إن من أهم العوامل التي ساعدت الغربيين في السيطرة على العراق المسلم هي إزالة الركائز الأساسية للحرية، وذلك عن طريق استخدام كل وسيلة ممكنة للسيطرة على بلادنا؛ كي نتحول إلى أمة لا وزن لها، تدور في فلكهم بلا إرادة واختيار. ومما ساعده على ذلك غفلة بعض المسلمين وجهلهم.
وحيث لم يكن الغرب قادراً على أن يفعل بنا ما يريده فجأة استخدم الطريقة التدريجية فيما يريد فاستطاع بذكاء أن يجردنا من أسلحتنا واحدة بعد أخرى.
ففي البداية سلب من بعض المسلمين سلاح الفكر والعقيدة، ثم سلبهم سلاح الاقتصاد حيث جعلهم محتاجين إليه، وجعل أزمَّة الأمور الاقتصادية بيده، ثم سيطر سياسياً(1)، واغتصب منا حتى قطعة الأرض التي نسكن عليها، واحتل المواقع الاستراتيجية كي يسهل عليه ضربنا متى أراد ومتى ما طالبنا بالحرية والاستقلال.
واجبنا تجاه المشاكل
والسؤال الذي يطرح الآن: ما هو واجبنا اتجاه هذه المشاكل التي ابتلي بها المسلمون في العراق؟
من أجل أن نتوصل إلى معرفة الواجبات الملقاة على عاتقنا، لابد لنا من معرفة مصادر القوة في العراق والتي تعتبر الركائز الأساسية للحرية والاستقلال في كل البلاد الإسلامية.
القوى التي أزالها الغربيون
القوة الأولى: المرجعية الدينية
لقد كانت المرجعية الدينية(2) الجهة صاحبة النفوذ في العراق، وكانت تعتبر الركيزة الرئيسية التي يستند عليها المجتمع العراقي ـ آنذاك ـ، وإني أتذكر جيداً حينما توفي السيد أبو الحسن الأصفهاني (قده)(3) كان هناك خمسة وعشرون مرجعاً للمسلمين في النجف الأشرف وكلهم كانت لديهم رسائل عملية، وكذلك كان الأمر في كربلاء المقدسة وقد كان منهم المرحوم الوالد (رحمه الله)(4) وغيره.
وكان أغلب أبناء الشيعة في العالم الإسلامي من باكستان والهند وأفغانستان حتى لبنان ودول الخليج وأفريقيا وغيرها من البلدان الإسلامية يرتبطون بأولئك المراجع العظام، ولقد كانت المشاكل المستعصية ـ مهما كانت حجمها ـ تحل بيد العلماء وذلك لما يتمتعون من العلم والذكاء والقدرة والنفوذ بين الناس ولذا كانت للعالم مكانة خاصة في القلوب ويتمتع باحترام كبير من قبل الناس؛ بسبب خدمته للناس(5)، وتحركه بينهم فهو كان يشاركهم في كل عمل من الصلاة وإجراء صيغة النكاح ويحضر مناسباتهم في الأفراح والأحزان، فضلاً عن انهم كانوا ينظمون أسس الحياة المجتمعية والعملية في العبادات والمعاملات فقد كان ـ العلماء الفقهاء ـ الذخيرة الحية للمؤمنين وكان الناس على علم بأن في طاعة العلماء نيل الحسنات وإزالة السيئات.
فقد جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلا ناداه ربه عزوجل جلست إلى حبيبي، وعزتي وجلالي لأسكننك الجنة معه ولا أبالي)(6).
وقال (صلى الله عليه وآله): (مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة)(7) فلذا كان العالم يستمد قوته من الشعب وبالتالي كانت الأمة تحصل على الحرية والأمان.
أثر المرجعية في الحرية
ومن الشواهد على قوة المرجعية وتأثيرها في الحرية والاستقلال ثورة (التنباك) التي حدثت في إيران.
المجدد الكبير (رحمه الله)
وكان المرجع الأعلى للشيعة المجدد الكبير السيد محمد حسن الشيرازي (رحمه الله)(8) والذي حارب الإمبراطورية العظمى آنذاك بريطانيا عندما أرادوا الدخول إلى إيران باسم (تجارة التبغ) فأصدر فتواه المعروفة (بتحريم استعمال الدخانيات)(9) فسبب ذلك اخراجهم من البلاد في قصة مشهورة.
الآخوند الخراساني
وأيضاً هناك شاهد آخر هو الشيخ محمد كاظم الخراساني الآخوند(10) ـ صاحب الكفاية، والكتب الأخرى التي هي مدار البحث والدرس في الحوزات العلمية من زمانه إلى هذا اليوم ـ حيث استطاع الآخوند أن يحارب الاستبداد في إيران وأراد إرساء حكم (المشروطة المشروعة) حتى تمكن من طرد الملوكية الجائرة(11).
الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمه الله)
وأيضاً هناك الشيخ محمد تقي الشيرازي(12) الذي أعلن وجوب مطاردة الاستعمار في العراق وشكل أول حكومة إسلامية في العصر الحديث، حارب الإنكليز بالرغم من قوتهم العظيمة آنذاك حتى تمكن من طردهم من العراق وانتزع استقلال العراق منهم بالقسر.
الأحزاب الوطنية
القوة الثانية:
كان في العراق في ذلك الزمان قوة الأحزاب الوطنية الحرة، حيث كان في العراق أربعة وأربعون حزباً تتمتع بالحرية الشبه تامة، تعمل لإنقاذ البلد من ويلاته ومشكلاته والنهوض به إلى البناء والتقدم، وكانت هذه الأحزاب قد فرضت نفسها على الساحة وأصبحت تتحكم حتى بقرارات الدولة؛ لأن الساحة تمنح الجميع لإبراز قواه وقدراته والاستفادة منها بالشكل الأفضل.
كما أن الدولة ـ في المقابل ـ كانت تحسب لهذه الأحزاب حساباً خاصاً، وهكذا كان الأمر في تلك الفئة أو الحزب الذي كان يمسك بزمام الأمور لأنه كان يحذر كل الحذر من باقي الأحزاب التي تعمل على الساحة، فلم يكن يقدم أبداً على أي إجراء يمس كرامة ووجود الشعب بشكل مباشر(13).
إقالة متصرف
ما كنت في كربلاء المقدسة وقبل أربعين سنة، دفع أحد الأشخاص إلى متصرف(14) كربلاء في ذلك الوقت كيساً من السكر من أجل إكمال معاملته بشكل سريع ـ رشوة ـ ، فعلم بذلك الحزب المنافس لحزب السلطة، وكان وقتها لكل حزب جريدة يومية تصدر آنذاك، فكتبت الجريدة مقالاً فضحت فيه هذا المتصرف على عمله، ووصل الخبر إلى الحكومة، فأرسل وزير الداخلية وراء المتصرف وأحاله إلى التحقيق، وأقيل هذا المتصرف من منصبه بمدة لم تتجاوز الأسبوع من نشر الخبر. مثل هذه الواقعة وأمثالها كانت تنمي قوة الشعب وتبعث الأمان في النفوس وتقوي ركائز الحرية وتعطي للإنسان وجوده وكرامته، لأن المنافسة الحزبية الإيجابية في سبيل البناء تضمن للجميع حرياتهم وحقوقهم.
ومن فوائد وجود الأحزاب الحرة هو حصول حالة من النضج الاجتماعي لدى الناس، وتمييز الغث عن الصحيح، لما كانت الأحزاب صريحة في قضاياها وقضايا الأحزاب الأخرى.
العشائر
القوة الثالثة
العشائر، كان في العراق ما يقارب الألف عشيرة بفروعها، ومن الواضح أن الغالبية العظمى كانت من أبناء العشائر وهم ينتمون إلى هذه العشيرة أو تلك سواء أكانت عشيرة صغيرة أم كبيرة.
وكانت هذه هي القوة الثالثة التي أدت إلى الاستقرار في العراق وأرست دعائم الحرية والتي كانت تتنافس فيما بينها في الزراعة والعمارة والتجارة وتقليد المراجع واتباع علماء الدين.
وقد أخذ السيد أبو الحسن (رحمه الله) لما انحصر التقليد به تقريباً في أواخر عصره زمام العشائر كلها بسبب وكلائه ومساعديه من رجال الدين، أمثال: آل الجواهري، وآل بحر العلوم، وآل الشيخ الراضي، وآل الجزائري وغيرهم، وبذلك كانت الحكومة تهابه وتخشاه لما يستند إليه من القدرة العشائرية المتزايدة، وكانوا سند العلماء وسند الحوزات وسند العتبات المقدسة وسند المؤمنين وسند الزوار وسند الاقتصاد، فقد حصل بذلك تكافؤ بين قوة الدولة وقوة الأمة.
وبذلك نستطيع أن نقول إن مراكز القوة في العراق كانت متعددة ولم تكن تجتمع بيد واحدة، الأمر الذي يسبب الاستبداد والفوضى وانعدام الأمن وتزايد الإرهاب والفقر وغير ذلك من مساوئ الاستبداد، حيث كانت عبارة عن:
1: قوة المراجع والحوزات العلمية وهي تمثل سلطة روحية ودينية على الشعب والدولة.
2: قوة الأحزاب السياسية وكانت تمثل قوة الإعلام والجماهير.
3: قوة العشائر وكانت تمثل قوة الشعب العسكرية لأنها كانت مسلحة.
4: قوة الدولة وهي تمثل قوة القانون.
ومن الواضح إن الدولة التي تشهد تعدد القوى والقدرات بشكل واقعي وصحيح ترفل في أفضل أوضاع سياسية واجتماعية حرة.