Announcement Title

Your first announcement to every user on the forum.

رؤية كونفوشيوس

captcha

عضو جديد
عضو انكور
تخيل كونفوشيوس مستقبلًا يسود فيه التناغم الاجتماعي والحكم الحكيم مرة أخرى. كانت رؤيته المستقبلية تستند إلى الماضي بشكل كبير. فقد رأى كونفوشيوس — انطلاقًا من قناعته بتحقُّق العصر الذهبي بصورة كاملة في تاريخ الصين المعروف — أنه من الضروري العودة إلى هذا التاريخ، وإلى المؤسسات السياسية والعلاقات الاجتماعية، والمُثل العليا الخاصة بتربية النفس، التي اعتقد أنها سادت في بداية حكم الأسرة تشو، من أجل خلق رؤية صالحة لجميع الأزمنة. هنا، يجدر عقد مقارنة بين كونفوشيوس وأفلاطون، الذي عاش بعد وفاة كونفوشيوس ببضعة قرون. كان أفلاطون، مثل كونفوشيوس، متحمسًا لتحسين الحياة السياسية والاجتماعية المعاصرة. لكنه، على عكس كونفوشيوس، لم يرَ أن الماضي يقدم نموذجًا معياريًّا للحاضر. لذا اعتمد، في تشييده لمجتمعه المثالي في كتابه «الجمهورية»، على تأملاته الفلسفية ومحاوراته الفكرية مع الآخرين، أكثر من محاولته استحضار الماضي.

لا أقصد قطعًا أن كونفوشيوس لم يهتم بالتأمل الفلسفي أو محاورة الآخرين. لكن الرجوع إلى الماضي، ومحاولة استخلاص العِبَر منه، استحوذا على عقله وتفكيره بشكل خاص. وقد اتخذ استقراء الماضي صورة دراسة الكتب الكلاسيكية، وخاصةً «كتاب القصائد» و«كتاب التاريخ». في هذا الشأن، قال كونفوشيوس لتلاميذه موضحًا: «يمكن أن يصير «كتاب القصائد» مصدرًا للإلهام وأساسًا للتقييم، كما يمكنه مساعدتكم في الانسجام مع الآخرين والتعبير عن غضبكم على المفاسد بشكل صحيح. ففي البيت يعلِّمك كيفية أداء حق والديك عليك، وفي الحياة العامة يعلمك كيفية أداء حق الحاكم عليك» (١٧: ٩). هذه الإحالات الكثيرة إلى أجزاء من «كتاب القصائد» وإلى قصص وأساطير من «كتاب التاريخ» تشير إلى إعجاب كونفوشيوس الكبير بهذين الكتابين خاصةً، وبالقيم والممارسات الطقسية والأساطير والمؤسسات المذكورة فيها.

لكن كونفوشيوس لم يستقِ معرفته عن الماضي من الكتب الكلاسيكية فحسب. فقد كان التقليد الشفهي مصدرًا غنيًّا للحكمة التاريخية بالنسبة له. فالقصص والأساطير عن الملوك الأسطوريين الحكماء من أمثال ياو، وشون، ويو، وعن الملوك من أمثال وو، ووِن، والحاكم تشو الذي أسس إمبراطورية تشو وبدأ عصرًا استثنائيًّا من الانسجام الاجتماعي والسياسي، وعن الحكام والمسئولين المشهورين أو غير المشهورين من أمثال بو بي، وهوان حاكم تشي، وقوان جُونج، وليو شيا هوي — المذكورين جميعًا في كتابه «المختارات» — أكملت ما تعلَّمه من الكتب، وساعدته على تكوين صورة أكبر عن الماضي.

ومما يثير الاهتمام أنه كان لكونفوشيوس مصدرٌ آخر للمعرفة، وهو سلوك معاصريه. فمن خلال مراقبتهم، انتقى الآداب والممارسات التي يرى أنها تتوافق مع المعايير الثقافية لبداية حكم أسرة تشو، ومدَحها، وتلك التي — في رأيه — ساهمت في انحدار تلك الأسرة، واستقبحها. ويُظهره كتاب «المختارات» وهو ينتقد بشدةٍ الخطابات البارعة، ولكن غير المخلصة، ومظاهر التزلف، والاحترام المتصنع، والخنوع للسلطة، والشجاعة التي لا تقف وراءها مبادئ أخلاقية، والسعي الدءوب وراء الانتصارات الدنيوية؛ إذ وجد تلك السلوكيات سائدة بين معاصريه، ولاحظ ارتباطها بالتدهور الأخلاقي لأسرة تشو. ومن أجل إنهاء هذا التدهور، كان لا بد أن يتعلم الناس مرة أخرى كيفية التعامل مع الآخرين باحترام حقيقي، والتأني في الكلام والعجلة في العمل، والتحلي بالوفاء والتمسك بالعهود، والنقد المكاشِف المتلطف للأصدقاء وأفراد العائلة والحكام الذين انحرفوا عن الطريق القويم، والتحرر من الحقد عند الفقر، والتحرر من الغرور عند الغنى، والالتزام بفترة الحداد على موت الوالدين التي تستمر لمدة ثلاث سنوات، وهو تقليد كان قد هجره الناس منذ فترة طويلة، ما أصاب كونفوشيوس بالحزن الشديد. باختصار، كان على الجميع أن يتعلم من جديد السلوكَ الطقسي الذي أنتج المجتمع المنسجم في بداية حكم أسرة تشو.

