بسم الله الرحمن الرحيم
ن التعدد والاحادية: صراع الرؤى في موسم الهجرة.
نشرت بواسطة: أبوبكر عبد الرازق محمد 2016/02/29
“اللغة الفرنسية عندي هي غنيمة حرب”
الكاتب والاديب الجزائري كاتب ياسين
“إنهم عاجلاً أم أجلاً سيخرجون، وسنتحدث لغتهم دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل”
الراوي في رواية موسم الهجرة إلى الشمال
يطرح الروائي والكاتب السوداني الطيب صالح (1929-2009) مسألة المواجهة بين الشرق/المستعمَر، والغرب/المستعمِر، في أجلى صورها، وأوج تجلياتها، في روايته الموسومة “موسم الهجرة إلى الشمال” الصادرة عام 1966 عن دار العودة ببيروت، لا لأنه أول روائي يكتب بالعربية متناولاً المسألة، فقد سبقه الروائي المصري توفيق الحكيم (1898-1987) برواية “عصفور من الشرق” المنشورة عام 1938، والروائي والكاتب المصري يحيى حقي (1905-1992) في روايته “قنديل أم هاشم” المنشورة عام 1944، وكتب عنها قبله أيضاً الروائي اللبناني سهيل إدريس (1925-2008) في روايته “الحي اللاتيني” المنشورة عام 1953، إلا أن أهم ما يميز رواية موسم الهجرة عن سابقاتها، هو ما يسميه الناقد والكاتب المصري رجاء النقاش بـ”الموقف الحضاري للكاتب الفنان”(النقاش: دت). يتجلى هذا الموقف الحضاري للكاتب الفنان، في براعة الطيب صالح التي استطاع من خلالها حشد مجمل تناقضات العالم الاستعماري بأدواته المادية والمعنوية وخطاباته التي سوغت للاستعمار، كوجهات نظر متطابقة نسبياً، مثلت العالم الغربي الأوروبي، في مواجهة وجهات نظر العالم العربي الأفريقي المستعمر، متمثلة في الرؤى المتناقضة للراوي من جهة، وشخوص الرواية من جهة، وبطل الرواية “مصطفى سعيد” الذي مثلت رؤيته أقصى حدود التطرف والحقد والرغبة في الانتقام، من جهة ثالثة.
أسهم البناء الروائي المغاير والجديد في ذلك الوقت على الرواية العربية، في إبراز ميزة تعدد الأصوات داخل النص، التي أثرت العمل الروائي وفتحته على مستويات متعددة ومتباينة، من احتمالات القراءة والتفسير، ما جعل الرواية في مجملها تزخر بالعديد من الإشارات الدالة والرموز المفتاحية التي تعين على القراءة والتأويل، وهنا يحاول هذا المقال القصير التقاط بعضها لينسج حوله رؤيته، ويبني عليه فرضيته الأساسية، القائلة بتعدد الرؤى الشرقية للغرب وتباينها، وإذن انفتاحها وسيولتها، بمعنى قابليتها للتشكل مجدداً وفقاً للحقائق، في مقابل أحادية رؤية الغرب للشرق وجمودها وانغلاقها.
