بسم الله الرحمن الرحيم
في ذكرى رحيل الشاعر الفذ الطيب محمد سعيد العباسي..
عامان من اليتم!!
بقلم: ابوبكر يوسف إبراهيم
الجمعة, 20 /أغسطس 2010
هذا بلاغ للناس
(1/2)
في التاسع والعشرين من شهر رمضان يكون قد مضى على رحيل الشاعر
الفذ الطيب محمد سعيد العباسي ( أبا أسعد) عامين من الفراق الذي
أكابده ولا يعلم كنه معنى هذا الفراق والفقد إلا قلة منها أفراد أسرته
وأخص منها إبنه وأخي الذي لم تلده أمي أسعد ذاك الناثر البارع وكذلك
شقيقه صديقي القانوني إسماعيل. فالطيب العباسي شاعر حروفه
مطهمة كما الجياد العربية الأصيلة ، ولقصيده رنين آسر وصدى أنيق ،
ولبحة عباراته صهيل ينم عن أصالة .
إن الصلات التي تربطني بالشاعر الفذ الراحل القاضي العادل الطيب العباسي
ليست صلة مفردة بل صلات عديدة ؛ فقد كانت تربطني به علاقة صداقة
فريدة في شكلها ومضمونها، وكانت تربطني به صلة الابوة الحانية
وصلة الآخ الأكبر ؛ وصلة الشعر الذي كان هو تاج عزته ورقته ووقاره.
مضى عامان والطيب ما زال معنا روحاً وشعراَ ، فمنه تعلمت الوفاء
والاخلاص ومنه عرفت ما معنى الصداقة والاخاء والأخوة الحقة..
الطيب العباسي نغم فريد من عبقر.. قصيده كألحان ملائكية تنطق
بالعزة والحنين والانين.. قصيده ينع من وجدان زاخر بالحب والشوق
والوله، الطيب العباسي شاعر يجسد كل ألوان الطيف الثقافي السوداني ،
يجسد هامات جبال الانقسنا ، يجسد جريان النيل وعطائه ، يجسد حداء
الجمّالة في بوادي الكبابيش والكواهلة والحمر ؛ يمثل ترانيم المسيرية
عند الرحيل ؛ يمثل ألحان الزاندي ودقات طبول النوير والشلك والدينكا ،
يمثل شموخ نخيل الشمال ، ومعازف حنينة من طنابير الشايقية ، يمثل
عرضة الجعليين وأهازيج الفور في مواسم الحصاد ، يمثل دف أهل حلفا
دغيم وهو يراهم يرحلون قسراَ فيعيش أحزان الرحيل.
ما يحزنني أن شاعر في قامة الطيب العباسي لم يحظ إلا ببعض الحوارات
و التحقيقات الصحفية التي أجراها بعض من الصحفيين الشباب ونادرات
الاستضافات عبر القنوات الفضائية ، وما أشرت إليه مما نُشر في أغلبه
كان كلاما مكرورا ، لايغني عن الدراسات النقدية الجادة التي ترسم
للطيب الشاعر، والعروضي، والفرضي صورة تامة واضحة منسجمة
الأضواء و الظلال .. والحقيقة أننا نحن عُرفنا بخصلة غريبة..
نتنكر لرجالنا الأفذاذ في حياتهم، حتى إذا ماتوا ذرفنا عليهم الدمع
السخين..! نعم: بمثل هذا العقوق قُوبِل هذا الرجل الكبير.!!
ولست أزعم أني قد رويت عن الطيب العباسي كل ما يجب أن يروى ..
ولا قلت كل ما يجب أن يقال ، فحياة رجل عاش سبع حقب ونيف من
الزمان حافلة بالبذل و العطاء ..فهي أعمق من أن يخطها قلم، وأوسع
من أن يحيط بها كلام. هذا ورجائي الكبير من وراء هذه الأحرف أن
أضع بين يدي القارئ الكريم جانبا من تراثنا الفكري في الاحتفاء بذكرى
رحيل الشاعر الفذ في الذكرى الثانية لرحيله كي لا يغطيه النسيان،
وحتى لا يُقبر شعره في الرفوف أومنافي النسيان ، إنه الطريق الوحيد
للكشف عن أحد رواد النهضة الشعرية في بلادنا حتى لا يعلوها ران ،..
فكفانا احتقارا لرجالاتنا، والتنكُر لتراثهم، واطِّراح فكرهم، وإغفال مآثرهم.
وأقسم لو أن الأحمدي عاش تحت سماء القاهرة أو دمشق أو بغداد ..
