في هذا المقال المنشور في مجلة Global policy، يستعرض إيلان مانور وجايلز ستراشان كيف أن ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي يهدد جوهر العمل الدبلوماسي القائم على التوصل إلى تعريف مشترك للواقع، مستلهمين من مبادئ ميكانيكا الكم التي تقر بإمكانية وجود واقعيات متعددة متزامنة. يشير الكاتبان إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي قادرة على إنتاج صور ووثائق ومقاطع فيديو زائفة لكنها مقنعة، مما يخلق واقعيات متوازية يصعب التحقق من صحتها، ويعقّد مهام الدبلوماسيين الذين باتوا يواجهون عالماً مشابهاً للعالم الكمومي من حيث التعدد وعدم اليقين. ويؤكد المقال أن انتشار هذه الواقعيات عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد يؤدي إلى تفكيك المجتمعات، ويجعل من المستحيل إدارة الأزمات أو التفاوض بين دول تختلف رؤاها للواقع. ووسط هذا التمزق المعرفي، تصبح الدبلوماسية العامة غير فعالة، وقد تضطر المؤسسات الدبلوماسية إلى أتمتة رسائلها لمجاراة الواقعيات المتكاثرة، ما ينذر بتحوّل الدبلوماسية من نشاط إنساني عقلاني إلى عملية آلية مفككة.
Quantum Mechanics, AI and the Future of Diplomacy
أحد السمات المميزة لميكانيكا الكم هو تأكيدها على أن العديد من الواقعيات يمكن أن تتعايش في أي لحظة زمنية. قد يؤدي ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى عالم لم يعد فيه هناك تعريف واحد للواقع. بالفعل، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنشاء ونشر واقعيات زائفة لكنها مقنعة للغاية، تعتمد على صور مزيفة ووثائق مزورة. قد يكون بروز عالم يعتنق فيه الناس واقعيات متعددة تحدياً خاصاً أمام الدبلوماسية. وكما يناقش الكاتبين في هذا المقال، تتطلب الدبلوماسية أن يتوصل الدبلوماسيون إلى تعريف مشترك للواقع. من دون مثل هذا التعريف، لا يستطيع الدبلوماسيون التصرف، ولا يمكن للدبلوماسية أن تؤدي وظيفتها.
يُعتبر مبدأ عدم اليقين لفيرنر هايزنبرغ حجر الزاوية في ميكانيكا الكم. فقد جادل هايزنبرغ بأن الجسيمات الكمية تخضع لتقلبات غير متوقعة، مما يجعل من المستحيل تتبعها بدقة. على سبيل المثال، فإن موضع وسرعة الإلكترون يخضعان لتقلبات غير متوقعة، وبالتالي لا يمكن قياسهما بدقة. والأكثر تعقيداً هو الفهم بأن الإلكترونات لا تمتلك قيماً دقيقة لهاتين الخاصيتين في الوقت نفسه. يمكن قياس موضع الإلكترون أو زخمه، ولكن لا يمكن قياسهما معاً في نفس الوقت. بعبارة أخرى، لا تمتلك الجسيمات الكمية قيماً دقيقة متزامنة لهاتين الخاصيتين – الموضع والزخم. لذلك، تعتبر ميكانيكا الكم نظرية إحصائية. يمكن قياس موضع الإلكترون وتقدير زخمه المحتمل، وبالتالي توليد مجموعة من التنبؤات حول المكان الذي سيتحرك إليه الإلكترون بعد ذلك. يمكن اعتبار هذه التنبؤات مجموعة من الواقعيات المعقولة. من المعقول أن يجد الإلكترون طريقه عبر الغرفة، أو أن يظل في مكانه، أو أن يتحرك قليلاً. تؤدي الزخمات المختلفة إلى تنبؤات إحصائية مختلفة أو واقعيات معقولة مختلفة. بعبارة أخرى، تسمح ميكانيكا الكم بوجود عدة واقعيات معقولة في أي لحظة.