يقيم الطيب صالح منذ البدء حاجزاً قوياً بينه وبين الراوي، في رواية موسم الهجرة، فالرواية التي تضج بتعدد الأصوات واختلاف مستويات السرد، ما بين الراوي وشخوص روايته، والانتقالات السريعة والحادة بين مواقع الأحداث ومواضع السرد، تجعل من مهمة معرفة من يتكلم، لقارئ الرواية، مهمة لا تخلو من عسر، وتتطلب تركيزاً كبيراً وجهداً في القراءة. تبدأ الرواية بالجملة “عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبع سنوات على وجه التحديد ثلاث سنوات قضيتها أنقب في حياة شاعر إنكليزي مغمور”. فالراوي الذي حاز شهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي وعاد إلى السودان ليعمل في سلك التعليم، ليس هو الطيب صالح الذي تقول سيرته إنه نال شهادته الجامعية الأولى من السودان في العلوم، ولم يذهب إلى بريطانيا للدراسة، بل ذهب ليلتحق بالقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية في لندن، وعمل به حتى وصل لدرجة مدير قسم الدراما، وإن أمعن الطيب صالح في إقامة هذه التفرقة والتمييز الفاصل بينه وبين الراوي، فلكأنه كان يخشى ما وقع لاحقاً من خلط نتيجة لتعدد الأصوات وتداخلها، وبرغم هذه التفرقة الحاسمة التي جئنا على ذكرها، فهي لم تمنع البعض من ذوي الخيال الخصب، لا من الخلط بين كاتب الرواية والراوي فحسب(جزيزيلدا: دت)، بل بينه وبين بطل الرواية، فقد عد كثيرون الطيب صالح، هو نفسه مصطفى سعيد*.
تأتي إحدى أهم العلامات المفتاحية في تأويل الرواية من خلال دلالة تاريخ ميلاد مصطفى سعيد، المولود بالخرطوم في العام 1898 (ص 22)، لم يختر الكاتب هذا التاريخ مصادفة، فهو ذات تاريخ احتلال القوات البريطانية الغازية إلى السودان، فكأنما أراد الكاتب أن يربط مولد بطل الرواية بمولد سودان الاحتلال البريطاني، لا السودان المستقل، سودان يراد له، لكن ليست له إرادة، ذلك البطل الذي تبع خطو الرجل الإنجليزي وقع الحافر على الحافر، فأتقن لغته وكان “يعوج فمه ويمط شفتيه فتخرج الكلمات من فمه كأنها تخرج من أفواه أهلها” (ص56)، بينما ينطق زملاؤه من السودانيين الآخرين الكلمات الإنجليزية وكأنها كلمات عربية، ولا يستطيعون تسكين حرفين متتاليين، كما يقول زميله لاحقاً للراوي، لا بل بز بعقله الأسطوري وقدراته الذهنية الخارقة، أصحاب حضارة العقل أنفسهم، فعرض عليه ناظر المدرسة الإنجليزي أن يسافر “هذه البلاد لا تتسع لذهنك فسافر، اذهب إلى مصر أو لبنان أو إنكلترا، ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن” (ص: 26).
وكنتيجة طبيعية لبرودة مشاعر مصطفى سعيد الصبي، يقول وهو يفارق أمه “لا دموع ولا ضوضاء، مخلوقان سارا شطراً من الطريق معاً، ثم سلك كل منهما سبيله ليس ثمة مخلوق أب أو أم يربطني إلى بقعة معينة من الأرض أو محيط معين” (ص: 27-23)، فهو على عكس الراوي الذي كان طوال فترة غربته في بريطانيا يحن إلى أهله وقريته ويحلم بهم في منامه، يقول الراوي وهو يصف إحساسه بوجوده وسط أهله: “أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس، ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زماناً في بلاد تموت من البرد حيتانها كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي، وفي صدري إحساس بارد جامد” (ص 5-30). وما بين مشاعر الراوي المتأججة وإحساسه بأهله في مقابل انعدام الإحساس لدى بطل الرواية، تنهض رؤية الكاتب بذكاء لتقدم مقاربة للشرق، يمثلها الراوي، تقوم على العقل والوجدان معاً، في مقابل رؤية مصطفى سعيد التي تتقمص الغرب فتركز فقط على العقل وتنسى الوجدان، الذي يمضي مشحوناً بالأحقاد إلى أن تحين لحظة انفجاره.
ويمضي الكاتب ليعدد أوجه الخطابات وأشكال الممارسات التي شكلت رؤية الغرب للشرق، وبلورت صورته وسعت إلى تثبيتها، تارة على لسان أوروبيين وأخرى على لسان شخوص من الشرق، كالاقتصادي الإنجليزي ريتشارد الذي يرى في الأفارقة قوم لا يؤمنون إلا بالأساطير والخرافات، أو أستاذ القانون بروفيسور ماكسول فستر كين، الذي كان يمحض مصطفى سعيد الكره فيقول له: “أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى”، أو حتى الفتيات الإنجليزيات اللائي لم يكن يرين في مصطفى سعيد غير كائن غريب خرق شروط وجوده الطبيعية المضادة للعقل والمنطق، فأصبح أيقونة انبهرت بها كل من التقته وسعت إلى حيازتها.
