خطة المداخلة:
مقدمة
1- عناصر الرأسمال الحضاري
2- تطوّر الرأسمال الحضاري
3- مشكلات تطوّر الرأسمال الحضاري
4- رسالة الحضارة
خاتمة
الملخص:
إنّ الموضوع الذي تبحثه المداخلة يعالج المادة الأولية الخام للتحضر والانتقال من الانحطاط والتخلف إلى عالم الحضارة والازدهار، طرحه وبحثه مالك بن نبي في إطار إستراتيجية البناء الحضاري التي هي جزء من نظرية الحضارة وفلسفة التاريخ في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، فارتبط لديه الفعل الحضاري برأسمال يمثل العدّة الأولية الدائمة للإقلاع الحضاري، بعدما يشهد النماء والتطور والازدهار، ارتبطت العدّة الأولية بمستوى الإنسان وما يميّزه عن غيره وبمستوى الطبيعة وأسرارها وطاقاتها وبمستوى المركب منهما والتفاعل الإيجابي المحدث للتغيير والتجديد في النظر والعمل والتعامل، فيتحقق الإبداع في منتجات حضارية تخدم الإنسان ويفتخر بها، أمام التحدي الحضاري الإنساني يقف عدد من العوائق مصدرها الذاتية والموضوعية معا وتقوى العوائق على المغالبة والاستمرار كلما اتسع مجالها داخل المركب الذاتي الموضوعي. البحث يدور حول طبيعة الرأسمال الحضاري عند بن نبي وعوائق استثماره وإستراتيجية التعاطي معه إيجابيا.
الرأسمال الحضاري وموانع استثماره في فكر مالك بن نبي
مقدمة
شغلت "مالك بن نبي" قضية الحضارة، فأدرك تماما أنّ مشكلة أيّ شعب في أصلها وفي جوهرها مشكلة حضارته، ولما كان العالم العربي والإسلامي يعيش حالة التخلف والانحطاط والانحلال والانعزال والاستعمار بمختلف أشكاله، عاش هو لأمته العربية الإسلامية، ولفكره ولنظريته التي تؤمن بأنّ العالم العربي والإسلامي المعاصر يمتلك من الطاقات والإمكانيات الروحية والمادية ما يدفع به فعلا إلى الإسهام الحقيقي في حلّ مشكلاته وهي مشكلات حضارة لا غير، وما يؤهله لبلوغ التحضر والرقي، وما يسمح بالمساهمة الفعّالة والحقيقية في مسايرة الركب الحضاري المعاصر وفي تطوير العالم.
إنّ التخلف الفكري والديني والثقافي والانحطاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والاستعمار والقابلية للاستعمار كل ذلك أوضاع وظروف تسقط من الوجود إذا تمسكت الأمة الإسلامية بالقاعدة القرآنية التي تدعو إلى التغيير والتجديد والتحوّل على مستوى الذات الإنسانية أولا وفي داخل أعماقها، أما التغيير على مستوى العالم الخارجي الطبيعي والاجتماعي فيكون بعد التغيير الذاتي الباطني للذات الإنسانية ، ويكون الله في عون العبد المسلم ما دام يغيّر ذاته أولا ثم يغير محيطه الخارجي، عملا بقوله تعالى:"لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"."سورة الرعد، الآية11».
إنّ خطة "مالك بن نبي" وإستراتيجيته في البناء الحضاري وأسلوبه في الإصلاح والتجديد كل ذلك يعكس فكره وفلسفته في الحضارة وفي التاريخ، ويجد فيها من دون شك المسلم وغير المسلم في عالم التخلف والانحطاط تعبيرا عن أوضاعه وعن تطلعاته وآماله، كما يجد فيها الوسائل والسبل الكفيلة بالانتقال من عالم التخلف إلى عالم التحضر، فهي إستراتيجية تستحق العناية والاهتمام، وجديرة بالدراسة والبحث والاستثمار.
إنّ الموضوع الذي تبحثه المداخلة يعالج المادة الأولية الخام للتحضر والانتقال من الانحطاط والتخلف إلى عالم الحضارة والازدهار، طرحه وبحثه مالك بن نبي في إطار إستراتيجية البناء الحضاري التي هي جزء من نظرية الحضارة وفلسفة التاريخ في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، فارتبط لديه الفعل الحضاري برأسمال يمثل العدّة الأولية الدائمة للإقلاع الحضاري، بعدما يشهد النماء والتطور والازدهار، ارتبطت العدّة الأولية بمستوى الإنسان وما يميّزه عن غيره وبمستوى الطبيعة وأسرارها وطاقاتها وبمستوى المركب منهما والتفاعل الإيجابي المحدث للتغيير والتجديد في النظر والعمل والتعامل، فيتحقق الإبداع في منتجات حضارية تخدم الإنسان ويفتخر بها، أمام التحدي الحضاري الإنساني يقف عدد من العوائق مصدرها الذاتية والموضوعية معا وتقوى العوائق على المغالبة والاستمرار كلما اتسع مجالها داخل المركب الذاتي الموضوعي. البحث يدور حول طبيعة الرأسمال الحضاري عند بن نبي وعوائق استثماره وإستراتيجية التعاطي معه إيجابيا.