على عكس عالم الكم، يُفترض أن "العالم الحقيقي" يتميز بتعريف مشترك واحد للواقع. دونالد ترامب هو الرئيس. روسيا وأوكرانيا في حالة حرب. الهند وباكستان تتصارعان حول كشمير. سعر سهم إنفيديا هو 135 دولاراً. هذه هي حقيقة العالم. ومع ذلك، غالباً ما يعتنق الناس حول العالم واقعيات مختلفة، ودائماً ما كانت هناك تعريفات متعددة للواقع تتعايش – وهذه تُعرف باسم "التاريخ".
وفقاً للتاريخ الروسي، انتهت الحرب الوطنية العظمى (1939-1945) في 8 مايو عندما رفع جندي العلم السوفييتي فوق الرايخستاغ الألماني. ووفقاً للتاريخ البريطاني، انتهت الحرب العالمية الثانية في 8 مايو 1945 عندما قدمت القيادة العليا الألمانية استسلاماً غير مشروط. أما وفقاً للتاريخ الأمريكي، فقد كانت حرب فيتنام تهدف إلى منع تأثير الدومينو الذي قد يؤدي إلى سقوط جنوب شرق آسيا في أيدي الشيوعية. بينما يرى التاريخ الفيتنامي أن حرب فيتنام كانت حرباً إمبريالية وحشية تهدف إلى منع توحيد فيتنام.
تستطيع معظم المجتمعات والدول أن توجد في عالم بدون تعريف مشترك واحد للواقع. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للدبلوماسية. في الواقع، تتطلب الأنشطة الدبلوماسية وجود تعريف مشترك للواقع. لا يستطيع الدبلوماسيون، على سبيل المثال، حل الحرب بين روسيا وأوكرانيا إذا كان بعضهم يعتقد بوجود آلاف الجنود الروس في أوكرانيا، بينما يرى آخرون أنه لا توجد قوات روسية هناك. لحل هذه الأزمة، يجب على الدبلوماسيين التوصل إلى نوع من الإجماع مثل: "هناك قوات روسية في أوكرانيا". بمجرد اتفاقهم على هذا الواقع، يمكنهم البحث عن سبل لإزالة هذه القوات.
إن الوصول إلى تعريف مشترك للواقع هو الهدف الأساسي من المفاوضات الدبلوماسية. في الحقيقة، فن التفاوض هو فن الوصول إلى إجماع حول الواقع. يتمتع المفاوضون بمهارة تقليص الفجوات بين تعريفات الواقع المختلفة للأطراف. عندما تعتنق دولتان تعريفين مختلفين تماماً للواقع، تصبح المفاوضات معقدة، وأحياناً مستحيلة. وكان هذا هو الحال خلال مؤتمر مدريد عام 1991، عندما لم تتمكن الوفود الإسرائيلية والعربية حتى من الاتفاق على وجود كيان سياسي يسمى "فلسطين". كلما كانت الفجوات بين تعريفات الواقع أصغر، كانت المفاوضات أسهل وأسرع.
يملي السعي إلى تعريف مشترك للواقع كيفية إجراء المفاوضات. فمن غير المرجح أن يغيّر الدبلوماسيون تعريفهم للواقع أمام كاميرات الأخبار، لأن ذلك سيعني نفي رسائل الدولة الرسمية. لكن عندما يكونون في غرفة تفاوض مغلقة، ومحاطين بزملاء موثوقين، قد يتمكن الدبلوماسيون من تعديل تعريفهم للواقع. ففي عام 2014، بعيدًا عن أعين المتطفلين، قد يكون دبلوماسي روسي قد أقر بأن "بعض" القوات الروسية قد عبرت إلى القرم.
إن السعي إلى تعريف مشترك للواقع هو أيضًا هدف من أهداف الدبلوماسية العامة، التي تتشارك فيها دولة ما تعريفها للواقع مع دولة أخرى. ففي عهد إدارة أوباما، نشرت الدبلوماسية العامة الأمريكية تعريفًا للواقع يفيد بأن "الاتفاق النووي الإيراني" من شأنه أن يمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية مع إنعاش الاقتصاد الإيراني وزيادة الاستقرار في المنطقة. وبمجرد أن تبنت دول أخرى هذه التعريفات للواقع، انضم دبلوماسيوها إلى نظرائهم الأمريكيين في محاولة التوسط من أجل إبرام اتفاق نووي مع إيران.
