سمعوه من قبل وقد يحدث أن يخطئ الأطفال عندما يقيسون ما لم يسمعوه من جمل أو صيغ على ما سمعوه من قبل ، يحدث هذا في مرحلة اكتساب اللغة ، وهي مرحلة مبكرة جداً من عمر الإنسان ، وقد يحدث أن يخطئ الطفل في قياسه ، وهنا يبرز دور الأسرة في إرشاده إلى الاستعمال الصحيح، فالطفل يسمع مثلاً : كبير وكبيرة ، وصغير وصغيرة ، وطويل وطويلة فيظن أن الفرق بين المذكر والمؤنث ينحصر في " تاء التأنيث " فحسب ، لذا يقيس على هذه الكلمات التي سمعها ما لم يسمعه فيقول: أحمر و أحمرة ، وأعرج وأعرجة، وهذا ما يعرف بالقياس الخاطيء.
ويستمر هذا القياس مع ابن اللغة في مراحله المختلفة ، فالكبير أيضاً يستخدم القياس فيقيس ما لم يسمعه من قبل على ما لديه من مخزون لغوي، فليس من المعقول أن يكون قد سمع كل الصيغ والجمل وطرق صياغتها وكذا الأسلوب لذا نراه يلجأ دائماً إلى القياس ، وقد يحدث أن يخطئ أيضاً في قياسه.
ولا شك أن العربي القديم قبل الإسلام قد لجأ في كلامه إلى القياس ، وأخطأ أيضاً في قياسه ، ولكن قياسه لم يكن يوصف بأنه صواب أو خطأ فـي كثير من الأحيان ، ولعل كثيراً من الصيغ والاستعمالات العربية التي نعدها فصيحة صحيحة قد كانت نتيجة هذا القياس الخاطئ .
حتى إذا جاء الإسلام وارتبطت العربية بالقرآن ، لم يعد يسمح لهذا القياس بالانتشار ، فوضعت القوانين والقواعد لحفظ الألسنة من اللحن خاصة بعد انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية، ولولا ارتباط العربية بهذا النص الخالد لتطورت كغيرها من اللغات نتيجة لهذا القياس.
وما تفعله المجامع اللغوية الآن من صياغة الجديد من المصطلحات والألفاظ قياساً على طرق الصــياغة العربيــة لهو نفسه "القياس الاستعمالي "،وذلك لمسايرة التقدم الحضاري وما يصحبه من ضرورة صياغة الجديد من الألفاظ والمصطلحات للاكتشافات والعلوم الجديدة التي لم تكن معروفة في أصل هذه اللغة.
فهذا النوع من القياس هو ما يقصده ابن جنى بقوله: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب "(9) وهو ما يقصده السيوطي عندما ينقل عن ابن الأنباري قوله: " اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس ولهذا قيل في حده النحو: علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب " فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو ، ولا يُعْلَم أحد من العلماء أنكره ، لثبوته بالدلالة القاطعة، وذلك أنا أجمعنا على أنه إذا قال العربي:
" كتب زيد " فإنه يجوز أن يسند هذا الفعل إلى كل اسم مسمى يصح منه الكتابة، نحو: " عمرو" و " أردشير" و"بشر" إلى مالا يدخل تحت الحصر ، وإثبات مالا يدخل تحت الحصر بطريق النقل محال، وكذلك القول في سائر العوامل الداخلة على الأسماء والأفعال ، الرافعة، والناصبة، والجارة ، والجازمة ، ... فلو لم يجز القياس ، واقتصر على ما ورد في النقل من الاستعمال لبقي كثير من المعاني لا يمكن التعبير عنها لعدم النقل ، وذلك مناف لحكمة الوضع، فوجب أن يوضع وضعاً قياسياً عقلياً لا نقلياً... (10)
أما النوع الثاني من القياس فهو "القياس النحوي " أو قياس الأحكام "، وهذا النوع يقوم به الباحث ، ويعرّفه النحاة (11) انه" حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه"، أو " هو قياس حكم شيء على حكم شيء آخر لسبب يوردونه.."، أو بعبارة أخرى " حمل غير المنقول على المنقول فـي حكم لعلة جامعة"، " أو حمل فرع على أصل لعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع " أو " إلحاق الفرع بالأصل بجامع"، وهذا القياس هو المقابل النظري للقياس الاستعمالي ، فإذا كان ما يرمي إليه القياس الاستعمالي " هو الصوغ العملي فإن ما يرمي إليه القياس النحوي هو الحمل النظري ويجب أن يكون الموقف من القياس النحوي منطلقاً من اللغة نفسها، ولا يحكم بمعايير غير لغوية في قياسه، وهذا ما حدث بالفعل في القرنين الأول والثاني الهجريين، ثم تحول موقف الباحث حيث بدأ يحكم معايير غير لغوية في دراسة اللغة.