في مقابل هذه الصورة النمطية للشرقي الأفريقي المستعمر، الثابتة وغير القابلة للتغير أو التبدل، نجد تعدداً وتبايناً لصورة الأوروبي وللاستعمار نفسه، عند الشرقي الأفريقي، تصل الى حد التضاد والاختلاف، ما بين رؤية مصطفى سعيد المتطرفة التي دفعته للانتقام، فهي لا ترى غير جانب واحد فقط هو أن “البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم، إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر” (ص:98)، لذلك كان مصراً دائماً على أن رده يجب أن يكون على هذه الشاكلة: “إلى أن يرث المستضعفون الأرض وتسرح الجيوش ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية” (ص 45)، ولم يكن يرى في ما يقوم به أي مخالفة، بل ذهب لحد تشبيه تصرفاته بحوادث الطبيعة العادية وهو يرد في دخيلته على إيزابيلا سيمور: “ولهذا فأنا لا أنوي بك شراً إلا بقدر ما يكون البحر شريراً حين تتحطم السفن على صخوره، وبقدر ما تكون الصاعقة شريرة حينما تشق الشجرة نصفين” (ص45).
وإن كان الأكاديمي السوداني صديق الراوي، المقيم في الخرطوم “منصور”، يتبنى رأياً حاداً هو الآخر، إذ يقول رداً على الاقتصادي الإنجليزي ريتشارد: “ماذا أعطيتمونا غير الشركات الرأسمالية التي نزفت دمنا ولا تزال” (ص 64)، فهو لا يُحمل رؤيته النقدية للاستعمار على حدتها، أي نوع من الغبن، فلم يكن غاضباً بل كان يضحك مع محدثه الإنجليزي، إلى جانب هؤلاء يأتي عم الراوي عبد المنان الذي يشكو بطء الحكومات الوطنية وضجيج أحزابها فيذهب لحد تفضيل الاستعمار: “كنا مرتاحين أيام الإنجليز من هذه الدوشة” (ص 68)، لتأتي أخيراً نظرة الراوي بشكل مخالف لكل من مصطفى سعيد ومنصور وعبد المنان، متوازنة وأكثر عقلانية، بل وحتى ذات بعد تسامحي مسيحي تتفوق على تسامح ذوي ضحايا مصطفى سعيد الذين شهدوا لصالحه بدلاً من أن يشهدوا ضده، فنظرة الراوي للاستعمار هي أن “مجيئهم لم يكن مأساة كما نصور نحن، ولا نعمة كما يتصورون هم، كان عملاً ميليودرامياً سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة عظمى” (ص 63)، لذلك نجده يردد بحكمة رجل مطمئن تماماً لصحة موقفه: “كونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا، إنهم سيخرجون من ديارنا إن عاجلاً أم أجلاً، سكك الحديد والبواخر والمصانع والمستشفيات والمدارس ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل، سنكون كما نحن قوما عاديين” (ص 53)، وحتى حينما يقارن نفسه بمصطفى سعيد ويتساءل عن احتمال أن يحدث له ما حدث لمصطفى سعيد نجده يرد: “قال إنه أكذوبة، فهل أنا أيضاً أكذوبة؟ إنني من هنا، أليست هذه حقيقة كافية؟ لقد عشت أيضاً معهم ، لكنني عشت معهم فقط على السطح، لا أحبهم ولا أكرههم، كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة” (ص 52).
