أهلاً بك في منتدى انكور التطويري

شرفتنا بحضورك لمنتدى انكور التطويري، المجتمع العربي للمحتوى المفيد والحصري حيث ستجد لدينا ما تحتاج لتزيد من معرفتك وخبراتك والمساحة الآمنة لنشر معرفتك ومشاركتها مع الاعضاء والزوار

هل الليبرالية هي الحل ؟

كل النزعات والإيديولوجيات التي أخذت بها المجتمعات الإنسانية على الأقل خلال المائة وخمسين سنة الماضية سلبت الإنسان حريته وشخصيته وإنسانيته إلا الليبرالية، الفاشية اعتمدت على نوع من "استتقة" (anesthetization) السياسي فطهرت المجتمعات عرقيًا وجعلتها تقول بنوع من ميثولوجيا الأصل وقدر الوطن المحتوم. دور الفرد في المجتمعات التي حكمتها النازية أو الفاشية الإيطالية صار فقط اكسيسوار في لوحة متناغمة للقبيلة الأصلية الطاهرة، إن لم يقم بدوره كحجرة صغيرة في بنيان عملاق فإنه يصير حبة عالقة في وحى التاريخ يجب التخلص منها. محاولة تدمير اليهود (ولو كان العرب آنذاك في أوروبا لنالوا نفس المصير؛ لأن هتلر كان يعتبرهم أدنى درجة من اليهود) جاءت نتيجة الهوس الجماعي بطهارة الأصل وقذارة الاختلاف التي ألهمت النازيين الألماني حتى قبل تربعهم على عرش التاريخ الثالث. الحرية بالنسبة للفاشية هوتيه فرداني عن سكة التاريخ وقدر الأمة. ما وقع في البلقان خمسين سنة بعد اندحار الفاشية ما هو إلا إعادة إنتاج لنفس الميثولوجيا في إطار تضارب القوميات وإعادة إحياء النزعة الصربية الممجدة للماضي المتخيل والملكومة بتمزق الوطن. القومية ينتهي بها الأمر إلى خلق نوع من الاستيلاب التاريخي يكون بمقتضاه الوطن أهم من الفرد والأمة أهم من حياة الأشخاص.
أما الشيوعية فإنها غلبت فكرة المصلحة الجماعية على مصالح الأفراد ولكنه انتهى بها الأمر إلى أن مصلحة الجماعة أصبح يجسدها إما القائد الثوري (ماو وستالين وبول بوت وكاسترو) أو مجموعة من "الأبارتشيك" يستعملون مصلحة الجماعة ضد الجماعة وضد الشعب. حين سجن ستالين الآلاف في الغولاغ في سيبريا وحين اشغل ماو وتشوان لأي لهيب الثورة الثقافية ضد العائلة والثقافة التقليدية وحين قتل بول بوت حوالي مليوني كمبودي ليطهر المجتمع، كانت الثورة قد انقلبت على أولادها وعوض أن تكون مصدر الخلاص كما نظر لذلك ماركس وانجلز ولينين صارت كابوسً حقيقيًا قمع المجتمعات وأدخلها في نفق صمت جماعي سرمدي لم تستفق منه إلا بعد عقود وعقود الشيوعية قمعت الفرد والجماعة والنزعة القومية والدين والعائلة والثقافة التقليدية وكل ذلك من أجل مصلحة جماعة بدت في الأخير فكرة متخيلة لا توجد إلا في عقول مجموعة ضيقة من الأبارتشيك وجلادي الثورة وجواسيسها.