1- عناصر الرأسمال الحضاري
يعتبر "مالك بن نبي" الحضارة كتلة مركبة من عناصر، وعناصر تركيب الحضارة ليست أشياء ومنتجات حضارية بل هي"أصول تفرضها طبيعة المنتجات وشروط تطور الإنتاج".
إنّ المنتوج الحضاري هو كل ما ينتجه المجتمع في عالم الأشياء أو عالم الأفكار، "فكل مفهوم في عالم المفهومات، وكل شخص من عالم الأشخاص باعتباره معادلة كشخصية أنتجتها ظروف التاريخ وشروط التطور كل عيّنة من هذه العيّنات هي منتوج حضاري".
يستخدم "مالك بن نبي" طريقة الكيميائي في تحليل الحضارة إلى عناصرها يقول في ذلك: "ولكي نتناول هذه المشكلة على هذا الشكل يتعيّن علينا اللّجوء إلى الطريقة المعتمدة في مختبر التحليلات".
إنّ المنتجات الحضارية في عالم الأشخاص وعالم الأشياء من طبيعة اجتماعية واحدة، فهي نوع واحد من حيث تركيبتها ووظيفتها الاجتماعية، فالقلم والورقة والحبر أشياء، والكلمات تحمل أفكار ودلالات، والباحث والقارئ والمفكر من عالم الأشخاص، كلّ هذا من نوع واحد، إلا أنّ تفكيك أي عيّنة مما ذكر نجدها مركبة من ثلاثة عناصر أولية هي : الإنسان التراب والوقت.
يمكن التعبير عن كل منتوج حضاري بالمعادلة الأساسية التالية : "منتوج حضاري = إنسان + تراب + وقت.
ويجب الآن أن أكتب هذه المعادلة لكل منتوج من منتوجات الحضارة، من الإبرة إلى ما بعدها، وإلى ما بعد الصاروخ، حتى أُكوّن جدولا كاملا من المعادلات الواحدة تحت الأخرى في هذا الترتيب مثلا:
- منتوج حضاري أول= إنسان + تراب + وقت.
- منتوج حضاري ثاني= إنسان + تراب + وقت.
- منتوج حضاري ثالث = إنسان + تراب + وقت.
- منتوج حضاري أخير= إنسان + تراب + وقت".
يمكن حسب "مالك بن نبي" ترتيب المعادلات وجمعها عموديا على طريقة الجبر وتكون النتيجة التالية: "مجموع منتجات حضارية = مجموع إنسان + مجموع تراب + مجموع وقت".
إنّ جمع إنسان ليس مجمل عدد الأفراد بل النوع البشري فهو نوع لا فرد أو أفراد، وجمع تراب ليس هو حصيلة جمع التراب الطبيعي لكن هو نوع أو مادة، وجمع وقت كنوع ضروري لأي فعل حضاري يصنع المنتوج الحضاري، يمكن صياغة النتيجة النهائية: حضارة = إنسان + تراب + وقت.
إنّ هذا التحليل يفضي إلى نتيجة حتمية مفادها أن الحضارة لا تقوم على ظاهرة تكديس المنتجات الحضارية، بل هي: "بناء مركب اجتماعي يشمل ثلاثة عناصر فقط مهما كانت درجة تعقيدها كحضارة القرن العشرين".
فالإنسان باعتباره أحد عناصر الحضارة لا يكون كذلك إلا احتل مكانه في المجتمع، ككائن اجتماعي يقوم بوظيفة ويؤدي رسالة، والتراب كعامل اجتماعي خاضع لتهيئة فنية ناهيك عن وضعيته القانونية في المجتمع.
«Son conditionnement sociologique»
«Son aménagement technique»
والوقت لا يكون عنصرا أوليا في بناء الحضارة إلا إذا تكيف مع المجتمع، فيتحول إلى زمن اجتماعي تجري فيه جميع العمليات التالية: "الصناعية والاقتصادية أو الثقافية باعتبارها ركيزة تقوم عليها سائر إطرادات هذه العمليات".
إنّ عمل الكيميائي يقوم على فكرة هي أن المركب يتركب حتما من العناصر التي يتحلل إليها، فالماء يتحلل من الهيدروجين والأوكسجين، لا يدخل في تركيب الماء عنصرا آخر غير العنصرين المذكورين، فالعناصر الثلاثة مجموعها يساوي منتوجات حضارية تمثل الحضارة نفسها، لكن حضارة في شتات لا في كتلة ووحده. يلجأ "مالك بن نبي" إلى مختبر التاريخ ليدله "على المركب الذي يتدخل في تركيب العناصر الثلاثة: الرجل التراب، الوقت، كيما يكون بها حضارة". ويتمثل هذا العنصر في الدين باعتباره الأساس الرابع من أسس الحضارة.