ولكن حتى أكثر رؤى الشرق تطرفاً وحقداً على الاستعمار لا نجدها قارة ساكنة ثابتة على حالها، كما هي رؤية الغرب للشرق، فمصطفى سعيد أكثر مبغضي الغرب والساعي إلى الانتقام منه حد تدميره لذاتهن نجده يعود لصوابه ويصحح رؤيته بعد أن أيقن أن حياته محض أكذوبة، فهو يقول في ثنايا اعترافه للراوي بعد قتله زوجته “جين مورس”: “وكل شيء فعلته بعد قتلها كان اعتذاراً لا لقتلها بل لأكذوبة حياتي” (ص 33) فهو يقر بأن حياته كانت أكذوبة، ومجيئه إلى القرية إذن وارتباطه بالناس والأرض وحتى زواجه من حسنة بنت محمود لم يكن إلا تكفيراً عن إيمانه بالأكذوبة وانسياقه وراء نزواتها، كأنه يعود ليتفق مع نموذج الراوي الذي يرى الارتباط بالبلد والتراب وأوجه الأهل والأقارب هو الحقيقة والحصن الذي يقي شر الانجراف إلى أقصى مشاعر التطرف ونزوات الانتقام، تؤكد هذه النتيجة الأخيرة رغبة مصطفى سعيد في أن ينشأ ابناه بالقرية، في خطاب وصيته للراوي: “”إذا نشآ مشبعين بهواء هذا البلد ورائحته وألوانه وتاريخه ووجوه أهله وذكرياته وفيضاناته وحصاداته وزراعاته فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيء له معنى إلى جانب معان كثيرة أعمق مدلولاً” (ص 70)، ولا يخفي خشيته من أن يقتفي ابناه أثره ويصيرا مثله بقوله: “وا حسرتي إذا نشأ ولداي أحدهما أو كلاهما، وفيهما جرثومة هذه العدوى، عدوى الرحيل” (ص 71) وهو بهذا يقطع تماماً بعدم جدارة تجربته كأب لتصبح نموذجاً لولديه، وفي ذلك أقصى مراحل نقد الذات وتصحيح مسارها.
البعيد
#شبكة_انكور_التطويرية
ن التعدد والاحادية: صراع الرؤى في موسم الهجرة.
نشرت بواسطة: أبوبكر عبد الرازق محمد 2016/02/29
“اللغة الفرنسية عندي هي غنيمة حرب”
الكاتب والاديب الجزائري كاتب ياسين
“إنهم عاجلاً أم أجلاً سيخرجون، وسنتحدث لغتهم دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل”
الراوي في رواية موسم الهجرة إلى الشمال
يطرح الروائي والكاتب السوداني الطيب صالح (1929-2009) مسألة المواجهة بين الشرق/المستعمَر، والغرب/المستعمِر، في أجلى صورها، وأوج تجلياتها، في روايته الموسومة “موسم الهجرة إلى الشمال” الصادرة عام 1966 عن دار العودة ببيروت، لا لأنه أول روائي يكتب بالعربية متناولاً المسألة، فقد سبقه الروائي المصري توفيق الحكيم (1898-1987) برواية “عصفور من الشرق” المنشورة عام 1938، والروائي والكاتب المصري يحيى حقي (1905-1992) في روايته “قنديل أم هاشم” المنشورة عام 1944، وكتب عنها قبله أيضاً الروائي اللبناني سهيل إدريس (1925-2008) في روايته “الحي اللاتيني” المنشورة عام 1953، إلا أن أهم ما يميز رواية موسم الهجرة عن سابقاتها، هو ما يسميه الناقد والكاتب المصري رجاء النقاش بـ”الموقف الحضاري للكاتب الفنان”(النقاش: دت). يتجلى هذا الموقف الحضاري للكاتب الفنان، في براعة الطيب صالح التي استطاع من خلالها حشد مجمل تناقضات العالم الاستعماري بأدواته المادية والمعنوية وخطاباته التي سوغت للاستعمار، كوجهات نظر متطابقة نسبياً، مثلت العالم الغربي الأوروبي، في مواجهة وجهات نظر العالم العربي الأفريقي المستعمر، متمثلة في الرؤى المتناقضة للراوي من جهة، وشخوص الرواية من جهة، وبطل الرواية “مصطفى سعيد” الذي مثلت رؤيته أقصى حدود التطرف والحقد والرغبة في الانتقام، من جهة ثالثة.