الاشتراكية كما تم القول بها في كثير من المجتمعات اعتمدت على ما اسمية بمقولة "الدولة الأم الحنون" وهي مقولة تقول بوجوب وضع الكل في يد الدولة وهذه الأخيرة هي التي ستوزع وتنصف وتأخذ بيد هذا أو ذاك. الاشتراكية ولدت الاتكالية والخنوع والانتظارية وتحقير المبادرة الفردية وتدهور أخلاقيات العمل. كثير من الانتظارية التي نجدها في المجتمع المغربي الحالي تأتي من نزعة التعويل على الدولة التي خلقها خطاب اشتراكوي على مر العقود. بالنسبة للاشتراكيين فالدولة غدت مخلوقًا عجائبيًا يفرق الحنان والشغل والقانون والتكفل لشعب لا حول ولا قوة له بدونها. الدولة تصير أداة سحرية تعالج كل شيء وتصلح كل اعوجاج. رغم علمانيتهم فالاشتراكيون ألهوا الدولة وقدسوها وأعطوها أكثر مما تستحق أو تطيقه. خلقوا رأسمالية للدولة متعفنة وبيروقراطية وغير منتجة صار بموجبها الفرد تائها في ردهات مؤسساتها حاملًا بطاقات الانخراط والائتمان يقف في الصف ينتظر أن تجود عليه الدول برفقها وخيرها. الاشتراكية خلقت ما اسمية "أمامه" (motherization) الدولة وجعلت الفرد طفلًا خالدًا ينتظر عطفها ويصبو إلى الدخول تحت جناح رحمتها.
النزعة الثيولوجية والأصولية اعتمدت على تغليب الحقيقة الميتافيزيقية على الواقع. على الواقع أن يمتثل للفكرة العليا والمتعالية وإن لم يقدر فوجب قمعه وتهذيبه حتى يقترب أكثر من صورة المجتمع الرباني والمؤمن. لهذا نجد هوس الأصولية بامتثال الفرد لقوانين غير قابلة للنقاش؛ لأنها غير إنسانية. المشكل بالنسبة للأصولية، هي أن القوانين الربانية يتم التوسط لها من طرف بشر لشرحها وتدليل سلبها، وما دام هؤلاء لا سبيل لهم للولوج إلى الحقيقة الربانية فإنهم يستعملون إنسانيتهم لشرح النصوص والقوانين. المفارقة هي أنهم يظنون أن شرحهم رباني وغير إنساني أي أنه غير قابل للنقاش. هكذا تغيب الأصولية إنسانية التعامل مع النصوص واختلاف هذا التعامل من فرد إلى فرد ومن مجموعة إلى مجموعة. عدو النزعة الأصولية الثيولوجية هو الاختلاف؛ لأن حرية الشرح وحرية التعامل مع النصوص والطقوس تحد في منظورها من قوة الحقيقة الربانية. لا يمكن للأصولية أن تتصور ممارسة للدين تكون فيها للأفراد حرية التفسير وحرية اختيار الطقوس وحرية النقد وحرية التجريب.
النزعة المحافظة بدورها تغيب الفرد ولكن في إطار نوع من التركيز على أهمية التقليد وسيادة ثقافة المجموعة وقدسية النظام الاجتماعي السائد. المحافظون يكرهون الثورة؛ لأنها تخلخل أسس النظام الذي يحمي قيم التقليد من سيادة دور العائلة (خصوصًا الأب). واحترام تعاقب الأجيال. وقدسية التراتبية الاجتماعية وتقسيم الأدوار بين الفقراء والأغنياء والذكور والإناث. لا يستفيد في المجتمعات المحافظة إلا من لهم السلطة، سلطة القرار التي يخولها لهم النوع والسن والثروة، ولكنهم مقتنعون بأن منفعتهم هي السبيل الوحيد لضمان منفعة الشعب. لهذا نجد في المجتمعات المحافظة تحالفًا وطيدُا بين الأبيسية (patriarchy) والنظام السياسي والطبقة المسيطرة والمتقدمين في السن. عدة المحافظين هم الشباب؛ لأن هؤلاء ينزعون إلى الثورة على القيم والتقاليد وأولئك يعتبرون أنه بدون هذه القيم ستنثر المجتمعات. النزعة المحافظة تدمر المبادرة والحرية والانعتاق والقدرة على الخلق وتخلق في غالب الأحيان مجتمعات شيزوفرينية (Schizophrenic) تتظاهر بالمحافظة ولكنها غير ذلك في العمق وأحسن مثال على ذلك المجتمع المغربي الحالي.