يستشهد "مالك بن نبي" بالدور الذي لعبه الدين في تشكيل حضارات عديدة، من خلال تأليفه بين الإنسان والتراب والوقت، فالحضارة الغربية من صنع الفكرة الدينية المسيحية، والحضارة الإسلامية من إنتاج الدين الإسلامي، وفكرة "كوتاما" كدين هي شيّدت الحضارة البوذية، وعليه فمشكلة التحضر لا تُحل باستيراد المنتجات الحضارية وتكديسها، بل بحل مشكلة الإنسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت.
إنّ عناصر الحضارة الأولية الأربعة، الإنسان والتراب والوقت والفكرة الدينية المركبة يسميها "مالك بن نبي" »العدة الدائمة«، فهي تمثل الزاد ورأس مال رجل الفطرة في حركته لبناء الحضارة، فلا يمكن قيام حضارة ما في غياب المادة الأولية متمثلة في رجل بسيط يتحرك وتراب يستغل ويكيف فنيا واجتماعيا وكل هذا يجري في زمن محسوب ونوعي وبفكرة دينية تجمع هذه العناصر في تآلف وتوحيد ترتبط معها المبادئ بالغايات.
إنّ المجتمع قد يعيش بغير المنجزات الحضارية، ومنتجات الحضارة لأن هناك أقوام لم تعرف الحضارة بتاتا لكنه لا يستطيع أن يتنازل عن ثروته الأولية وجوهر حياته الاجتماعية المتمثلة في العدة الدائمة.
إنّ العدة الدائمة تمثل عند "مالك بن نبي" قيّما خالدة، تلك القيّم الخالدة هي "التي نجدها كلما وجب علينا العودة إلى بساطة الأشياء، أي في الواقع كلما تحرك رجل الفطرة وتحركت معه حضارة في التاريخ".
2- تطوّر الرأسمال الحضاري
اختلف المفكرون في عوامل نشأة الحضارة، فهي عندهم تعود إلى العصبية أو تطور الإنتاج ووسائله وعلاقاته، أو إلى العرق أو إلى التحدي والجغرافيا، أو إلى الفكرة الدينية التي تركب بين العناصر الثلاثة، الإنسان والتراب والوقت حسب "مالك بن نبي"، نجد هذا الاختلاف قائما حول طبيعة تكوين الحضارة وأسباب نموها وعوامل أفولها واندثارها .
يرى البعض أن الحركة الحضارية في تكوينها ونموها صاعدة، تبدأ من البسيط وتتجه نحو المركب، وتزدهر بالتراكم والانتقال دوما من القديم إلى الجديد في الفكر والسلوك ووسائلهما، هذا ما يؤكده "باسكال" في الحياة العلمية، و"كارل ماركس" في الحياة الاقتصادية، وهو ما نجده لدى"أوغست كونت" الذي جاء بقانون الأحوال الثلاثة الذي يقضي بمرور الإنسانية عبر مراحل ثلاث في تطورها الحضاري، المرحلة اللاهوتية، المرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية.
غير أن هناك رأي آخر يعتبر حركة التاريخ ليست تقدمية صاعدة كما يتوهم البعض، بل نكوصية تراجعية، فنجدهم يعيبون على مستوى التقدم وسلبياته، ويبرزون الأزمات والشرور التي اجتاحت الإنسانية، وهي نزعة تبدوا تشاؤمية نجدها عند "جيته" و"اسبنجلر" وأصحاب النظريات الرومانسية وغيرها، وهذا "جيته" عبر عن نزعته في الموضوع بما يلي: "لقد صار الإنسان أكثر ذكاء ووعيا ولكنه لم يصبح أكثر سعادة أو أنبل خلقا".
يوجد فريق من المفكرين يرى أن الحضارة في تاريخها تظهر في صورة دورات متعاقبة، وكان "ابن خلدون" أول من نادى بهذه الفكرة، وبعده كثيرون منهم "توينبي" و "وفيكو" وغيرهما، فالحضارة عند "ابن خلدون" تشهد أربع مراحل هي: بداوة، حضارة، ترف، تدهور وأفول. كل مرحلة لها عناصرها وخصائصها، وعمر الحضارة كعمر الإنسان، وهي ليست خالدة في المجتمع بل عارض زمني يمر كبقية العوارض.
إذا كانت الحضارة عند "ابن خلدون" ذات مراحل أربع فهي عند "اسبنجلر" كائن عضوي نشأ بفعل عوامل، ثم تنمو وتنتج وتتطور وتفنى، ولكل حضارة وجودها المستقل عن الحضارات الأخرى، والحضارة عند "توينبي" تبدأ مع التحدي والاستجابة، وتنمو وتزدهر بفعل التحدي والاستجابة دائما، وانهيارها سببه عجز المجتمع عن ممارسة التحدي والاستجابة، والانغماس في الخمول والترف والشعور بمركب العظمة.