أسهم البناء الروائي المغاير والجديد في ذلك الوقت على الرواية العربية، في إبراز ميزة تعدد الأصوات داخل النص، التي أثرت العمل الروائي وفتحته على مستويات متعددة ومتباينة، من احتمالات القراءة والتفسير، ما جعل الرواية في مجملها تزخر بالعديد من الإشارات الدالة والرموز المفتاحية التي تعين على القراءة والتأويل، وهنا يحاول هذا المقال القصير التقاط بعضها لينسج حوله رؤيته، ويبني عليه فرضيته الأساسية، القائلة بتعدد الرؤى الشرقية للغرب وتباينها، وإذن انفتاحها وسيولتها، بمعنى قابليتها للتشكل مجدداً وفقاً للحقائق، في مقابل أحادية رؤية الغرب للشرق وجمودها وانغلاقها.
يقيم الطيب صالح منذ البدء حاجزاً قوياً بينه وبين الراوي، في رواية موسم الهجرة، فالرواية التي تضج بتعدد الأصوات واختلاف مستويات السرد، ما بين الراوي وشخوص روايته، والانتقالات السريعة والحادة بين مواقع الأحداث ومواضع السرد، تجعل من مهمة معرفة من يتكلم، لقارئ الرواية، مهمة لا تخلو من عسر، وتتطلب تركيزاً كبيراً وجهداً في القراءة. تبدأ الرواية بالجملة “عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبع سنوات على وجه التحديد ثلاث سنوات قضيتها أنقب في حياة شاعر إنكليزي مغمور”. فالراوي الذي حاز شهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي وعاد إلى السودان ليعمل في سلك التعليم، ليس هو الطيب صالح الذي تقول سيرته إنه نال شهادته الجامعية الأولى من السودان في العلوم، ولم يذهب إلى بريطانيا للدراسة، بل ذهب ليلتحق بالقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية في لندن، وعمل به حتى وصل لدرجة مدير قسم الدراما، وإن أمعن الطيب صالح في إقامة هذه التفرقة والتمييز الفاصل بينه وبين الراوي، فلكأنه كان يخشى ما وقع لاحقاً من خلط نتيجة لتعدد الأصوات وتداخلها، وبرغم هذه التفرقة الحاسمة التي جئنا على ذكرها، فهي لم تمنع البعض من ذوي الخيال الخصب، لا من الخلط بين كاتب الرواية والراوي فحسب(جزيزيلدا: دت)، بل بينه وبين بطل الرواية، فقد عد كثيرون الطيب صالح، هو نفسه مصطفى سعيد*.
تأتي إحدى أهم العلامات المفتاحية في تأويل الرواية من خلال دلالة تاريخ ميلاد مصطفى سعيد، المولود بالخرطوم في العام 1898 (ص 22)، لم يختر الكاتب هذا التاريخ مصادفة، فهو ذات تاريخ احتلال القوات البريطانية الغازية إلى السودان، فكأنما أراد الكاتب أن يربط مولد بطل الرواية بمولد سودان الاحتلال البريطاني، لا السودان المستقل، سودان يراد له، لكن ليست له إرادة، ذلك البطل الذي تبع خطو الرجل الإنجليزي وقع الحافر على الحافر، فأتقن لغته وكان “يعوج فمه ويمط شفتيه فتخرج الكلمات من فمه كأنها تخرج من أفواه أهلها” (ص56)، بينما ينطق زملاؤه من السودانيين الآخرين الكلمات الإنجليزية وكأنها كلمات عربية، ولا يستطيعون تسكين حرفين متتاليين، كما يقول زميله لاحقاً للراوي، لا بل بز بعقله الأسطوري وقدراته الذهنية الخارقة، أصحاب حضارة العقل أنفسهم، فعرض عليه ناظر المدرسة الإنجليزي أن يسافر “هذه البلاد لا تتسع لذهنك فسافر، اذهب إلى مصر أو لبنان أو إنكلترا، ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن” (ص: 26).
