Announcement Title

Your first announcement to every user on the forum.

التقفية المرسلة "الداخلية":

Basil Abdallah

عضو جديد
عضو انكور


تتمثل هذه التقفية في تحرر القصيدة من أي التزام يقضي باعتماد قافية خارجية من أي نوع كان، ولا يقوم الإطار الموسيقي للقصيدة على أساس تقفوي مكرس، إنما يقدم نموذجاً من التقفية الداخلية التي تأتي عرضاً وتحقق في مجيئها العرضي قيماً إيقاعية جديدة غير مألوفة تتفاوت أهميتها الإبداعية والفنية بتفاوت إمكانيات الشعراء وعمق تجاربهم لأن "إرسال القوافي يحتاج إلى إمكانيات شاعرية تحقق تعويضاً عن فقدان هذا العنصر الموسيقي الهام في القصيدة. ولعل إحساس بعض الشعراء- بأن الجرس الموسيقي الذي تحققه القافية بتكرارها يقف حجر عثرة أمام انسياب الإيقاع الداخلي الذي يتحقق باسترسال المعنى- هذا الإحساس هو الذي حدا بهم لإرسال قوافيهم، وذلك لأنه لا يمكن فصل الجرس الموسيقي عن المعنى"([1]). أي أن التقفية المرسلة تهدف إلى إقران الوظيفة الدلالية بالوظيفة الإيقاعية في سبيل خلق نموذج شعري تعمل أدواته الفاعلة في اتجاه واحد، فالبحث عن تقفية داخلية يعد "استمراراً لبناء وحدة سميكة للنص الشعري، أو تجذير لإيقاع داخلي يساهم في تأسيس عروض القصيدة بدل عروض الشعر"([2])، بوصف أن القصيدة عالم حيوي قائم بذاته له قوانينه وخصائصه الذاتية التي قد تنطبق عليه دون أن تنطبق على غيره، ومن أهم هذه القوانين الخاصة هو المناخ الموسيقي الذي يهيمن على فضاء القصيدة ويقرر جزءاً مهماً من مصيرها الإبداعي.



فالتقفية الداخلية التي أصبحت في الشعر الحديث "ظاهرة شائعة ومؤثرة"([3])، تختلف في تقنياتها ووظائفها عن أنماط التقفية الخارجية التي عالجناها فيما سبق، وتعد من أكثر مراحل التقفية تطوراً عن طريق توفير كامل الحرية للشاعر في إبداع قصيدة حديثة من دون قيود وشروط مسبقة وإرسال القافية بهذه الطريقة تجعل منها أكثر غنى وفعالية وفائدة لعالم القصيدة.



إن هذه المرحلة المتطورة من التقفية تكتسب أهميتها الخاصة من كونها لا تظهر في القصيدة بصورة منتظمة مهندسة قصدية، إنما تظهر بوصفها منتجاً داخلياً يتمخض عن واقع القصيدة الدلالي والتشكيلي.



ولعل من أفضل التقنيات التي تسمح بولادة هذا النوع من التقفية هي تقنية التدوير التي تكاد تغيب فيها التقفية الخارجية غياباً كاملاً لا سيما إذا كان التدوير كلياً.



ففي قصيدة "توقيع" للشاعر حسب الشيخ جعفر تأخذ التقفية الداخلية أشكالاً عدة، وتنتشر على كامل مساحة القصيدة:



أمام العيادات أبصرها كل يوم، مكومة تحتضن





ابنتها، ترمق العابرات الأنيقات، يخفق





منزلها المتهالك في قرية من دخان وقش:





تعد لنا الشاي، يأتي لنا زوجها بالبريد





السياسي من عتمة النخل، في آخر الليل





نترك في بيته بعض أسرارنا، أو نناقش





مسألة الريف، مرتعشين من البرد حول





السراج الهزيل، الطيور المهاجرة المستربية





تطلق صيحاتها، والعيادات تغلق أبوابها





والملاهي الوضيئة تكشف عن عريها المتلطخ





في أي جرف تعثر منكفئاً، نازفاً، أدركته





الرصاصة في الكتف





ما قال شيئاً





إلى آخر الليل ينزف في مخفر حجري





ولف عليه الحصير المدمى





ويبقى البريد السياسي منتظراً في الجذور





الخبيثة في عتمة النخل، ينفتح المنزل المتهالك





في الغبرة الدموية منكفئاً، فارغاً، أدركتها





القوانين، يا أيها الماء خذني إلى الجرف





أحفر في صخرة وجهه، أو أعلق





في النخل أوراقه لافتات، تعانق فيها





الجذور الذرى الشجرية، واللهب الأزلي





السراج الهزيل، العيادات تفتح أبوابها





والرميلة تحتضن النخل حيث ابتدأنا





نلامس نبض البريد السياسي، يا أيها





الماء خذني إلى الجرف أنشر موج القميص





الذي اخترقته الرصاصة، أدرك ناقلة





تعبر الشط في وجهها الطلق





أكتب اسماً





طوته الملفات في مخفر حجري





ولف عليه الحصير المدمى





ويخبوا اسمها في العرائض، ملتفة بالعباءة





أبصرها، كل يوم، أمام الدوائر تحتضن





ابنتها، ترمق العابرات الأنيقات، ينهرها





عبر قهوته والدخان المدير الزراعي، يا





أيها الماء خذني إلى الجرف أحفر في عتمة





النخل، منتزعاً صحفاً ينبت العشب فيها





أعلقها راية، يلتقي المنزل المتهالك في





خفقها والرميلة، يكشف المخفر الحجري





عن الأفق، يا أيها الماء خذني إلى الجرف





أحفر في الصخر وجهاً، أمام العيادات





أبصره، كل يوم، مذلاً، تمر به العابرات





الأنيقات، أحفر شيئاً عن النخل حيث ابتدأنا





نلامس نبض الجريدة.([4])





ثمة تقفية أساسية ترتبط بين أجزاء القصيدة وتسهم في تماسكها النصي تبدأ مع بداية القصيدة ولا تنتهي إلا بها، ويمكن رصدها ومتابعتها كمياً، بالشكل الآتي (العيادات – العابرات- الأنيقات- العيادات- لافتات- العيادات- العابرات-ا لأنيقات- العيادات-العابرات- الأنيقات)، إذ تتكرر "العيادات" أربع مرات و "العابرات" ثلاث و "الأنيقات" ثلاث أيضاً، في حين لا تأتي "لافتات" "سوى مرة واحدة.



تبدأ القصيدة بالتقفيات الثلاث (العيادات- العابرات- الأنيقات) وتنتهي بها أيضاً، وتتوزع كذلك على أجزاء القصيدة الأخرى.



وتمثل "العيادات" مرتكزاً مكانياً من مرتكزات القصيدة، إذ أنها تشكل دلالياً صورة من صور الإحباط والانكسار والتراجع الإنساني. هذه الصورة هي الطرف الأول من معادلة القصيدة القائمة على صراع داخلي بين ضدين، وتمثل "العابرات – الأنيقات" الطرف الثاني من هذه المعادلة بوصفها نموذجاً للضد الإنساني الذي يستوعبه المرتكز المكاني "العيادات".



هذه التقفية إذن وعلى الرغم مما تحققه من لمحات إيقاعية من خلال تكرار (علامة جمع المؤنث السالم) صوت "ألف" المد المفتوح المقترن بـ "التاء" الساكنة، فإنها تسهم بالدرجة الأساس في تأسيس البنية الدلالية التي تقوم عليها القصيدة في محور أساس من محاورها.



كما أن تنوين الفتح الذي يتكرر في القصيدة اثنتي عشرة مرة في الكلمات (منكفئاً- نازفاً- شيئاً- منتظراً-منكفئاً- فارغاً- اسماً- منتزعاً-صحفاً- راية- وجهاً-شيئاً) يولد شكلاً صوتياً أشبه بالتقفية الداخلية المقفلة بصوت النون الذي يحمل معه قدراً بسيطاً من الصدى، وهذا التردد المتولد عن صوت التنوين ينسجم مع السياق الدلالي الذي تولده في النص معظم هذه المفردات، مما يزيد من تراكمية صور الإحباط والتقوقع والانكسار.



وتظهر تقفيات داخلية أخرى في القصيدة مثل (الدموية- الشجرية) و (الوضيئة- الخبيئة) تعمل جميعاً على إنشاء بنية إيقاعية داخلية تتفاعل مع البنية الدلالية، ترسل فيها القوافي إرسالاً لا يقوم على قصدية وتقرير مسبق، إنما تلد مع مراحل نمو التجربة وتنمو بنموها.