من جهة يفسر "فيكو" حركة التاريخ الحضاري أنها ترسم شكلا حلزونيا متصاعدا متجددا باستمرار، يعجز معه الفلاسفة والمفكرون عن التنبؤ بمستقبل ومصير الحضارات، كما توصل "فيكو" إلى نظرية مفادها أن تاريخ البشرية مرّ بثلاث مراحل متتالية، مرحلة لا هوية ومرحلة بطولية، ومرحلة إنسانية، وكل مرحلة وكل حضارة تكون أحسن من التي سبقتها لأن الإنسان دائما يصحح أخطائه ويستفيد من خبرات وزلات الغير.
درس "مالك بن نبي" جميع نظريات الحضارة و"فلسفة التاريخ" وحكم عليها، وقدم في النهاية نظريته، فهو يقول في تفسير التاريخ عند "ابن خلدون": "أما ابن خلدون فقد تمكن من قبل من اكتشاف منطق التاريخ في مجرى أحداثه فكان بهذا المؤرخ الأول الذي قام بالبحث عن هذا المنطق إذا لم نقل أنه قد قام بصياغته فعلا، فقد كان يمكن أن يكون أول من أتيح له أن يصوغ قانون الدورة التاريخية (la loi du cycle) لولا أن مصطلح عصره قد وقف به عند ناتج معين من منتوجات الحضارة ونعني به – الدولة - وليس عند الحضارة نفسها".
ينقد "مالك بن نبي" التفسير الماركسي لحركة التاريخ والحضارة، لكونه ينطلق "من حتمية مادية أي من عملية ميكانيكية لا إرادية لتخطيط الحضارة". وينعت تفسير "سبنجلر" بالعنصري، لكونه يربط الحضارة بعبقرية خاصة منفردة، ويرد على "توينبي" بأن تفسيره لا ينطبق على العديد من الحضارات التي شهدها تاريخ الإنسانية، فالحضارة الإسلامية لم تنشأ بالتحدي والجغرافيا، مما يدل على قصور نظرية "توينبي" في "فلسفة التاريخ".
على ضوء الدراسة التي قام بها "مالك بن نبي" للنظريات المتعددة والمختلفة في "فلسفة التاريخ" والانتقادات التي وجهها لها وعلى ضوء معطيات التاريخ بهدى طريقة التحليل النفسي الفردي والجماعي التي سلكها توصل إلى نظرية في عناصر الحضارة وأطوارها ، وعمر الحضارة وأطوارها تتحدد وتنفتح من خلال الصورة التخطيطية التالية:
يظهر من الرسم التخطيطي أن الدورة التاريخية لأي حضارة ما "تقع بين حدّين اثنين: الميلاد والأفول والمعنى البياني يبدأ بالضرورة من النقطة الأولى في خط صاعد، ليصل إلى النقطة الثانية في خط نازل". أما التطور الانتقالي الذي يتوسط الخطين "هو الأوج". فالحضارة تعرف مراحل هي: مرحلة النهضة ومرحلة الأوج ومرحلة الأفول، وكل مرحلة من هذه المراحل تتحدد بخصوصيات ترتبط بمجال ما من مجالات الطبيعة البشرية وبخصوصيات ومتطلبات كل مجال، فمرحلة النهضة ترتبط بالروح وتصدر عنها، ومرحلة الأوج تتصل بالعقل وتتوسع بإمكانياته وثماره، ومرحلة الأفول تصنعها الغريزة.
إنّ دورة الحضارة تبدأ عندما "تدخل فكرة دينية معينة في التاريخ أو"عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين"(ethos) على حد قول »كسرلنج« كما أنها تنتهي حينما تفقد الروح نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح".
في نقطة الصفر من الدورة الحضارية يكون الإنسان في مرحلة سابقة على الحضارة، وعندما تبدأ الحضارة بدخول فكرة دينية في التاريخ لتحركه، يكون الإنسان في مرحلة الحضارة، أما في نهاية الدورة تُسلب من الإنسان حضارته فيكون في مرحلة ما بعد الحضارة.
ففي مرحلة ما قبل الحضارة يعيش الإنسان على الفطرة والطبيعة، بحيث تسيطر عليه الغرائز وتشده الحاجات البيولوجية ويسود التنازع على البقاء وتسيطر الفوضى على حياة الفرد والتجمعات البشرية، أما في مرحلة الحضارة يقفز الإنسان إلى النظام والقيم العليا والازدهار الاقتصادي والاجتماعي والفكري بفعل التحام الإنسان بالتراب والوقت بفعل الفكرة الدينية، فتستولي الروح على حياة الإنسان ويسيطر العقل ويتوسع استعماله وتكثر منتجاتها، أما في مرحلة ما بعد الحضارة يكون الإنسان قد "تفسخ حضاريا وسُلبت منه الحضارة تماما".