إن حقيقة أن الدبلوماسية تتطلب تعريفًا مشتركًا للواقع تفسر الإمكانات المدمرة للذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث يمكن استخدام هذه الأدوات لإنشاء واقعيات زائفة لكنها شديدة الإقناع. فعلى سبيل المثال، يمكن إنشاء صور وفيديوهات ومستندات وخطط عسكرية مزيفة من إنتاج الذكاء الاصطناعي في غضون ثوانٍ، ويمكن مشاركتها رقميًا، ما يؤدي إلى إنشاء مجموعة مذهلة من الواقعيات المعقولة. ويكمن ما يعزز قوة هذه الواقعيات الزائفة في درجة التعقيد العالية للمحتوى الذي يولده الذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد من الممكن التمييز بينه وبين المحتوى الحقيقي. وبهذا، يمكن لمستخدمي ChatGPT نشر واقع زائف لكنه مقنع، يفيد بوجود قوات صينية أو حتى أمريكية في أوكرانيا، وهي واقعيات مدعومة بصور ومذكرات.
في الأيام الأخيرة، أصبح استخدام الذكاء الاصطناعي في إنشاء واقعيات معقولة من شأنها تعقيد الأزمات وإرباك عمل الدبلوماسيين أمرًا واضحًا. ففي أعقاب النزاع الأخير بين الهند وباكستان، سعت وزارات الخارجية بشكل محموم إلى جمع المعلومات. كان من الواضح أن شكلاً من أشكال التبادل العسكري قد وقع، لكن التفاصيل الدقيقة لم تكن واضحة. إلى جانب الأدوات المعتادة للمعلومات المضللة — صور من صراعات أخرى، وتعديلات رديئة باستخدام الفوتوشوب — ظهرت الآن شكل جديد من التضليل. ففي الثامن من مايو، أي بعد يوم واحد فقط من التبادل، ظهر مقطع فيديو مزيف متطور يُظهر الجنرال الباكستاني أحمد شريف شودري وهو يعلن فقدان طائرتين باكستانيتين. وقد انتشر التقرير بسرعة على القنوات الإعلامية الهندية، وشوهد ما يقرب من مليون مرة قبل أن يتم كشف زيفه. وتُظهر السرعة التي يمكن بها إنتاج وتوزيع صور مزيفة باستخدام الذكاء الاصطناعي أن الدبلوماسية تواجه الآن تحديات أكبر من أي وقت مضى في الحفاظ على تعريف واحد للواقع.
من الجدير بالذكر أن الواقعيات التي يولدها الذكاء الاصطناعي يمكن أن تُرسل عبر خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي مباشرةً إلى أشخاص مستعدين لتصديقها. وهكذا، سيعكس العالم الحقيقي فجأة عالم الذرة، حيث يمكن لعدة واقعيات أن تتعايش في الوقت نفسه. ومع ذلك، فإن الاحتمالات الإحصائية لن تنطبق على العالم الحقيقي، إذ سيكون هناك عدد لا نهائي من الواقعيات المعقولة التي يعتنقها الناس، كل منها من إنتاج مستخدمين مختلفين للذكاء الاصطناعي ومُرّر عبر خوارزميات مختلفة. هذا العدد اللانهائي من الواقعيات المعقولة سيؤدي إلى تفتيت المجتمعات إلى ذرات لا تتحد لتشكيل كيان متماسك. وبالتالي، فإن العالم الحقيقي سيكون أكثر صعوبة في الفهم من عالم الكم، وسيكون من شبه المستحيل على الدبلوماسيين إدارته.