وكنتيجة طبيعية لبرودة مشاعر مصطفى سعيد الصبي، يقول وهو يفارق أمه “لا دموع ولا ضوضاء، مخلوقان سارا شطراً من الطريق معاً، ثم سلك كل منهما سبيله ليس ثمة مخلوق أب أو أم يربطني إلى بقعة معينة من الأرض أو محيط معين” (ص: 27-23)، فهو على عكس الراوي الذي كان طوال فترة غربته في بريطانيا يحن إلى أهله وقريته ويحلم بهم في منامه، يقول الراوي وهو يصف إحساسه بوجوده وسط أهله: “أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس، ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زماناً في بلاد تموت من البرد حيتانها كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي، وفي صدري إحساس بارد جامد” (ص 5-30). وما بين مشاعر الراوي المتأججة وإحساسه بأهله في مقابل انعدام الإحساس لدى بطل الرواية، تنهض رؤية الكاتب بذكاء لتقدم مقاربة للشرق، يمثلها الراوي، تقوم على العقل والوجدان معاً، في مقابل رؤية مصطفى سعيد التي تتقمص الغرب فتركز فقط على العقل وتنسى الوجدان، الذي يمضي مشحوناً بالأحقاد إلى أن تحين لحظة انفجاره.
ويمضي الكاتب ليعدد أوجه الخطابات وأشكال الممارسات التي شكلت رؤية الغرب للشرق، وبلورت صورته وسعت إلى تثبيتها، تارة على لسان أوروبيين وأخرى على لسان شخوص من الشرق، كالاقتصادي الإنجليزي ريتشارد الذي يرى في الأفارقة قوم لا يؤمنون إلا بالأساطير والخرافات، أو أستاذ القانون بروفيسور ماكسول فستر كين، الذي كان يمحض مصطفى سعيد الكره فيقول له: “أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى”، أو حتى الفتيات الإنجليزيات اللائي لم يكن يرين في مصطفى سعيد غير كائن غريب خرق شروط وجوده الطبيعية المضادة للعقل والمنطق، فأصبح أيقونة انبهرت بها كل من التقته وسعت إلى حيازتها.
في مقابل هذه الصورة النمطية للشرقي الأفريقي المستعمر، الثابتة وغير القابلة للتغير أو التبدل، نجد تعدداً وتبايناً لصورة الأوروبي وللاستعمار نفسه، عند الشرقي الأفريقي، تصل الى حد التضاد والاختلاف، ما بين رؤية مصطفى سعيد المتطرفة التي دفعته للانتقام، فهي لا ترى غير جانب واحد فقط هو أن “البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم، إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر” (ص:98)، لذلك كان مصراً دائماً على أن رده يجب أن يكون على هذه الشاكلة: “إلى أن يرث المستضعفون الأرض وتسرح الجيوش ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية” (ص 45)، ولم يكن يرى في ما يقوم به أي مخالفة، بل ذهب لحد تشبيه تصرفاته بحوادث الطبيعة العادية وهو يرد في دخيلته على إيزابيلا سيمور: “ولهذا فأنا لا أنوي بك شراً إلا بقدر ما يكون البحر شريراً حين تتحطم السفن على صخوره، وبقدر ما تكون الصاعقة شريرة حينما تشق الشجرة نصفين” (ص45).
