لقد اعتمد الردع النووي تاريخيًا على مبدأ “التعرض المتبادل” بين القوى النووية. غير أن التقدم في مجالات الحوسبة الكمّية، والتشفير الكمّي، وأجهزة الاستشعار الكمّية قد يغيّر هذه المعادلة جذريًا. إذ يمكن لهذه التقنيات أن تُحدث خللاً في أنماط أمن الاتصالات الراسخة، وأنظمة الدفاع الصاروخي، وأنظمة الإنذار المبكر. وفي المقابل، قد تلعب هذه التقنيات دورًا إيجابيًا في تعزيز آليات الاتصال والدفاع لدى الدول المالكة والمستخدمة للتكنولوجيا النووية.
تشكل التقنيات الكمّية، وبالأخص الحوسبة الكمّية، تهديدات كبيرة لآليات الردع النووي التقليدية من خلال تقويض طرق التشفير المستخدمة في أنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات النووية (NC3)، مما قد يخلق ثغرات خطيرة في مجالي السلامة والأمن النووي. تعتمد أساليب التشفير المستخدمة على مسائل رياضية يستحيل حلها بواسطة الحواسيب التقليدية، مثل خوارزميات Rivest–Shamir–Adleman (RSA) وDiffie–Hellman، التي تُستخدم على نطاق واسع في الاتصالات الرقمية الآمنة للأغراض المدنية والعسكرية على حد سواء. وإذا ما أصبحت هذه الأنظمة عرضة للهجمات السيبرانية، فإن الردع النووي القائم قد ينهار، بما يرفع احتمالات سوء التقدير والتصعيد بين الدول النووية. ومع وصول الحواسيب الكمّية إلى مستويات متقدمة، يمكنها كسر تشفير هذه الخوارزميات التي تشكل أساس حماية البيانات والاتصالات، الأمر الذي يستدعي إدراك أهمية تطبيقات الاستشعار الكمّي.
يمكن لأجهزة الاستشعار الكمّية، من خلال زيادة القدرة على تحديد الأهداف والحصول عليها، أن تعزز بشكل كبير قدرة الخصوم على كشف وتتبع الغواصات والطائرات الشبح وحتى إطلاقات الصواريخ الباليستية. على سبيل المثال، يمكن للرادارات المعززة بالقدرات الكمّية رصد أضعف الإشارات الصادرة عن نشاطات العدو وتجاوز تقنيات التخفي الحالية. وامتلاك دولة لهذه القدرة قد يمنحها أفضلية استراتيجية على خصومها، ما قد يغير ميزان القوى لصالحها. ويرى الاستراتيجيون أن امتلاك القدرات الكمّية سيصبح ضرورة استراتيجية للأمن القومي، ومضاعفًا للقوة من خلال ضمان آليات اتصال مشفرة وآمنة، إضافة إلى تعزيز النفوذ الجيوسياسي والقدرات السيبرانية، إذ إن حسم حروب المستقبل سيتحدد بالتفوق التكنولوجي أكثر من عدد الجنود.
ورغم أن العالم لا يزال يدخل العصر الكمّي ببطء، فإن معظم الدول لم تدرك بعد تبعاته بعيدة المدى. وقد يؤثر بروز هذه التقنيات على مصداقية الدول النووية، ما قد يضر بأنظمة القيادة والسيطرة في أوقات الأزمات. وبالمثل، يوفر توزيع المفاتيح الكمّي (QKD)، القائم على مبادئ ميكانيكا الكم، أمانًا لا يمكن كسره. لكن غياب بنية تحتية للاتصالات الكمّية قد يخلق فجوة تصعيدية غير متكافئة في الأزمات، حيث يتمتع طرف باتصالات محصنة ضد الاختراق، بينما يكون الآخر عرضة للتعطيل. وهذا الخلل في أمن الاتصالات قد يهدد استقرار الأزمات ويزيد من خطر التصعيد غير المقصود، إذ إن القنوات الموثوقة والآمنة ضرورية لتجنب سوء التقدير في أوقات التوتر الشديد.
وقد تؤدي التقنيات الكمّية كذلك إلى تقويض قابلية النجاة لقدرات الضربة الثانية، إذ يمكن لأنظمة الدفاع الصاروخي المعززة بالقدرات الكمّية أن تمكّن الدول من كشف وإحباط قدرات الردع لدى خصومها، ما يلغي عنصر الغموض الاستراتيجي الذي يقوم عليه الردع النووي.
إن الحسابات الاستراتيجية في مجال الردع النووي تشهد تحولًا عالميًا. ولتعزيز القدرات العسكرية وتجنب التهديدات المستقبلية، تحتاج الدول النووية إلى تطوير استراتيجية وطنية كمّية تشمل الأبحاث العلمية والتطبيقات الدفاعية. ويتطلب ذلك جهدًا منسقًا بين الأوساط الأكاديمية والمؤسسات الدفاعية وصانعي السياسات، إلى جانب التعاون مع الشركاء الاستراتيجيين لتعزيز الأبحاث الكمّية وإعداد الجيل القادم من الفيزيائيين والمهندسين وخبراء التشفير في مجال الحوسبة الكمّية. كما ينبغي دمج تقييم المخاطر الكمّية في العقيدة النووية وهياكل القيادة والسيطرة، وتشجيع الجامعات ومراكز الأبحاث على طرح برامج ودورات متخصصة والتعاون مع شركاء أجانب.
ختامًا، تمثل التقنيات الكمّية فرصًا وتحديات في آن واحد. فتعزيز قدرات الاستشعار الكمّي على تحديد الأهداف والحصول عليها يمكن أن يرفع قدرة الدولة على كشف وتتبع الغواصات والطائرات الشبح وحتى إطلاقات الصواريخ الباليستية. والحوسبة الكمّية قد تهدد آليات الاتصال الآمن وقابلية الردع النووي من خلال قدرتها على كشف وتحيد القوى المضادة. لذا، فإن التقدم في مجال التكنولوجيا الكمّية هو مسألة أمن قومي تستلزم استجابة سريعة وواعية.
المصدر