فكيف يمكن للدبلوماسيين التوصل إلى تعريف مشترك للواقع عندما لا يوجد واقع واحد؟ قد يدخل الدبلوماسيون قريبًا إلى غرفة التفاوض وهم يؤمنون بواقعيات متناقضة، مما يجعل المفاوضات شبه مستحيلة. وبالمثل، فإن أنشطة الدبلوماسية العامة ستصبح غير فعالة، فكيف يمكن لدولتين أن تتوصلا إلى تعريف مشترك للواقع عندما يكون الرأي العام الوطني قد انقسم إلى عدد لا نهائي من الواقعيات المعقولة؟ سيتعين على أي رسالة دبلوماسية أن تراعي كل الواقعيات الممكنة. ولكن، مثل الإلكترونات، فإن كل واقع سيتألف من متغيرات عديدة لا يمكن حسابها. وفي النهاية، في سعيهم للتوصل إلى بعض التوافقات، قد يقوم الدبلوماسيون بأتمتة رسائلهم، باستخدام روبوتات لإنشاء عدد لا نهائي من الصيغ المختلفة للرسائل التي تراعي عددًا لا نهائيًا من الواقعيات. إن "بوتنة" الدبلوماسية هذه ستعجّل بزوالها كأداة لإدارة الشؤون العالمية. وستُختزل الدبلوماسية إلى سطور من الشيفرات بينما يتوق الدبلوماسيون إلى عزاء غرف التفاوض القديمة.
يُعتبر مبدأ عدم اليقين لفيرنر هايزنبرغ حجر الزاوية في ميكانيكا الكم. فقد جادل هايزنبرغ بأن الجسيمات الكمية تخضع لتقلبات غير متوقعة، مما يجعل من المستحيل تتبعها بدقة. على سبيل المثال، فإن موضع وسرعة الإلكترون يخضعان لتقلبات غير متوقعة، وبالتالي لا يمكن قياسهما بدقة. والأكثر تعقيداً هو الفهم بأن الإلكترونات لا تمتلك قيماً دقيقة لهاتين الخاصيتين في الوقت نفسه. يمكن قياس موضع الإلكترون أو زخمه، ولكن لا يمكن قياسهما معاً في نفس الوقت. بعبارة أخرى، لا تمتلك الجسيمات الكمية قيماً دقيقة متزامنة لهاتين الخاصيتين – الموضع والزخم. لذلك، تعتبر ميكانيكا الكم نظرية إحصائية. يمكن قياس موضع الإلكترون وتقدير زخمه المحتمل، وبالتالي توليد مجموعة من التنبؤات حول المكان الذي سيتحرك إليه الإلكترون بعد ذلك. يمكن اعتبار هذه التنبؤات مجموعة من الواقعيات المعقولة. من المعقول أن يجد الإلكترون طريقه عبر الغرفة، أو أن يظل في مكانه، أو أن يتحرك قليلاً. تؤدي الزخمات المختلفة إلى تنبؤات إحصائية مختلفة أو واقعيات معقولة مختلفة. بعبارة أخرى، تسمح ميكانيكا الكم بوجود عدة واقعيات معقولة في أي لحظة.
على عكس عالم الكم، يُفترض أن "العالم الحقيقي" يتميز بتعريف مشترك واحد للواقع. دونالد ترامب هو الرئيس. روسيا وأوكرانيا في حالة حرب. الهند وباكستان تتصارعان حول كشمير. سعر سهم إنفيديا هو 135 دولاراً. هذه هي حقيقة العالم. ومع ذلك، غالباً ما يعتنق الناس حول العالم واقعيات مختلفة، ودائماً ما كانت هناك تعريفات متعددة للواقع تتعايش – وهذه تُعرف باسم "التاريخ".
وفقاً للتاريخ الروسي، انتهت الحرب الوطنية العظمى (1939-1945) في 8 مايو عندما رفع جندي العلم السوفييتي فوق الرايخستاغ الألماني. ووفقاً للتاريخ البريطاني، انتهت الحرب العالمية الثانية في 8 مايو 1945 عندما قدمت القيادة العليا الألمانية استسلاماً غير مشروط. أما وفقاً للتاريخ الأمريكي، فقد كانت حرب فيتنام تهدف إلى منع تأثير الدومينو الذي قد يؤدي إلى سقوط جنوب شرق آسيا في أيدي الشيوعية. بينما يرى التاريخ الفيتنامي أن حرب فيتنام كانت حرباً إمبريالية وحشية تهدف إلى منع توحيد فيتنام.