ومن النماذج الكثيرة الأخرى التي يمكن أن نرصد فيها استخداماً منوعاً وكثيفاً للتقفيات الداخلية قصيدة "الهيكل المهجور" للشاعر سامي مهدي، إذ تظهر فيها ست صور للتقفية الداخلية.



ازددنا واحداً؟ حسناً، فمن فينا الذين زدنا به عدداً، أنا، أم





أنت، أم غيري وغيرك، يا لهذا البرد من كفن يلف الروح، كنا





عشرة، والدب كان غريمنا المعهود يغرينا ويفلت من كمائننا، وكنا عشرة





في زحمة الميناء، يحملنا الخريف إلى شتاء القطب، كنا عشرة في البحر،





في مهوى الجبال البيض، والأسماء عندي عشرة،





والزاد، حتى الزاد، والأحمال.. لم نزدد إذن إلا هنا في هذه





الأصقاع، في هذا الجليد، فكيف زدنا؟ كيف.. والأصقاع نائية؟





وهذا البرد يقتل من يغامر وحده فيها، وهذا الثلج يطمر من





يشذ؟! وحاولوا أن يحسبوا معه فزادوا واحداً، من أين؟ كانوا





عشرة دبوا على سجادة بيضاء، كانوا عشرة في آخر الوديان..





لكنا شعرنا أنه معنا، متى؟ في أول الغابات لم نره، وقاتلنا ذئاباً عشرة





فيها ولم نره، ولم نر أي شيء منه، لكنا رأينا ما يدل عليه في الغابات،





في بقع الدماء على الجليد، وفي ذرى الأشجار، دع هذا لغيرك واحتكم





معنا، ألسنا عشرة؟! كنا.. وزدنا واحداً،





عجباً.. فمن تعني، أنا، أم أنت، أم غيري وغيرك، من ترى





تعني؟! هو المتوحد المهجور، حين اشتدت الأمطار كان هنا، وحين





نصبتم الفخ الأخير تعثرت قدماه، كان يقول شيئاً طيباً للريح،





كان يقول شيئاً طيباً للثلج، لم نره، ولكنا رأينا ما يدل عليه، لا أثراً





رأينا من خطاه ولا سمعنا وقعها، والبرد كان يغور في الأجساد،





والكلمات تسقط كالحجارة، حاولوا أن يحسبوا معنا فزادوا





واحداً، عجباً، مراراً حاولوا أن يحسبوا معه فزادوا واحداً، هل





عاد ثانية إذن؟ وعلام عاد وقد تولى عهده؟ بل كيف عاد وقد





سمعنا إنه قد مات؟ كلا لم يمت، بل كان معتكفاً هنا في آخر





الهيكل الوثني، ثمة كاهن يرعاه… ثمة هيكل ناء توارى فيه… حتى





أن رآنا نقتفي الآثار خلف الدب، وما أدراك؟ لا أدري، ولكن





هكذا ألهمت… نور فاض في الأعماق فيض الماء، كان الدب يهرب





وهو يحسب أننا سنظل نتبعه، وحين ينالنا الإعياء نقصده





هناك، وما فعلنا، ما فعلنا، الدب أفلت، بل أضعنا الدب، بل





ضعنا، وضيعنا طريق الهيكل المهجور…([5]).





تتقدم التقفية الأولى التي تنتهي مفرداتها جميعاً بـ "نا" الجماعة المكونة للصوت التقفوي الذي يتكرر في نهاياتها التي يمكن أن نرصدها كمياً بالشكل الآتي (زدنا- كنا- غريمنا- كمائننا- وكنا- يحملنا-كنا-زدنا- شعرنا- معنا- قاتلنا- لكنا- رأينا- معنا- كنا- زدنا- ولكنا- رأينا- رأينا- معنا- سمعنا- رآنا- إننا- ينالنا- فعلنا- فعلنا- أضعنا- ضعنا- ضيعنا)، فضلاً عن تكرار ظرف المكان "هنا" مرتين.



إن هذا الضغط المتواصل على تكرار الكلمات المسندة إلى ضمير الجماعة "نا"، سواء أكانت هذه الكلمات أسماء أم أفعالاً أم حروفاً من شأنه أن يحدث سلماً إيقاعياً واحداً من بداية القصيدة حتى نهايتها، ويعبر دلالياً عن انتماء التجربة الكلي إلى "المجموع"، إذ تغيب الشخصانية غياباً كلياً مما يعطي القصيدة تماسكاً موضوعياً خارج إطار الذاتية الصرف وهو ما يبرر ظهور غنائية داخلية في القصيدة وليست غنائية خارجية.