وإن كان الأكاديمي السوداني صديق الراوي، المقيم في الخرطوم “منصور”، يتبنى رأياً حاداً هو الآخر، إذ يقول رداً على الاقتصادي الإنجليزي ريتشارد: “ماذا أعطيتمونا غير الشركات الرأسمالية التي نزفت دمنا ولا تزال” (ص 64)، فهو لا يُحمل رؤيته النقدية للاستعمار على حدتها، أي نوع من الغبن، فلم يكن غاضباً بل كان يضحك مع محدثه الإنجليزي، إلى جانب هؤلاء يأتي عم الراوي عبد المنان الذي يشكو بطء الحكومات الوطنية وضجيج أحزابها فيذهب لحد تفضيل الاستعمار: “كنا مرتاحين أيام الإنجليز من هذه الدوشة” (ص 68)، لتأتي أخيراً نظرة الراوي بشكل مخالف لكل من مصطفى سعيد ومنصور وعبد المنان، متوازنة وأكثر عقلانية، بل وحتى ذات بعد تسامحي مسيحي تتفوق على تسامح ذوي ضحايا مصطفى سعيد الذين شهدوا لصالحه بدلاً من أن يشهدوا ضده، فنظرة الراوي للاستعمار هي أن “مجيئهم لم يكن مأساة كما نصور نحن، ولا نعمة كما يتصورون هم، كان عملاً ميليودرامياً سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة عظمى” (ص 63)، لذلك نجده يردد بحكمة رجل مطمئن تماماً لصحة موقفه: “كونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا، إنهم سيخرجون من ديارنا إن عاجلاً أم أجلاً، سكك الحديد والبواخر والمصانع والمستشفيات والمدارس ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل، سنكون كما نحن قوما عاديين” (ص 53)، وحتى حينما يقارن نفسه بمصطفى سعيد ويتساءل عن احتمال أن يحدث له ما حدث لمصطفى سعيد نجده يرد: “قال إنه أكذوبة، فهل أنا أيضاً أكذوبة؟ إنني من هنا، أليست هذه حقيقة كافية؟ لقد عشت أيضاً معهم ، لكنني عشت معهم فقط على السطح، لا أحبهم ولا أكرههم، كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة” (ص 52).
ولكن حتى أكثر رؤى الشرق تطرفاً وحقداً على الاستعمار لا نجدها قارة ساكنة ثابتة على حالها، كما هي رؤية الغرب للشرق، فمصطفى سعيد أكثر مبغضي الغرب والساعي إلى الانتقام منه حد تدميره لذاتهن نجده يعود لصوابه ويصحح رؤيته بعد أن أيقن أن حياته محض أكذوبة، فهو يقول في ثنايا اعترافه للراوي بعد قتله زوجته “جين مورس”: “وكل شيء فعلته بعد قتلها كان اعتذاراً لا لقتلها بل لأكذوبة حياتي” (ص 33) فهو يقر بأن حياته كانت أكذوبة، ومجيئه إلى القرية إذن وارتباطه بالناس والأرض وحتى زواجه من حسنة بنت محمود لم يكن إلا تكفيراً عن إيمانه بالأكذوبة وانسياقه وراء نزواتها، كأنه يعود ليتفق مع نموذج الراوي الذي يرى الارتباط بالبلد والتراب وأوجه الأهل والأقارب هو الحقيقة والحصن الذي يقي شر الانجراف إلى أقصى مشاعر التطرف ونزوات الانتقام، تؤكد هذه النتيجة الأخيرة رغبة مصطفى سعيد في أن ينشأ ابناه بالقرية، في خطاب وصيته للراوي: “”إذا نشآ مشبعين بهواء هذا البلد ورائحته وألوانه وتاريخه ووجوه أهله وذكرياته وفيضاناته وحصاداته وزراعاته فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيء له معنى إلى جانب معان كثيرة أعمق مدلولاً” (ص 70)، ولا يخفي خشيته من أن يقتفي ابناه أثره ويصيرا مثله بقوله: “وا حسرتي إذا نشأ ولداي أحدهما أو كلاهما، وفيهما جرثومة هذه العدوى، عدوى الرحيل” (ص 71) وهو بهذا يقطع تماماً بعدم جدارة تجربته كأب لتصبح نموذجاً لولديه، وفي ذلك أقصى مراحل نقد الذات وتصحيح مسارها.
البعيد
#شبكة_انكور_التطويرية