أما النزعات الاستبدادية والتي كانت نظام الحكم الغالب في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب شرق آسيا لفترات طويلة من القرن العشرين فإنها لم تكن شمولية كالنزاعات الفاشية أو الشيوعية أو الأصولية ولكنها مع ذلك غيبت الحرية الفردية والحرية السياسية باسم عقل الدولة (raison d’Etat) أو قدسية الحاكم (lése majesté). غالبًا ما تتحالف أوليغارشيات ذات أهداف اقتصادية أوشوفينية أو قومية مع العسكر والرأسمال الاحتكاري لخلق نظام سياسي مبني على الولاء التام للنظام وعلى الزبونية والريع في العلاقات الاقتصادية. قد يبقى المجال الاجتماعي في منأى عن تدخل الأنظمة الاستبدادية ولكنه يتأثر بطريقة أو أخرى بالتدخل السافر للنظام والدولة لفرض توجه سياسي معين كما حصل مع جل الأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية والعالم العربي وجنوب شرق آسيا.
بقيت النزعات الاحتكارية والمتوحشة داخل الرأسمالية. الرأسمالية ليست نظامًا سياسيًا في حد ذاتها ولكنها تنظيم اقتصادي ذي أبعاد سياسية. النزعة الاحتكارية الرأسمالية طغت في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وفي جل دول العالم الثالث خلال القرن العشرين من خلال اقتصاد الريع والزبونية "والكارييرية" (carriérisme) الاقتصادية لكثير من رجال السياسة والإدارة. الرأسمالية الاحتكارية تنبذ التنافس والتنافسية وتعمل ما في وسعها من أجل ضرب المنافسين من خلال حرب الأسعار والتروستات والكارتيلات. تتحالف الرأسمالية الاحتكارية مع السياسة من أجل الحصول على ترخيصات ومعلومات تفيد طرفًا دون الآخر. الخاسر الأكبر حين يسيطر الاحتكار الرأسمالي هو المستهلك والذي قد يستفيد لفترة قصيرة من جراء حرب الأسعار لكنه سرعان ما يرى أثمنة المواد ترتفع بصورة صاروخية حين تسيطر شركة واحدة أو تكتل شركات على الإنتاج. غالبًا ما تتجه الشركات الاحتكارية إلى محاولة السيطرة على جميع مراحل الإنتاج والتوزيع لإحكام سيطرتها على السوق وفرض الأسعار التي تريد. هكذا فإن الرأسمالية الاحتكارية سرعان ما تصير متوحشة لا تحتكم لأي قانون إلا المضاربة وحرب الأسعار وضرب المتنافسين وإثقال كاهل المستهلك. الحقوق والحريات وحرية التقاول تتراجع إل الوراء في العهد الاحتكاري ليحل محلها إنتاج غير مضمون الجودة وتوزيع شبه مافيوزي وأسعار لا تنضبط إلى قانون العرض والطلب.