أما بالنسبة لأطوار الدورة الحضارية في التاريخ، فطور النهضة أو الروح فيه تتحرر الروح كليا من ربقة الغرائز وتقوم بتنظيم تلك الغرائز وضبطها وتوجيهها لا إلغائها، والروح الإسلامية انطلقت من صيحة "بلال ابن رباح" وهو يكرر قوله : أحد....أحد....."إنّها صيحة الروح التي تحررت من إسار الغرائز بعدما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائيا في ذاتية بلال بن رباح". ويبدأ الصراع بين الغرائز المكبوحة وبين الروح لأن الغرائز حينما تُكبت وتُكبح تبقى تحافظ على نزوعها نحو التحرر والإشباع.
أما طور النهضة أو الأوج فيه يشهد المجتمع تطوره وتتثبت القيّم العليا وتكتمل شبكة صلاته الداخلية وتتوطن كلما اتسع مجال الفكرة الدينية في العالم، ويستمر التطور ويأخذ العقل مكانه في الدورة فتزدهر العلوم والفنون والصناعات وتزداد المنافع ويتجه الإنسان نحو البذخ والترف في عهد سلطان العقل الذي لا يملك السيطرة على الغرائز مثلما الحال في عهد الروح، لذا تبدأ الغرائز في التحرر وتبدأ الروح تفقد سلطانها شيئا فشيئا عليها، والغرائز تتحرر تدريجيا حسب درجة ضعف سلطة الروح، والحال هنا نجده في عصر النهضة الأوروبية بالنسبة للدورة الحضارية في أوروبا حديثا، وفي عصر الأفول بالنسبة للدورة الحضارية الإسلامية.
أما طور الأفول الذي يبدأ في أواخر الطور الثاني وفي الوقت الذي تنقص فيه الفعّالية الاجتماعية للفكرة الدينية و"تستعيد الطبيعة غلبتها على الفرد وعلى المجتمع شيئا فشيئا".
فنهاية الدورة تكون عندما يفقد الإنسان همته "قوة الإيمان" وتتوقف الرياح التي حركته، كما يتوقف نور الروح ويتوقف معه إشعاع العقل، "والروح وحدها هي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثر جاذبية الأرض".
فنظرية أطوار الحضارة وحركة الدورة الحضارية تؤكدها التجارب التاريخية العامة، كتجربة الدورة الحضارية المسيحية وكذلك الدورة الحضارية الإسلامية، "ولا تكاد حضارة ما تشذ عن هذه القاعدة". والحضارة حلقة في تسلسل الدورات الحضارية في تاريخ الإنسانية، "إذ تبدأ الحلقة الأولى بظهور فكرة دينية ثم يبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها بعد أن تفقد الروح ثم العقل".
3- مشكلات تطوّر الرأسمال الحضاري
يتضح من عناصر مشكلات الحضارة وأطوارها أن الحضارة ظاهرة إنسانية تتشكل من الإنسان والتراب والوقت، بفعل الفكرة الدينية التي تدخل التاريخ وتؤلف بين العناصر الثلاثة السابقة، أعظم مشكلة في حياة الإنسان حسب "مالك بن نبي" هي مشكلة الحضارة ذاتها وترتبط هذه المشكلة بالعناصر الأولية المكونة للحضارة من جهة وبمشاكل تحيط بالإنسان، تختلف باختلاف بيئته، "فالإنسانية لا تعيش ولا تعاني مشكلة واحدة، بل مشاكل متنوعة تبعا لتنوع مراحل التاريخ".
إذا كانت مشكلة الإنسان الكبرى هي الحضارة من حيث عناصرها وشروط بنائها وأسباب هدمها، فإن هذه القضايا تطرح تساؤلات ترتبط بالإنسان والتراب والوقت من جهة وبالمحيط الذي يعيش فيه الإنسان من جهة أخرى، وهو يختلف من مكان إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، وبالتالي توجد ثلاث مشكلات فرعية تنحل إليها مشكلة الحضارة وهي مشكلة الإنسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت.
إنّ مشكلة الإنسان يحددها السؤال التالي: كيف السبيل إلى إنسان قادر على بناء حضارة والمحافظة عليها ؟. ويؤكد "مالك بن نبي" على هذه القضية من خلال فكرة تُعتبر إجابة على سؤال: هل نحن في حاجة إلى مؤسسات أم إلى رجال ؟، "يجب أولا أن نصنع رجالا يمشون في التاريخ مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافه الكبرى". ولبلوغ هذا المبلغ يجب الإلمام بالمشكلة برمتها – مشكلة الحضارة – والتركيز على عنصرها الأساسي القيادي المؤثر بقوة وهو الرجل، وينبغي فهم كيف يؤثر هذا الإنسان في تركيب الحضارة، والفرد يؤثر في مجتمعه "بثلاثة مؤثرات:أولا: بفكره، ثانيا: بعمله، وثالثا: بماله"، وبالتالي ينبغي توجيهه في الجوانب الثلاثة، توجيه الثقافة وتوجيه العمل وتوجيه المال أو رأس المال.