" وهذا الحمل إما أن يكون مبنياً على علة أو غير مبني على علة ، فإن لم يكن مبنياً على علة فهو ما يسمونه الشبه" ، وهو أقرب أنواع القياس النحوي إلى القياس الاستعمالي ، وإن لم يكن منه تماماً ، ومثاله إعراب المضارع لشبهه باسم الفاعل أما إذا كان مبنياً على علة فإما أن تكون العلة مناسبة أو غير مناسبة، فإذا كانت العلة مناسبة سمي القياس " قياس العلة" ويلزم حينئذ أن يكون هناك أصل وفرع وعلة وحكم ، فإذا كانت العلة غير مناسبة سمي " قياس الطرد" ومثال قياس العلة قياس رفع نائب الفاعل قياساً على الفاعل بعلة الإسناد في كل منهما، ومثال قياس الطرد أن " ليس " مبنية بسبب اطراد البناء في كل فعل غير متصرف ، وكان الأفضل من هذه العلة أن يقال إنها مبنية لأن الأصل في الأفعال البناء فهذا يشكل علة مناسبة..."(12) وفي الحقيقة هذا التقسيم السابق للقياس النحوي إنما هو تقسيم عقلي محض ، وبخاصة إذا علمنا أن أركان القياس الأساسية موجودة في جميع هذه الأنواع وخاصة العلة التي بني على أساسها هذا التقسيم ، فأركان القياس متوفرة في قياس الشبه وهي أربعة: أصل وفرع وحكم وعلة فالأصل هو اسم الفاعل ، والمضارع هو الفرع ، والحكم هو الإعراب ، وشبه الفرع بالأصل هي العلة.
أهمية القيـــاس :
تتعلق بهذه القضية مسألة بالغة الأهمية تتمثل في مدى قدرتنا على الرؤية الشاملة لفهم وتحديد أهمية القياس، أو بعبارة أخرى الأمر الذي تثيره هذه المسألة يتعلق بتساؤل نطرحه على عجل عما يمكن أن يقدمه القياس باعتباره أصلاً من الأصول النحوية التي حكمت فكر النحاة في وضع القواعد واستنباط الأحكام حتى نستطيع تفسير وفهم موقف النحاة القدماء والمحدثين على حد سواء من تلك القضية التي جذبت انتباه القدماء بحثاً وتأليفاً ، وشغلت خلد المحدثين وتضاربت فيها الآراء.
وقبل أن نشرع في تحديد موقف النحاة القدماء والمحدثين لابد أن نقرّ حقيقة غاية في الأهمية مؤداها أن الأصول النحوية عامة والقياس خاصة كالشمعة المضيئة التي تأبى أن تذوب إلا بعد أن تؤدي رسالتها وتنشر نورها في الآفاق ، وهذا ما تقتضيه الحقائق التي تنبيء عنها دون التجارب العابرة التي تذهب بذهاب الأيام ، ومما يؤكد ذلك ويقويه محاكاتنا وسيرنا على درب النحاة القدماء، وتطبيق القواعد التي ارتضوها ، واحتذاؤنا عين مثالهم، والسير على مناولهم، إيماناً منا بأنهم جهابذة ينأون عن الخطأ ، لأنهم اتخذوا القرآن الكريم بقراءاته ، والشعر في عصر الاستشهاد مداداً لا ينضب ، ووقوداً لا ينفذ لقواعدهم ، .. وكوننا نستعمل قواعدهم ونطبقها فهو القياس بعينه، وعلى ذلك يكون القياس من الحقائق المتعالية التي لا يكون العلم علماً إلاّ به.
ومما لا يدع مجالاً للشك أن لكل علم فلسفة لا تأتي إلا بعد اكتمال العلم وكذلك لكل علم أصول ومقومات لا يقوم إلا بها ، فهي قوامه وعماده ، التي لا غنى عنها ولا يتأتى إلا بها ، ولا يكون العلم علماً إلا بها ، وليس أدل على ذلك من موقف الكسائي الذي لم يكن يرى النحو إلا قياساً لذلك يؤثر عنه:
إنّما النحو قياس يتبع وبه في كل أمر ينتفع(13)
والقياس له عظيم الفائدة للغة وقواعدها ؛فهو بمثابة شهادة ضمان للغة ووقاية لقواعدها من اللحن والتحريف ، وقد وافق الدكتور إبراهيم أنيس المحدثين ، وذهب إلى ما ذهب إلـيه المجددون من الباحثين الذين ينادون بإباحة القياس اللغوي للموثوق بهم من أدبائنا وشعرائنا ، لا إلى جــعل القياس في اللغة بأيدي الأطفال وعامة الناس كما هو الحال في كل لغة يترك أمرها لسنة التطور(14)
فالقياس هو أدعى إلى الاختصار باعتباره يقيس الظاهرة على ظاهرة أخـرى ويحكم لها بحكمها ، فتأخذ الظاهرة المقيسة حكم الظاهرة المقاس عليها ،وقد أدرك القدماء فائدته لذلك يقول أبو علي الفارسي " أخطيء في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في واحدة من القياس " (15) ويقول عنه ابن جنى " مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عـيون الناس " (16)
وأشار إلى أهمية القياس الشيخ محمد الخضر حسين ، حيث يرى أن القياس طريق يسهل به القيام على اللغة بحيث يكون وسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل أو يحتاج إلى الوثوق من صحة عربيتها ، إلى مطالعة كتب اللغة والدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها. (17)