هكذا نرى أن جل الإيديولوجيات والنزعات التي تم العمل بها على مر قرن ونصف من الزمن لم تسمح بانعتاق حقيقي للأفراد والجماعات ولم تسمح بخلق مجتمعات حرة ومسؤولة، مجتمعات تؤمن بقدراتها اللامتناهية في الخلق والإبداع والتجريب في إطار وعي تام بمحدودية قدرة المحيط والبيئة على تحمل النشاط الإنساني، أي مجتمعات مبدعة إبداعًا مسؤولًا يضمن استدامة الحياة وحقوق من هم آتون في المستقبل. جل الإيديولوجيات إما لجأت إلى قمع الشعب من أجل الشعب، أي أنها جعلت منه طفلًا قاصرًا غير راشد وجب تهذيبه، أو لجأت إلى محاولة تدليله عبر "مسكنته" مما أدى إلى خلق جو من التبعية والاتكالية والانتظارية، أو استغلته لخدمة مصالح فئات محدودة أوليغارشية أو عسكرية أو رأسمالية أو مجموعات ذات توجه قومجي أو شوفيني. الليبرالية وحدها هي التي تبدو القادرة أكثر من غيرها على ضمان نمو الأفراد والجماعات وذلك لأنها تركز على الحرية والانعتاق والفردانية وحرية الأجيال المستقبلية وكذا على المسؤولية والتقاول والإبداعية والخلق والإيمان بقدرات الإنسان.
إن كانت هناك نزعة أو أيديولوجية تركز على الحرية فهي الليبرالية الحرية تعني انتفاء وجود الخوف والتسلط والقمع وتعني سيادة روح المبادرة لدى الأفراد والجماعات. والحرية تهم الفكر حيث لا نهاية لمدى نيه العقل والوجدان في رحاب المفاهيم والمقولات والخطابات والتعبيرات وتهم كذلك حرية الإيمان والعقيدة والتعبد حيث لا وجود لسلطة ترغم الفرد أو الجماعة على الامتثال لقيمة أو فكرة أو مثل عليا رغمًا عنهما. الحرية في الإيمان كانت هي أساس أديان مثل المسيحية والإسلام ولكنها سرعان ما تم تغييبها بعد سيطرة فكر لاهوتي كنسي على الأولى وفكر محافظ أبيسي على الثانية. هاتين المنظومتين فرضتا إيديولوجيا معينة على الدين وتفسير النصوص حيث أعطى رجال الدين لهذه الأيديولوجيا الملتصقة بحقبة معينة (فلسطين في القرن الأول للميلاد والجزيرة العربية في بداية القرن السابع) وبثقافة معينة بعدا ما فوق تاريخي وما فوق زمني. لهذا تحولت المسيحية والإسلام من ديانتين تحرريتين في بدايتهما إلى ممارسات تغلب الفكرة العليا على الاختيار والحقيقة المطلقة على الحقيقة النسبية التي يحددها الأشخاص في علاقاتهم مع الواقع والأمور الغيبية. وتهم الحرية كذلك إطلاق العنان لزخم التعبير والممارسة الثقافية حيث لا يوجد هناك معيار للتعبير إلا معيار تمكين الذات من تمثل نفسها في علاقتها مع الواقع والذكرى والزمن والوجود والمجتمع، تمثلًا متغيرًا وبطريقة راديكالية.
لهذا فلأن الليبرالية كأفق ونسق تعتمد الحرية كأساس فهي الثقافة والأيديولوجيا التي تضمن انعتاقًا أكثر للشعوب والمجموعات والأفراد. كثير هي الحركات التحررية التي سرعان ما انقلبت على نفسها وأولادها لأنها إما اعتمدت إيديولوجيات اشتراكية أو شيوعية أو استبدادية أو خليط من هذا القبيل. هناك تضارب أساسي بين هذه الإيديولوجيات وهدف الانعتاق والتحرر الحقيقي، الشعوب التي حققت تطورًا مذهلًا في اسكندنافيا وأوربا الغربية وأمريكا الشمالية وشرق آسيا أدركت أنه لا سبيل لانعتاقها إلا عن طريق الحرية الشمولية على النمط الليبرالي رغم غلبة طابع الرفاه الاجتماعي على البعض منها. هناك تلازم أساسي بين الحرية والازدهار، بين إحساس الأفراد والمجموعات بأنهم أسياد وسيدات قدرهم من جهة وانعتاقهم من قبضة الطغيان والجبروت والفقر والظلم من جهة أخرى.