أما الصورة الثانية من التقفية الداخلية في القصيدة فهي الكلمات المنونة بالفتح، وهي تعطي صوتاً إيقاعياً واحداً مكوناً من "النون" المقفلة ذات التردد الثقيل والمسبوقة بصوت مد قصير مفتوح، ويمكن رصدها بالشكل الآتي (واحداً- حسناً- عدداً- واحداً- ذئاباً- واحداً- عجباً- شيئاً- طيباً- شيئاً- طيباً- أثراً- واحداً- عجباً-مراراً- واحداً –ثانية- إذن- معتكفاً)، فضلاً عن تكرار العدد المنون "عشرة" سبع مرات. وفي الإطار نفسه تظهر صورة أخرى للتنوين المضموم في (نائية- عشرة).



إن صوت التنوين المتكرر في القصيدة بصورتيه المفتوحة والمضمومة يولد إحساساً محدداً بالفقد والضياع وإثارة نوازع الشك والبحث، إذ أن العمود الفقري الذي تنتظم فيه دلالات القصيدة هو البحث عن رقم جديد مضاف إلى الرقم الأساسي "عشرة"، هذا الرقم الذي يحسب دائماً على إنه مضاف إلى العشرة لكنه في الحساب الفعلي الميداني يغيب ويتلاشى ولا يعرف له أثر، مما يدلل على إنه رقم كاذب خادع قائم على الوهم ويرتبط دلالياً بعنوان القصيدة "الهيكل المهجور"، الذي يمتلك حضوراً مكانياً وتاريخياً لكنه حضور مزيف غير قادر على الفعل والمشاركة في الحدث.



ومن صور التقفية الداخلية التي تتماهى مع الصورة الأولى التي يظهر فيها صوت الجماعة "نا"، هي الصورة التي تقدم الصوت نفسه بصورة "واو الجماعة" من خلال الأفعال المسندة إليها (حاولوا- يحسبوا- زادوا- كانوا- حاولوا- يحسبوا- زادوا- حاولوا- يحسبوا- زادوا)، التي تؤدي الدور الإيقاعي والدلالي نفسه الذي أدته الصورة المشابهة الأولى على الرغم من أن المد الصوتي الذي تؤديه كل من التقفيتين يختلف في انحرافه عن الآخر.



وتظهر أيضاً صورة أخرى للتقفية الداخلية منها ما يسند في إيقاعه ودلالته على معامل الطبيعة مثل (الأشجار- الأمطار- الآثار)، ومنها ما يحقق توافقاً فعلياً في الأداء الدلالي (انتهكت- ضاعت).



وفضلاً عن كل هذه المظاهر الإيقاعية للتقفية الداخلية "المرسلة" في هذه القصيدة، فإن جملاً شعرية كاملة فيها تظهر بتدفق إيقاعي متلاحق يتحقق من خلال تراسل القوافي الداخلية وتعاقبها تعاقباً لا فاصلة فيه مثل (حاولوا أن يحسبوا معنا فزادوا واحداً، عجباً، مراراً حاولوا أن يحسبوا معه فزادوا واحداً، هل عاد ثانية إذن).



إن القافية المرسلة الداخلية إذن تنطوي على قيم تعبيرية وإيقاعية غنية، وهي إذا ما فحصت في قصيدتنا المعاصرة فحصاً دقيقاً وحللت على أساس من النظرة الكلية إلى عموم التجربة الشعرية في القصيدة، فإن نتائج باهرة يمكن أن تظهر لتعزز موقع الحداثة الشعرية العربية، على وفق أسس علمية متينة قائمة على النظر والتأمل والتحليل والاستقراء الفني الدقيق، ومعاينة القصيدة بوصفها كتلة حيوية مستقلة لها قوانينها الخاصة.

 
 

ما هو انكور؟

هو منتدى عربي تطويري يرتكز على محتويات عديدة لاثراء الانترنت العربي، وتقديم الفائدة لرواد الانترنت بكل ما يحتاجوه لمواقعهم ومنتدياتهم واعمالهم المهنية والدراسية. ستجد لدينا كل ما هو حصري وكل ما هو مفيد ويساعدك على ان تصل الى وجهتك، مجانًا.
عودة
أعلى