لكي يكون الفرد إيجابيا داخل المجتمع يتطلب الأمر التوجيه الثقافي الصحيح، الذي يراعي كافة عناصر الثقافة ويحدد معناها، وتوجيه الثقافة يشمل الجانب الخلقي والجمالي والمنطق العملي وكذلك الصناعة بتعبير ابن خلدون.
"إن توجيه العمل في مرحلة التكوين الاجتماعي عامة يعني سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد بما في ذلك جهد السائق والراعي، وصاحب الحرفة، والتاجر الطالب، والعالم والمرأة، والمثقف والفلاح لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء". إنّ الكرامة والرفاهية تنبثقان من توجيه العمل الذي هو تأليف لكافة الجهود لتغيير وضع الإنسان، وإيجاد محيط جديد بجعل العمل وسيلة لكسب القوت بعدما كان"التوجيه المنهجي للعمل شرطا عاما أولا".
إنّ توجيه رأس المال باعتباره قوة مالية مجردة تختلف عن الثروة، تكونت مع ظهور الصناعة الميكانيكية، فالمال الذي صار قوة تنتقل من بلد إلى آخر وتُقيم العلاقات الاقتصادية بين البلدان، تُسخر الأيدي والعقول حيثما نزلت، إنّ توجيه هذه القوة لا يرتبط بكمها بل بكيفها ونوعها، إذ ينبغي أن تصير كل قطعة نقدية متحركة تنتج معها العمل والنشاط، أما التوفير فيأتي في الدورة الثانية. "إنّ القضية ليست في تكديس الأموال بل بتحويل معناها الاجتماعي من أموال كاسدة إلى رأس مال متحرك، يُنشّط الفكرة والعمل والحياة في البلاد". وهذا يرتبط بأسلوب يصل إلى التخطيط الملائم لبناء حياة اقتصادية لا تكون فيها الأموال في أيدي فئة قليلة "تستغل السواد الأكبر من الشعب بل يجب أن يتوفر فيه إسهام الشعب مهما كان فقيرا، وبذلك يتم التعادل بين طبقات المجتمع، وتنسجم مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد".
إذا كانت مشكلة الحضارة الأولى هي مشكلة الإنسان فإن المشكلة الثانية هي مشكلة التراب، التراب هنا لا يعني تلك المادة في الطبيعة من حيث خصائصها وأنواعها، ولكن التراب كنوع ومن حيث قيمته ووظيفته الاجتماعيتين المستحدثتين من مالكي التراب، وقيمة التراب تكون غالية أو منحطة حسب تحضر الأمة أو انحطاطها.
ترتبط مشكلة التراب في أصلها بمشكلة الإنسان الذي يملك هذا التراب، وهو مادة جامعة لا تقدر على الحركة إلا إذ حركتها أيدي ذات توجيه تقني وفني وثقافي قوي وسليم، فالياباني حسب "توينبي" استطاع أن يستغل الوظيفة الاجتماعية للتراب لوجود عنصر التحدي والاستجابة لديه رغم ضعف تربته فهي جزر ذات جبال وصخور، ونجد الإندونيسي الذي عجز عن إدراك وظيفة التراب اجتماعيا فهو غارق في التخلف، وفي الحالتين يعود الأمر إلى موقف الإنسان من التراب وليس إلى طبيعة التراب ذاته.
إنّ المشكلة الثالثة من مشكلات الحضارة هي مشكلة الوقت، وترتبط هذه المشكلة في نظر "مالك بن نبي" بمشكلة الإنسان، "والواقع أننا عندما نضع مشكلة الإنسان تحت زاوية النمو يبدوا لنا الزمن كبعد من أبعاد فعّاليته، فالمشكلة "أعني مشكلتي الإنسان والزمن" مترابطان فيما بينها، والمواجهات التي تقدم حلاّ لأولهما تحل كل الثانية معها".
إنّ موقف الإنسان من الوقت هو الذي يحدد قيمته الاجتماعية، ويجعل منه عامل بناء وتشييد أو عنصر هدم وتدمير وضياع، فبمقدار ما يُقدس الزمن في العمل بمقدار ما يوظف التراب كشرط عام أولا وكأداة للحصول على القوت اليومي ثانيا، وتتحقق الوظيفة الاجتماعية للوقت ويصير عنصرا أساسيا في بناء المجتمع وتحريك التاريخ وتكوين الحضارة.