لسنا بصدد البحث في حقيقة وصف كونفوشيوس لهذه الحقبة بالعصر الذهبي، وهل هو «مثالي» في ذلك أم لا. ما يهمنا هنا هو أن ذلك الارتباط ﺑ «العصر الذهبي» أكسبَ رؤيته سلطة وشرعية أكبر، كما صدَّق على صحة الطقوس والممارسات التي دافع عنها. ولعل هذه الرغبة في استمداد السلطة والشرعية من التاريخ — في حقبة تتسم بالاضطراب والفوضى — قد تساعد في تفسير حماسة كونفوشيوس لتقديم نفسه على أنه مجرد ناقل أو محب للأقدمين لا أكثر (٧: ١). في الحقيقة، ورغم إصراره على أنه ناقل لمعارف الأقدمين لا أكثر، فليس ثَمة شك في أنه قد صاغ رؤية سياسية اجتماعية مبدعة — وطويلة الأمد — من دراسته ومحاولته لإحياء الفترة الأولى من حكم أسرة تشو. بَيد أن تقديم كونفوشيوس نفسه كشخص يستمد أفكاره من الماضي، وينقل ما كان لا أكثر، أسَّس ما سيصبح فيما بعدُ نموذجًا ثقافيًّا في الصين. فالإبداع المنسلخ تمامًا عن الماضي لم يحظَ باحتفاء كبير في التقليد الصيني في فترة ما قبل الحداثة. فما كان أحد ليصف ما فعله جاكسون بولوك، على سبيل المثال، بأنه عبقري مبدع في الصين كما حدث في الغرب؛ لإنكاره أي صلة له بالماضي عن وعي وافتخار. والكُتاب والمفكرون والفنانون العظماء ما اكتسبوا صفة العظمة إلا لإتقانهم الموروثات القديمة، ونعني بها أفضل الأفكار والطرائق الخاصة بالماضي. فقد تعلموا أن يكونوا عظماء، من خلال ربط أنفسهم بعظماء الماضي، واستيعابهم لأساليبهم وطرائقهم استيعابًا تامًّا. لا شك أن مجرد التقليد غير كافٍ، ولن يكون مفتقرًا للإبداع أبدًا. فلا بد للمرء أن يضيف لمسته الإبداعية، الخاصة به دون سواه، إلى جانب تمكُّنه من أعمال الماضي.

لهذا السبب، عندما تزور مَعرِضًا في أحد المتاحف لمشاهدة لوحات المناظر الطبيعية الصينية لفترة ما قبل الحداثة، ستبدو لك اللوحات، وهي مُعلقة جنبًا إلى جنب، متشابهة جدًّا لأول وهلة. لكنك بعد فحصها من كثبٍ، ستجد أن هذا الفنان قد طوَّر حركة فرشاة جديدة، وذاك ابتدع استخدامًا جديدًا لتخفيف الحبر بالماء، وثَمة آخر ابتكر أسلوبًا جديدًا في رسم الأشجار وثمارها. وبعد أن تألف عيناك هذا الأسلوب، وتصيرا أكثر حساسية، فإنهما تقدران على رؤية الاختلافات الدقيقة في لوحات المناظر الطبيعية، بما تشتمل عليه من مختلف الأساليب والطرائق البارعة في التعبير. ولكن حتى إن قدرت عيناك على رؤية الاختلافات الدقيقة بين اللوحات، فإنها ستدرك في الوقت نفسه ولادتها من رحم تقليد شائع في رسم المناظر الطبيعية، حيث يبني الفنانون بوعي على أعمال المعلمين الأقدمين.​
 

ما هو انكور؟

هو منتدى عربي تطويري يرتكز على محتويات عديدة لاثراء الانترنت العربي، وتقديم الفائدة لرواد الانترنت بكل ما يحتاجوه لمواقعهم ومنتدياتهم واعمالهم المهنية والدراسية. ستجد لدينا كل ما هو حصري وكل ما هو مفيد ويساعدك على ان تصل الى وجهتك، مجانًا.
عودة
أعلى