تستطيع معظم المجتمعات والدول أن توجد في عالم بدون تعريف مشترك واحد للواقع. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للدبلوماسية. في الواقع، تتطلب الأنشطة الدبلوماسية وجود تعريف مشترك للواقع. لا يستطيع الدبلوماسيون، على سبيل المثال، حل الحرب بين روسيا وأوكرانيا إذا كان بعضهم يعتقد بوجود آلاف الجنود الروس في أوكرانيا، بينما يرى آخرون أنه لا توجد قوات روسية هناك. لحل هذه الأزمة، يجب على الدبلوماسيين التوصل إلى نوع من الإجماع مثل: "هناك قوات روسية في أوكرانيا". بمجرد اتفاقهم على هذا الواقع، يمكنهم البحث عن سبل لإزالة هذه القوات.
إن الوصول إلى تعريف مشترك للواقع هو الهدف الأساسي من المفاوضات الدبلوماسية. في الحقيقة، فن التفاوض هو فن الوصول إلى إجماع حول الواقع. يتمتع المفاوضون بمهارة تقليص الفجوات بين تعريفات الواقع المختلفة للأطراف. عندما تعتنق دولتان تعريفين مختلفين تماماً للواقع، تصبح المفاوضات معقدة، وأحياناً مستحيلة. وكان هذا هو الحال خلال مؤتمر مدريد عام 1991، عندما لم تتمكن الوفود الإسرائيلية والعربية حتى من الاتفاق على وجود كيان سياسي يسمى "فلسطين". كلما كانت الفجوات بين تعريفات الواقع أصغر، كانت المفاوضات أسهل وأسرع.
يملي السعي إلى تعريف مشترك للواقع كيفية إجراء المفاوضات. فمن غير المرجح أن يغيّر الدبلوماسيون تعريفهم للواقع أمام كاميرات الأخبار، لأن ذلك سيعني نفي رسائل الدولة الرسمية. لكن عندما يكونون في غرفة تفاوض مغلقة، ومحاطين بزملاء موثوقين، قد يتمكن الدبلوماسيون من تعديل تعريفهم للواقع. ففي عام 2014، بعيدًا عن أعين المتطفلين، قد يكون دبلوماسي روسي قد أقر بأن "بعض" القوات الروسية قد عبرت إلى القرم.
إن السعي إلى تعريف مشترك للواقع هو أيضًا هدف من أهداف الدبلوماسية العامة، التي تتشارك فيها دولة ما تعريفها للواقع مع دولة أخرى. ففي عهد إدارة أوباما، نشرت الدبلوماسية العامة الأمريكية تعريفًا للواقع يفيد بأن "الاتفاق النووي الإيراني" من شأنه أن يمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية مع إنعاش الاقتصاد الإيراني وزيادة الاستقرار في المنطقة. وبمجرد أن تبنت دول أخرى هذه التعريفات للواقع، انضم دبلوماسيوها إلى نظرائهم الأمريكيين في محاولة التوسط من أجل إبرام اتفاق نووي مع إيران.
إن حقيقة أن الدبلوماسية تتطلب تعريفًا مشتركًا للواقع تفسر الإمكانات المدمرة للذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث يمكن استخدام هذه الأدوات لإنشاء واقعيات زائفة لكنها شديدة الإقناع. فعلى سبيل المثال، يمكن إنشاء صور وفيديوهات ومستندات وخطط عسكرية مزيفة من إنتاج الذكاء الاصطناعي في غضون ثوانٍ، ويمكن مشاركتها رقميًا، ما يؤدي إلى إنشاء مجموعة مذهلة من الواقعيات المعقولة. ويكمن ما يعزز قوة هذه الواقعيات الزائفة في درجة التعقيد العالية للمحتوى الذي يولده الذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد من الممكن التمييز بينه وبين المحتوى الحقيقي. وبهذا، يمكن لمستخدمي ChatGPT نشر واقع زائف لكنه مقنع، يفيد بوجود قوات صينية أو حتى أمريكية في أوكرانيا، وهي واقعيات مدعومة بصور ومذكرات.
