الطغيان والاستبداد
الطغيان والاستبداد متلازمان نتاجهما الظلم وغمط الحق ، والنفس البشرية تواقة للحرية بطبعها ، تكره من يكبلها ويضع القيود لها .
ولعل التساؤل الذي يهم الجميع ما هي العوامل التي تهيئ للطغيان وجوده وكذلك خلق الطاغية ، وكذلك تكوين عقلية الطاغية الذي يعيث فسادا في الأرض .
تعريف الطغيان :
يعرف الخليل بن أحمد الفراهيدي الطغيان بقوله : الطغيان : الواو لغة فيه وقد طغوت وطغيت والاسم الطغوي . وكل شيء يجاوز القدر فقد طغى ( كتاب العين – ج4- 435 ).
ويقول ابن فارس ( وكل مجاوز للحد في العصيان طاغ ( مجمل اللغة ج2 – 583 ) .
وتكاد تجمع المعاجم كلها على أن الطغيان هو تجاوز الحد ، وقد أشار القران الكريم الى هذا المعنى . انظر كذلك لسان العرب والقاموس المحيط في نفس المعنى .
وعليه فقد كان معنى الطاغوت في لسان العرب ، الطاغية : الجبار العنيد .
وقال ابن شميل : الطاغية : الأحمق المستكبر الظالم .
فالطاغية إذن هو الذي لا يبالي بما يفعل فيقهر الناس ويغلبهم من غير خوف أو وجل أو حرج ويثنيه عن ذلك شيء ، وذلك لتجاوزه الحد في الجبروت والتعالي والتكبر والمعاندة والظلم وغمط الحق .
وهو ليس لأفعاله قانون يقيدها ، فهو فوق كل قانون ، وفوق كل اعتبار .
وتعريف الطاغية في التفاسير كما ذكر أن الجوزي والشوكاني ( أنه الزيادة على القدر والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة ) .
( ابن الجوزي : زاد المسير ج1- 36 – والشوكاني –فتح القدير ج4 -482 )
وكون الطاغية من يسوس البلاد والتي من معانيها : فن الحكم والقواعد المنظمة للعلاقات الدولية بين الدولة وغيرها من الدول والمنظمات الدولية ، فهو يخرج عن هذه القواعد في التعامل الخارجي كما الداخلي .
ولعلنا في الحديث عن الطغيان نميل الى الحديث عن الاعتدال في السياسة بين الراعي والرعية بعيدا عن الطغيان نرى تعريف الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه للسياسة مع الرعية بقوله ( إني لأضع سيفي حيث يكفيني سوطي ، ولأضع سوطي حيث يكفيني لساني ، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، كانوا إذا مدوها أرخيتها ، وإذا أرخوها مددتها ) .
هذا التعريف الراقي والرائع للسياسة بين الراعي والرعية ، فقد جعل الأمر بيد الرعية يشدون فيرخي ، ويرخون فيشد .
فهي إذن تعريف للسياسة : فن ممارسة القيادة والحكم وهي أيضا العلاقة بين الحاكم والمحكوم وكان هذا الامر يتطابق تماما مع تعريف السياسة في موسوعة السياسة ج3 – 362 .
وقد تتفق القواميس الانجليزية على تعريف الطغيان : انه القسوة والاعتباط في استخدام القوة .
ولا يكون هذا التجاوز إلا بطغيان وضرب القوانين بعرض الحائط .
الطغيان في القران الكريم :
وردت كلمة طغى ومشتقاتها في القران الكريم في تسعة وثلاثين موضعا :
وردت كلمة طغى : ست مرات
ويطغى : مرتين
أما كلمة طاغية فقد وردت مرة واحدة .
وكلمة طغيان : وردت تسع مرات .
كما وردت ( طغيان ) مقرونة بكلمة ( يعمهون ) في خمس ايات كقوله تعالى ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) البقرة 5 ، وكان المعني للطغيان هنا الكفر والضلال .
وفي سورة ( ق ) الاية 27 قوله تعالى ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ، ولكن كان في ضلال بعيد ) والمعني عند الزمخشري ( ما جعلته طاغيا وما اوقعته في الطغيان ، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى ) . ( الزمخشري – الكشاف 4 91 ) .