لهذا فأساس المجتمعات الليبرالية هي الفرد كفرد لا المجموعة سواء كانت عائلة أو قبيلة أو أمة بالمفهوم القومجي لذلك. السبب هو أن الفرد هو الوحدة العاقلة الوحيدة. التجمعات لا تفكر بينما الفرد يفكر أو بالأحرى المجموعات تفكر بعواطفها، وشعورها وغرائزها بينما يمكن للفرد أن يعقل ما هو غريزي لصالح ما هو مفكر فيه.
الليبرالية تحبذ المواطنين العاقلين، العارفين، الراغبين لا الذوات المنصهرة في جماعات يتحدد سلوكها على المستوى "الليبيدي" المواطنة لا تتأتى إلا بوجود أفراد أحرار في اختياراتهم ويستعملون عقولهم لاتخاذ قرارات تتناسب ومصالحهم المفكر فيها بشكل موضوعي وعقلاني. الليبرالية هي مثالية شيئًا ما من هذا المنظور لأنها تتصور مجتمعات مكونة من أفراد لهم معرفة كاملة بقضاياهم، ويستعملون عقولهم للبحث عن الحلول، ويتناقشون ويتطارحون في نسق تواصلي يسوده الاختلاف واحترام الرأي، ويختارون الحلول المناسبة بحرية وعقلانية. هذا المجتمع الشبه أفلاطوني هو مثال يجب الوثوق إليه وأفق يجب تقريب الواقع منه. إنها رؤيا للمستقبل يلعب فيها الفرد والعقل والحرية والاختلاف أدوار أساسية في خلق المجتمع الحر العادل المنشود.
الليبرالي الحقيقي هو الذي يضمن كذلك حرية الآخر في اتخاذ القرارات المناسبة. والآخر هذا هو المنافس والخصم السياسي والآخر النوعي والأقلياتي والديني، ولكنه هو كذلك الآخر الآتي، الوريث للأرض ومواردها. الأجيال القادمة لها الحق في اتخاذ قرارات حرة في وسط محيط مناسب لا محيط مصاب بالتلف والانهيار البيئي جراء العمل الإنسان. إن تركنا أرضًا يبابًا لأبنائنا وسماء ملبدًا بالغازات ومطرا يسقط أكسيدا على البلاد والعباد وبحرًا ملوثًا وبدون سمك وأرضًا قاحلة عوض الغابات ووديان تصير فيضانًا قاتلًا جراء انجراف التربة، فإننا لم نترك لهم حرية الاختيار وحرية اتخاذ القرار في ظروف ملائمة ومناسب. الحرية المستقبلية أساسية في التفكير الليبرالي الذي يفترض مجتمعات نامية بطريقة مستديمة. حرية الحاضر تنتهي حين تبتدئ حرية الأجيال المقبلة.
الحرية بدون مسؤولية ليست حرية. من طالب بحقوقه بدون القيام بواجباته لا يمكن له أن يكون مواطنًا صالحًا في المجتمع الليبرالي المنشود. المسؤولية تعني الامتثال للقوانين المعمول بها، والقيام بالواجبات المخولة للفرد عن طواعية وتحمل تبعات القرارات التي نتخذها كأفراد. هناك من يرى في الحرية شيئًا منافيًا لتطبيق القانون؛ بينما تطبيق القانون هو ما يضمن أن يكون الأفراد أحرارًا، لأن القانون هو السقف الذي يعمل في إطاره الأفراد وبدون قانون منظم ومتفق عليه ستسقط المجموعات في غياهب قوانين طبيعية وتجردهم من إنسانيتهم. ولكن المسؤولية التي تؤمن بها الليبرالية تقتضي كذلك أن يقوم الأفراد بواجباتهم بدون رقيب أو مقايضة. القيام بالواجب هو من صلب الإحساس بدور الفرد في بناء المجتمع الحر والعادل. المسؤولية تقتضي كذلك أن الأفراد يتحملون نتائج قراراتهم وأفعالهم ما دام أنه يشترط فيهم أن يكونوا عاقلين ولهم حرية الاختيار فاختيارهم يلزمهم كما أن نتائج اختياراتهم تلزمهم.