في الأيام الأخيرة، أصبح استخدام الذكاء الاصطناعي في إنشاء واقعيات معقولة من شأنها تعقيد الأزمات وإرباك عمل الدبلوماسيين أمرًا واضحًا. ففي أعقاب النزاع الأخير بين الهند وباكستان، سعت وزارات الخارجية بشكل محموم إلى جمع المعلومات. كان من الواضح أن شكلاً من أشكال التبادل العسكري قد وقع، لكن التفاصيل الدقيقة لم تكن واضحة. إلى جانب الأدوات المعتادة للمعلومات المضللة — صور من صراعات أخرى، وتعديلات رديئة باستخدام الفوتوشوب — ظهرت الآن شكل جديد من التضليل. ففي الثامن من مايو، أي بعد يوم واحد فقط من التبادل، ظهر مقطع فيديو مزيف متطور يُظهر الجنرال الباكستاني أحمد شريف شودري وهو يعلن فقدان طائرتين باكستانيتين. وقد انتشر التقرير بسرعة على القنوات الإعلامية الهندية، وشوهد ما يقرب من مليون مرة قبل أن يتم كشف زيفه. وتُظهر السرعة التي يمكن بها إنتاج وتوزيع صور مزيفة باستخدام الذكاء الاصطناعي أن الدبلوماسية تواجه الآن تحديات أكبر من أي وقت مضى في الحفاظ على تعريف واحد للواقع.
من الجدير بالذكر أن الواقعيات التي يولدها الذكاء الاصطناعي يمكن أن تُرسل عبر خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي مباشرةً إلى أشخاص مستعدين لتصديقها. وهكذا، سيعكس العالم الحقيقي فجأة عالم الذرة، حيث يمكن لعدة واقعيات أن تتعايش في الوقت نفسه. ومع ذلك، فإن الاحتمالات الإحصائية لن تنطبق على العالم الحقيقي، إذ سيكون هناك عدد لا نهائي من الواقعيات المعقولة التي يعتنقها الناس، كل منها من إنتاج مستخدمين مختلفين للذكاء الاصطناعي ومُرّر عبر خوارزميات مختلفة. هذا العدد اللانهائي من الواقعيات المعقولة سيؤدي إلى تفتيت المجتمعات إلى ذرات لا تتحد لتشكيل كيان متماسك. وبالتالي، فإن العالم الحقيقي سيكون أكثر صعوبة في الفهم من عالم الكم، وسيكون من شبه المستحيل على الدبلوماسيين إدارته.
فكيف يمكن للدبلوماسيين التوصل إلى تعريف مشترك للواقع عندما لا يوجد واقع واحد؟ قد يدخل الدبلوماسيون قريبًا إلى غرفة التفاوض وهم يؤمنون بواقعيات متناقضة، مما يجعل المفاوضات شبه مستحيلة. وبالمثل، فإن أنشطة الدبلوماسية العامة ستصبح غير فعالة، فكيف يمكن لدولتين أن تتوصلا إلى تعريف مشترك للواقع عندما يكون الرأي العام الوطني قد انقسم إلى عدد لا نهائي من الواقعيات المعقولة؟ سيتعين على أي رسالة دبلوماسية أن تراعي كل الواقعيات الممكنة. ولكن، مثل الإلكترونات، فإن كل واقع سيتألف من متغيرات عديدة لا يمكن حسابها. وفي النهاية، في سعيهم للتوصل إلى بعض التوافقات، قد يقوم الدبلوماسيون بأتمتة رسائلهم، باستخدام روبوتات لإنشاء عدد لا نهائي من الصيغ المختلفة للرسائل التي تراعي عددًا لا نهائيًا من الواقعيات. إن "بوتنة" الدبلوماسية هذه ستعجّل بزوالها كأداة لإدارة الشؤون العالمية. وستُختزل الدبلوماسية إلى سطور من الشيفرات بينما يتوق الدبلوماسيون إلى عزاء غرف التفاوض القديمة.