لكان له شأن أفضل..! فله الذكرى باقية في أمة مفجوعة فيه، باكية عليه،
تفقد جثمانه، ولا تفقد ذكره، فحياته ـ رحمه الله ـ صورة فذّة جمعت
أجزاؤها كل جلال النبوغ الفطري، والتحصيل الذكي الدؤوب، والعصامية
التي استعلت على قسوة المنشأ، وباركتها عناية الله ..حتى استوت علما
نافعا، وأدبا واسعا، يطول بقاؤه، ويُكتب له الخلود، ولكل أجل كتاب ..
ولعلّه من أضعف الإيمان أن يُرفع اسم الشاعر الفذ الطيب العباسي سليل
دوحة الشعر الوارفة الخضراء على واجهة ما كنت امني نفسي بأن يطلق
عليها " دوحة العباسي" ، أويطلق اسمه على دار للثقافة، أو تُدرج
نصوص من أدبه في المناهج التربوية، أو تحمل اسمه لافتة على شارع
جانبي في عاصمة بلده ـ التي قال فيها الكثير وقدّم لها الكثير، ووقف
حياته كلها حارسا أمينا على لغة الضاد، وتراثها الضخم، وأدبها الرفيع .
فالموضوعات الشعرية في نظر الطيب العباسي شيء، وجمال القريض
شيء آخر. إذ الشعر لا يقتبس جماله من أهدافه النبيلة فحسب إلا بعد
أن يتم له حسن السبك، وروعة النسج، وصفاء الديباجة، وهذه لا تتأتى
إلا لمن صفت قريحته، ونال حظا وافرا من شعر العرب وقريضها .
وأذكر للطيب في كثير من مجالسه أن شعراء اليوم يعتقدون أن نبل
الموضوعات الشعرية وشرفها يرفع من قيمة الشعر ولو كان رديئا
وهم في ذلك واهمون..ويعانون من خواء مزرٍ في دراسة التراث
والإلمام به. فكثير منهم عرفوا بعضا من موازين الشعر وقواعد
العروض فكان حسبهم من الشعر كله هذه المعرفة البائسة التي
انقلبت في رؤوسهم غرورا ذميما، وخُيلاءً لا يعرف التواضع ..!
إن الشعراء الشباب ـ كما يقول الطيب ـ لا يقرأون من الشعر العربي
إلا قدرا ضئيلا لا يُقوِّم ألسنة، ولا يكسب ثروة، ولا يربي ملكة، ولا
يطبع ذوقا، ولا يمد القريحة بما تفتقر إليه ساعة النظم من شتى
التعابير، وفنون الأساليب، وهو تقصير لا تبرره أسباب وجيهة،
اللهم إلا الغفلة و الكسل وتراخي الهِمة .
كتبت له يوماً بلغة طلسمية مداعباً بأنني لن أبرح دوحته - بيت جده في
الجيلي - لن أبرحها حتى ولو كانت سفح مشنقة حتى أمتص رحيق
الفراشة في سجنها ..أو أوارى التراب إلى مثواي ما قبل الأخير عندها
سأصفق للبارحة كما صفقت لبوارج الريح المسعورة .. في وضح
الورقة كالشمس والليل كتبت ُ يومياتي التي تحوي حواراتتنا...
وانزويت ُ للفوضى !!. فكتب لي مخاطباً نزقي :- كم أنت وديع ...
فأنا ظللت أرسم لوحاتي الشعرية في يومياتي بالماء الوردي المفعم
بالخطايا.
يمر عامان أيها الطيب ؛ الطيب ؛ فأسرق من نبض عشقي مسافات صمت
تحن إليك أيها الشاعر العبقري.. من فيض شوقي لحائظ بوح تفتش في
كل ليل عن ضياء يديك ...واسأل نفسي أين مني الرضا ..؟ ولأنني
راضٍ بقضاء الله فلن أقول لماذا رحلت ، أما ذنبي الوحيد فهو حبي الكبير
إليك .. أكثير علي أن أذكر نفسي بذنبي..لعلي أمل حنيني إليك.
لكن نفسي تركت كرامتها والعنفوان منذ احتللت مشاعري وقلبي بودك
ووفائك ودماثة خلق تخجل حتى قليلي الحياء وحتى أن جيوش حيائي
رفضت حربا عليك ؛ فصرت أحتفظ عن ظهر قلب بكل أبواب ودك ،
وبعد أشعر بالتقصير في اللحاق بسجاياك وخصالك الحميدة ، فلم أجد
أي طريق يؤدي إليها إلا وخذلني طول السُري دون الوصول لقرارها.
اِعذروني إن ذهلت عن نفسي بانشعالي بإفراغ هذه الحَزَنيّة في قالب
التذكر والذكرى لمن نعتز ونحفظ ودهم . اعذروني إذا دعوتكم إلى حفلة
تأبين في حلبة شعر في أحد وديان عبقر فالتحدث عن الطيب العباسي
هو مثل تدجين النار المتمرّدة إلى المعدن العصيّ.!!