فالألمان مثلا تمكّنوا من استعادة ما دمرته الحرب العالمية الثانية في وقت قياسي واسترجعوا مكانتهم بين الأمم المتحضرة في أقل من عشر سنين من توقف الحرب، ويعود ذلك إلى تدابير تتعلق كلها بنبذ التهاون في العمل وتقديس الوقت ومضاعفة وقت العمل وغيرها، وإدراك المسلمين في بداية نهضتهم لوزن الوقت واعتمادهم على مبدأ تقديس الوقت هو الذي دفع بالنهوض الحضاري لديهم.
إنّ احترام الوقت وتقديسه لا يعني السرعة الكبيرة في ممارسة المخططات والتهور المؤدي إلى خيبة الأمل وعدم الوصول إلى النتائج المسطرة، واحترامه لا يتحقق لدى لأي فرد أو أي مجتمع بل يضمنه العمل بالتوجيه في مختلف صوره الأخلاقية والجمالية والمنطقية والثقافية بشكل عام.
إنّ المعجزة الألمانية صنعتها عوامل كثيرة "من بينها الاقتصاد في الجهاز الإداري في التكاليف الإدارية، فقد أصبح كثير من أعمال الحكومة يقوم به أفراد الشعب كواجب عليهم، ولكن العامل المهم من هذه العوامل جميعها هو: الزمن".
نستنتج مما سبق- مع مالك بن نبي- أنّ الجامع المركب بين العناصر الثلاثة، الإنسان والتراب والوقت هو الفكرة الدينية، وعناصر الحضارة هي نفسها مشكلاتها، وتشهد الحضارة في دورتها الحضارية ثلاثة أطوار، طور النهضة وطور الأوج وطور الأفول، ومشكلات الحضارة لا تُحل بالاستيراد والاقتناء والتكديس، "ولكنها تستوجب حل ثلاث مشكلات جزئية:
- مشكلة الإنسان وتحديد الشروط لانسجامه مع سير التاريخ.
- مشكلة التراب وشروط استغلاله في العمليات الاجتماعية.
- مشكلة الوقت وبث معناه في روح المجتمع ونفسية الفرد".
4- رسالة الحضارة
ترتبط رسالة الحضارة بالإنسان وبحياته عامة في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع، كما تتصل بتاريخه وبثقافته، لأنّ الحضارة تمثل دورة تاريخية يصنعها الفرد ويعيشها داخل المجتمع، وتمثل الثقافة مظهر هذه الدورة ومحيطا يعكسها، كل هذه المعطيات تعيش معا بل تتآلف ضمن إطار تضبطه وتنظمه جملة من السنن تجمع بين المبادئ والسبل والغايات، فتحقق وظيفة الحضارة ورسالتها.
إنّ ما يدفع بني البشر على التعاون والاجتماع فيما بينهم هو عجز الفرد الواحد عن أداء جميع الوظائف والحصول على كافة الحاجات، فحاجة الناس إلى بعضهم البعض ضرورة تفرضها طبيعتهم ورغبتهم التي فطروا عليها في العيش معا، وبالاجتماع يتم التفاهم والتعاون وفق قيّم وعلاقات اجتماعية وفردية تشكل المجتمع وتبني الحضارة،
هذه الحضارة ترتبط بالمجتمع وتعكس تطوره وإنسانيته، وأي اجتماع بشري خالي من الحضارة حتى ولو شهد شيئا من التطور في حياته فهو اجتماع ذو طابع بدائي، يسوده قانون الغاب، وهو أمر لا يتناسب مع ضمان إنسانية الإنسان، فالحضارة تلازم المجتمع وتضمن تلك الإنسانية في أبعد صورها وأشكالها، فالحد الفاصل عند "مالك بن نبي" بين الإنسان المتحضر والإنسان اللاّمتحضر أي البدائي الهمجي هو هذه الحضارة، أي أن الحضارة تفصل بين الحياة البدائية الهمجية المتوحشة الخالية من الأمن والاستقرار والحياة الإنسانية المدنية التي يسودها الأمن والتطور والازدهار في مختلف المجالات.
إنّ المجتمع المتحضر يضمن لأفراده بقائهم ويوفر لهم جو الحرية ويحميهم من مخلّفات الانحدار في مختلف ميادين الحياة الفكرية والاقتصادية، فالحضارة هي "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذلك من أطوار نموه".
من دون الحضارة لا يصير الإنسان محصنا في حياته ومصيره، غير آمن، وحاجاته لا تتحقق، ويصبح مهدد في شخصيته الفردية والوطنية والدينية، "فالإنسان الذي لا يكون مجتمعه مجتمع حضارة فهو معرّض للحرمان من الضمان الاجتماعي، فأنا حينما أحاول تحديد مجتمع أفضل فكأنني أحاول تحديد أسلوب حضارة، إذ أنني حينما أحقق الحضارة، أحقق جميع شروط الحياة، والأسباب التي تأتي بمتوسط الدخل المرتفع، بمعنى أنني أحقق الخريطة الاقتصادية ونتائجها الاجتماعية والثقافية أيضا".