وهو ما ذهب اليه المفسرون في تفسير كلمة طغيان بما فيهم شيخهم الطبري .
وقد وردت طغى بمعنى الطغيان السياسي في الآيات الكريمة ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) طه |24 ، النازعات |17 ، والآية 37 في سورة طه قوله تعالى ( قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ) طه 45 .
ويذهب البعض أن طغى تجمع بين أمرين معا هو الكفر بالله والتعدى على خلق الله واستعبادهم وتسخيرهم لمصلحته وهو ما توحي به الاية الكريمة في سورة طه 45 ( قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ) .وكذلك قوله في موضع آخر مخاطبا قومه كما وضحت الاية الكريمة (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِين ) القصص 28 ، والطاغية هنا فرعون والنمرود وغيرهم من الطغاة كانوا يدعون الإلوهية طغيانا وكفراً ويتعاملون مع الناس من منطلق القدرة عليهم والتحكم بهم حتى في حياتهم ومعيشتهم فالنمرود يخاطب نبي الله ابراهيم عليه السلام بنص الآية الكريمة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ) وقول فرعون مخاطبا موسى بقوله ( قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) الشعراء (29) وهو ما نلخصه أنه أي الطاغية سيء السلوك مع الخالق والعباد .
وهكذا فإن تتبع كلمة طغى ومشتقاتها في القران الكريم تدل على تجاوز ما وجب عليهم واغتروا بقوتهم فتجاوزوا حدود الله واستكبروا على ربهم بادعاء الالوهية وعتوا وتمردوا .
ولذلك كان جزاؤهم العذاب الشديد لهم ولمن تبعهم من بطانة فاسدة حوله زينت له سوء عمله لقوله تعالى (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) الصافات 37 .
ولن ينفعهم الاعتذار او الندم او العتاب ولهم موقف في النار ( قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ ۖ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ۖ فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ) سورة ص .
وقد وردت كلمة الطغيان بمعنى الكثرة والارتفاع لقوله تعالى ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ) الحاقة 11 بمعنى : إنا لما كثر الماء فتجاوز حدّه المعروف ، وهو يلحق بالمعنى العام للطغيان من الزيادة وتجاوز الحد .
وهذا ما تؤكده الآية الكريمة في قوله تعالى ( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) الحاقة 6 ، والطاغية هي الصيحة التي تجاوزت الحد في القوة والشدة .
كما وردت كلمة الطغيان بمعنى الاسراف في الظلم والعصيان لقوله تعالى (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) طه: 81 . قال في معناها الزمخشري : الاسراف والظلم في نعم الله ووضعها في المعاصي ويأكلون حقوق الفقراء ويبطروا ويتكبروا .
وهكذا كان كل موضع ي القران الكريم في التسع والثلاثين موضعا تفيد تجاوز الحد وامتداد العمل في جانب السوء والمعصية والكبر والبطر .
وبذلك كان الطاغوت كل من طغى على الله فعبد غيره او ادعى الوهية ، وتكبر وتجبر على عباده وقهرهم ، وهو وصف ينطبق على فرعون والنمرود ومن هم على شاكلتهم .
ونقول ان الاسراف والعلو والعتو والتكبر والظلم ملازمة للطاغية وصفة للطغيان .
وللطغيان عدة جوانب :
1 – طغيان الحاكم
2 – طغيان بطانته
3 – المؤسسة العسكرية
والحاكم الطاغية على مر العصور تفرد بالقرار بدعوى انه وحده يعرف ويملك ناصية المعرفة والعلم ، وأنه وحده الرأس المفكر والمدبر لشئون البلاد ، وأن لا تقدم للبلاد ولا تطور لها بدون وجوده ، ولذلك فإن كل صوت معارض يجب اسكاته ، وهذا يعني أن البلاد تدور في دائرته ولا خروج من هذه الدائرة لأحد .الأمر الذي يؤدي الى إعجاب الحاكم بنفسه فيمتلئ زهواً وتيها وكبرا ، ويرى الجميع تحت قدميه .