#شبكة_انكور_التطويرية
في ذكرى رحيل الشاعر الفذ الطيب محمد سعيد العباسي..
عامان من اليتم!!
بقلم: ابوبكر يوسف إبراهيم
الجمعة, 20 /أغسطس 2010
هذا بلاغ للناس
(1/2)
في التاسع والعشرين من شهر رمضان يكون قد مضى على رحيل الشاعر
الفذ الطيب محمد سعيد العباسي ( أبا أسعد) عامين من الفراق الذي
أكابده ولا يعلم كنه معنى هذا الفراق والفقد إلا قلة منها أفراد أسرته
وأخص منها إبنه وأخي الذي لم تلده أمي أسعد ذاك الناثر البارع وكذلك
شقيقه صديقي القانوني إسماعيل. فالطيب العباسي شاعر حروفه
مطهمة كما الجياد العربية الأصيلة ، ولقصيده رنين آسر وصدى أنيق ،
ولبحة عباراته صهيل ينم عن أصالة .
إن الصلات التي تربطني بالشاعر الفذ الراحل القاضي العادل الطيب العباسي
ليست صلة مفردة بل صلات عديدة ؛ فقد كانت تربطني به علاقة صداقة
فريدة في شكلها ومضمونها، وكانت تربطني به صلة الابوة الحانية
وصلة الآخ الأكبر ؛ وصلة الشعر الذي كان هو تاج عزته ورقته ووقاره.
مضى عامان والطيب ما زال معنا روحاً وشعراَ ، فمنه تعلمت الوفاء
والاخلاص ومنه عرفت ما معنى الصداقة والاخاء والأخوة الحقة..
الطيب العباسي نغم فريد من عبقر.. قصيده كألحان ملائكية تنطق
بالعزة والحنين والانين.. قصيده ينع من وجدان زاخر بالحب والشوق
والوله، الطيب العباسي شاعر يجسد كل ألوان الطيف الثقافي السوداني ،
يجسد هامات جبال الانقسنا ، يجسد جريان النيل وعطائه ، يجسد حداء
الجمّالة في بوادي الكبابيش والكواهلة والحمر ؛ يمثل ترانيم المسيرية
عند الرحيل ؛ يمثل ألحان الزاندي ودقات طبول النوير والشلك والدينكا ،
يمثل شموخ نخيل الشمال ، ومعازف حنينة من طنابير الشايقية ، يمثل
عرضة الجعليين وأهازيج الفور في مواسم الحصاد ، يمثل دف أهل حلفا
دغيم وهو يراهم يرحلون قسراَ فيعيش أحزان الرحيل.
ما يحزنني أن شاعر في قامة الطيب العباسي لم يحظ إلا ببعض الحوارات
و التحقيقات الصحفية التي أجراها بعض من الصحفيين الشباب ونادرات
الاستضافات عبر القنوات الفضائية ، وما أشرت إليه مما نُشر في أغلبه
كان كلاما مكرورا ، لايغني عن الدراسات النقدية الجادة التي ترسم
للطيب الشاعر، والعروضي، والفرضي صورة تامة واضحة منسجمة
الأضواء و الظلال .. والحقيقة أننا نحن عُرفنا بخصلة غريبة..
نتنكر لرجالنا الأفذاذ في حياتهم، حتى إذا ماتوا ذرفنا عليهم الدمع
السخين..! نعم: بمثل هذا العقوق قُوبِل هذا الرجل الكبير.!!
ولست أزعم أني قد رويت عن الطيب العباسي كل ما يجب أن يروى ..
ولا قلت كل ما يجب أن يقال ، فحياة رجل عاش سبع حقب ونيف من
الزمان حافلة بالبذل و العطاء ..فهي أعمق من أن يخطها قلم، وأوسع
من أن يحيط بها كلام. هذا ورجائي الكبير من وراء هذه الأحرف أن
أضع بين يدي القارئ الكريم جانبا من تراثنا الفكري في الاحتفاء بذكرى
رحيل الشاعر الفذ في الذكرى الثانية لرحيله كي لا يغطيه النسيان،
وحتى لا يُقبر شعره في الرفوف أومنافي النسيان ، إنه الطريق الوحيد
للكشف عن أحد رواد النهضة الشعرية في بلادنا حتى لا يعلوها ران ،..
فكفانا احتقارا لرجالاتنا، والتنكُر لتراثهم، واطِّراح فكرهم، وإغفال مآثرهم.
وأقسم لو أن الأحمدي عاش تحت سماء القاهرة أو دمشق أو بغداد ..