إنّ حركة المجتمع الشاملة في مجال الفكرة الأخلاق والاقتصاد التي تضمن لنفسها انسجاما كافيا بين الحياة الروحية والحياة المادية في مستوى حياة الفرد وفي مستوى حياة المجتمع هي التي تنتج الحضارة، والمجتمع هو تجمع بدائي ما لم تكن له حضارة يتحرك بها باستمرار نحو الأفضل.
"تكتسب الجماعة الإنسانية صفة "المجتمع" عندما تشرع في الحركة، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها، وهذا يتفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة". وهذا يعني أنّ الجماعة البشرية غير المتحركة لا تغيّر نفسها لأن ليس لها غاية، وبالتالي فهي جماعات بدائية تعيش في مرحلة ما قبل الحضارة.
يصور لنا "مالك بن نبي" الدور الذي تلعبه الحضارة في صلتها بالمجتمع والتاريخ، هذا الدور لا يمكن أن تقوم به جهة أخرى غير الحضارة باعتبارها المحيط الذي يوفر الشروط الضرورية لبناء الفرد وبناء المجتمع وبناء التطور والازدهار في كافة مجالات الحياة، كما يبين لنا كيف تؤدي الحضارة رسالتها العظمى المتمثلة في الانتقال من المجال الطبيعي البيولوجي الغريزي إلى المجال الإنساني المليء بالقيّم والنظم والتطور، "لأنّ الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية هو ما نطلق عليه اسم الحضارة".
إنّ الحضارة تنشأ في التاريخ، ينشئها المجتمع في حقبة تاريخية معينة، والطبيعة هي تعطيه الطاقة، هذه الطاقة وحدها غير قادرة على تشكيل الحضارة ما لم يتدخل الإنسان ويوجهها صوب غايات واضحة ومحددة، فالحضارة هي ازدهار وتطور في كافة الميادين وباستمرار ونحو الأحسن، لكن ذلك مشروط بانسجام النظام الفكري الذي يوجه هذه الحضارة مع الإمكانيات المتوفرة والتي يمكن توفيرها، وبالانسجام بين هذين المعطيين وأبناء المجتمع الساعي إلى التحضر والراغب فيه.
إنّ المجتمع العامر بالحضارة هو متميز عن غيره بما يحمله من خصائص حضارته التي يشترك فيها جميع أفراده، وبتالي نمط حضارته واحد هو الذي يدفع أفراده إلى التعاون لبلوغ الأهداف والغايات المسيطرة، ولا يحصل نهوض حضاري في جزء من فئات المجتمع دون الأخرى، إنّ "الخليفة المسلم والراعي المسلم يتصفان بسلوك واحد لأن جذور شخصيتهما تغوص في أرض واحدة، هي المآل الروحي للثقافة الإسلامية، والطبيب الإنجليزي والطبيب المسلم يختلف سلوكهم لأن جذورهما لا تغوص في نفس الأرض على الرغم من أن تكوينها المهني يتم في إطار منهج واحد فلكل ثقافة وجودها الخاص، بحيث تزداد قدرتها على التمييز كلما تغير المستوى الاجتماعي لجانبي المقارنة".
لقد قامت الحضارة الإسلامية بدخول »الروح القرآنية« فألّفت بين عناصر التحضر، وانتقل على إثرها الإنسان العربي من حياة البادية القائمة على الترحال والبساطة إلى حياة عرفت دولة إسلامية قوية جدا بعدتها وعددها عسكريا واقتصاديا وفكريا، قائدها "محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وبهذا المثال تتجلّى الرسالة الروحية للحضارة، فالحضارة تقوم حينما يدخل الإنسان التاريخ بفكرة دينية تحدد المبدأ والمسار والمصير، وهي رسالة أرادها "مالك بن نبي" أن تكون لدى الإنسان المسلم كما يلي: "إذا أراد المسلم أن يسد هذا الفراغ في النفوس المتعطشة، النفوس المنتظرة لمبررات جديدة فيجب أولا أن يرفع مستواه إلى مستوى الحضارة أو أعلى منها كي يرفع الحضارة بذلك إلى قداسة الوجود، ولا قداسة لهذا الوجود إلا بوجود الله، والمسلم إذا أتى بهذا لا بلسانه ولا بشطحاته الصوفية وإنّما كإنسان معاصر للناس شاهد عليهم بالتقى والورع بنزاهة الشاهد الصادق الخبير الواعي لقيمة شهادته إذا أتى المسلم هكذا في صورة الإنسان المتحضر الذي اكتملت حضارته بالبعد الذي يضيفه الإسلام إلى الحضارة "وهو بعد السماء"عندئذ ترتفع الحضارة كلها إلى القداسة".