وهو بذلك يقف حاجزا أمام كل إبداع من الآخرين ويقف حاجزا أمام ابداء الرأي المخالف ، فلا ابداع إلا ابداع الحاكم الطاغية ولا تطور إلا في ركابه ، ولذلك يحوز على الالقاب العديدة والمتنوعة في كل فن كالمفكر والعالم والمهندس ومفكر المفكرين وزعيم الأمة وحامي الحمى وناصر الفقراء والضعفاء وهكذا .وهو ما يكون السبب اللأول لصناعة الطاغية .
ولذلك يحيط نفسه بعدد من المنتفعين والمنافقين والكتَاب ومدعي الثفافة ، تقوم هذه البطانة بطانة السوء بتزيين الامور له وتصويره كما يريد هو وتحاول ان تبرر له افعاله وهي الصورة الثانية للطاغية وقد صور القران الكريم هؤلاء مع فرعون بقوله تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) ) الزخرف .
وكأن السكوت على مثل هذا الامر هو أول من يصنع الطاغية ، أي ضعف الأمة وخوفها من الوقوف امام الطاغية .
والامة بذلك تتنازل عن حقها في الوجود الانساني ، مما يتيح لها التعبير عن رايها وحمل الحاكم على الصواب ، ولذلك كانت الشورى في الاسلام ن فهي ملزمة ضابطة للحاكم ، وإن لم تفعل تكن بذلك تصنع فرعونا جديدا يرسم سياسة كل فرعون في الأرض .
ويكون الجيش ومؤسسات الدولة الأمنية هي الأداة واليد التي يبطش بها بالشعب ، وتكون اليد القبيحة التي يصفع بها كل معارض أو من يجرؤ على المعارضة ، أو أن يخطئه في قول أو عمل .
ويعمل الطاغية على ادعاء المعرفة دون غيره وتشويه صورة كل معارض او كل من لا يقف معه ، ويمكن له ان يشوه صورة الدعاة والمصلحين لا ن ذلك بالتأكيد سيتضارب مع افعاله وأقواله فيسخر الاعلام ورموزه من بطانته ليقوموا بالحرب كل ما هو مخالف ، ويصور أن بلاده تنعم بالأمن والأمان والاستقرار وأنها اكثر الدول استقرارا ورخاءً وأنها قبلة العالم ، ولا شك انه المتدين الاول والحريص على الدين .
ويعمل الطاغية على بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد ، وكذلك كل فساد بين الناس ، ولعل المرأة هي أول ما يبدأ الفتنة حولها بدعوى المساواة ، وهو بذلك يجبر الجميع على نوع معين من المعارف والعلوم تخدم ما يريد .
والأمة تصلح بولاة أمورها فإذا فسدت فسدوا ، ولذلك عندما ولي ابو بكر الصديق رضا الله عنه وضع منهجا لكل خليفة من بعدة ودستورا للأمة مع حاكمها ، لما بويع أبو بكر بالخلافة بعد بيعة السقيفة تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
وقد رهن الطاعة من الأمة بطاعة الله وإن لم تكن طاعة فلا طاعة لولي الامر .
قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهُ و هو في مجلس الخلافة:
أيها الناس ..ما تفعلون أذا ميلت برأسى الى الدنيا هكذا ..وأمال رأسه على كتفه ( دلاله على ان الدنيا قد تزينت فى رأسه ) ما تقولون فلم ينطق أحد..فاعادها الثالثه ما تقولوا ...فقال له أحدهم و قال ان ملت برأسك للدنيا هكذا قلنا لك بسيوفنا هكذا وأشار كأن يضرب عنقه ..فقال عمر الحمد لله الذى جعل من أمه محمد من يقوم عمر .
هم سبب البلاء والتخلف ، هم سبب التراجع وفساد الامة والبلاد والعباد .
عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم } رواه الترمذي وحسنه . ومعنى أوشك أسرع .
وعن أبي بكر الصديق قال { يا أيها الناس تقرءون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعذاب منه } إسناد صحيح رواه جماعة منهم أبو داود والترمذي والنسائي .
محمد خطاب سويدان