لكان له شأن أفضل..! فله الذكرى باقية في أمة مفجوعة فيه، باكية عليه،
تفقد جثمانه، ولا تفقد ذكره، فحياته ـ رحمه الله ـ صورة فذّة جمعت
أجزاؤها كل جلال النبوغ الفطري، والتحصيل الذكي الدؤوب، والعصامية
التي استعلت على قسوة المنشأ، وباركتها عناية الله ..حتى استوت علما
نافعا، وأدبا واسعا، يطول بقاؤه، ويُكتب له الخلود، ولكل أجل كتاب ..
ولعلّه من أضعف الإيمان أن يُرفع اسم الشاعر الفذ الطيب العباسي سليل
دوحة الشعر الوارفة الخضراء على واجهة ما كنت امني نفسي بأن يطلق
عليها " دوحة العباسي" ، أويطلق اسمه على دار للثقافة، أو تُدرج
نصوص من أدبه في المناهج التربوية، أو تحمل اسمه لافتة على شارع
جانبي في عاصمة بلده ـ التي قال فيها الكثير وقدّم لها الكثير، ووقف
حياته كلها حارسا أمينا على لغة الضاد، وتراثها الضخم، وأدبها الرفيع .
فالموضوعات الشعرية في نظر الطيب العباسي شيء، وجمال القريض
شيء آخر. إذ الشعر لا يقتبس جماله من أهدافه النبيلة فحسب إلا بعد
أن يتم له حسن السبك، وروعة النسج، وصفاء الديباجة، وهذه لا تتأتى
إلا لمن صفت قريحته، ونال حظا وافرا من شعر العرب وقريضها .
وأذكر للطيب في كثير من مجالسه أن شعراء اليوم يعتقدون أن نبل
الموضوعات الشعرية وشرفها يرفع من قيمة الشعر ولو كان رديئا
وهم في ذلك واهمون..ويعانون من خواء مزرٍ في دراسة التراث
والإلمام به. فكثير منهم عرفوا بعضا من موازين الشعر وقواعد
العروض فكان حسبهم من الشعر كله هذه المعرفة البائسة التي
انقلبت في رؤوسهم غرورا ذميما، وخُيلاءً لا يعرف التواضع ..!
إن الشعراء الشباب ـ كما يقول الطيب ـ لا يقرأون من الشعر العربي
إلا قدرا ضئيلا لا يُقوِّم ألسنة، ولا يكسب ثروة، ولا يربي ملكة، ولا
يطبع ذوقا، ولا يمد القريحة بما تفتقر إليه ساعة النظم من شتى
التعابير، وفنون الأساليب، وهو تقصير لا تبرره أسباب وجيهة،
اللهم إلا الغفلة و الكسل وتراخي الهِمة .
كتبت له يوماً بلغة طلسمية مداعباً بأنني لن أبرح دوحته - بيت جده في
الجيلي - لن أبرحها حتى ولو كانت سفح مشنقة حتى أمتص رحيق
الفراشة في سجنها ..أو أوارى التراب إلى مثواي ما قبل الأخير عندها
سأصفق للبارحة كما صفقت لبوارج الريح المسعورة .. في وضح
الورقة كالشمس والليل كتبت ُ يومياتي التي تحوي حواراتتنا...
وانزويت ُ للفوضى !!. فكتب لي مخاطباً نزقي :- كم أنت وديع ...
فأنا ظللت أرسم لوحاتي الشعرية في يومياتي بالماء الوردي المفعم
بالخطايا.
يمر عامان أيها الطيب ؛ الطيب ؛ فأسرق من نبض عشقي مسافات صمت
تحن إليك أيها الشاعر العبقري.. من فيض شوقي لحائظ بوح تفتش في
كل ليل عن ضياء يديك ...واسأل نفسي أين مني الرضا ..؟ ولأنني
راضٍ بقضاء الله فلن أقول لماذا رحلت ، أما ذنبي الوحيد فهو حبي الكبير
إليك .. أكثير علي أن أذكر نفسي بذنبي..لعلي أمل حنيني إليك.
لكن نفسي تركت كرامتها والعنفوان منذ احتللت مشاعري وقلبي بودك
ووفائك ودماثة خلق تخجل حتى قليلي الحياء وحتى أن جيوش حيائي
رفضت حربا عليك ؛ فصرت أحتفظ عن ظهر قلب بكل أبواب ودك ،
وبعد أشعر بالتقصير في اللحاق بسجاياك وخصالك الحميدة ، فلم أجد
أي طريق يؤدي إليها إلا وخذلني طول السُري دون الوصول لقرارها.
اِعذروني إن ذهلت عن نفسي بانشعالي بإفراغ هذه الحَزَنيّة في قالب
التذكر والذكرى لمن نعتز ونحفظ ودهم . اعذروني إذا دعوتكم إلى حفلة
تأبين في حلبة شعر في أحد وديان عبقر فالتحدث عن الطيب العباسي
هو مثل تدجين النار المتمرّدة إلى المعدن العصيّ.!!
#شبكة_انكور_التطويرية