هذا فيما يخص الجانب الشخصي للأفراد في المجتمعات الليبرالية. هؤلاء الأفراد هم كذلك فاعلون في النسيج الاقتصادي لمجتمعاتهم أي أنهم يخلقون المقاولات لتحقيق أهداف معينة مادية ومعنوية. التقاول أساس المجتمعات الليبرالية الحقة. المقاولة ليست فقط بقرة حلوب نجني من روائها أرباحًا، أو شغلًا أو ضرائب. إنها نمط في التفكير والحياة والتعامل مع المحيط. المقاولون يضعون أهدافًا محددة، ويدرسون المحيط والمتنافسين، ويتربصون بالفرص السانحة، ويخاطرون وذلك من أجل تحقيق ذاتهم. المقاول ليس بالضرورة إنسانًا رأسماليًا. صاحب حانوت أو مخدع هاتفي أو محلبة هو مقاول إن توفرت فيه شروط رسم الأهداف وتصيد الفرص والبحث والمخاطرة. لهذا فالتقاول هو نظرة خاصة للعالم وإن توفرت بشكل عريض لدى فئات كثيرة من المجتمع فإن هذا الأخير سيحقق الثورة المقاولاتية أي أنه سيصير كله ديناميًا تتوفر فيه كل السلوكات التقاولية التي تمت الإشارة إليها أعلاه. ما يميز مجتمعًا مثل المجتمع الأمريكي هو سيادة روح المقاولة إلى درجة أنها صارت جزءًا من الثقافة اليومية والحياة العادية ولأن الأمريكيين أدركوا أهميتها في خلق الشغل والثروات والدينامية الاقتصادية فإنهم شجعوها إلى حد التقديس.
خلق الثروات مفهوم لا تجده في الإيديولوجيات التي تعطي للدولة أو العائلة أو الدين أو الزعيم أو النظام أو الجماعة دورًا أكبر من الأفراد ولكنه مهم في النزعة الليبرالية. هناك مجتمعات تنظر إلى الثروة بعين الريب وهناك مجتمعات تبدع الوسائل لإخفاء ثرواتها وذلك لأنها لا ترى فيها إلا تكديسًا بشعًا للأموال. غير أن النظرة الليبرالية تنظر إلى الثروة على أنها إضافة إيجابية ومحمودة لما هو موجود لأنها تخلق الشغل والرواج وتدر الضرائب على خزينة الدولة وتشجع على الاستثمار والاستهلاك. لهذا فتشجع خلق الثروات هي من ركائز السياسة الاقتصادية للحكومات الليبرالية. تعتبر الشيوعية والاشتراكية من أعداء خلق الثروات لأنهما لا تفرقان بين الرأسمالية وخلق الثروات، أي بين تكديس الأموال لخلق رأسمال يستعمل من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج (حسب التعريف الماركسي) وبين توفير أكبر عدد ممكن من إمكانيات الاستثمار والاستهلاك والمعاملات التجارية).
بصفة عامة يمكن القول بأن الليبرالية تركز أساسًا على حرية الفرد وإبداعيته وقدرته على خلق الخيرات. الليبرالية تؤمن بقدرات الإنسان على أخذ قدره وحاضره ومستقبله على عاتقه وقدرته على ضمان حريته وحرية الآخرين. الليبرالي لا تضع حدودًا للتعبير إلا تلك التي يحددها القانون الوضعي ولا تضع حدًا لقدرة الإنسان على الابتكار والخلق. والليبرالية لا تضع قيودًا على ما يؤمن به الإنسان أو ما يفكر به ولا تكره أن يخلق الثروات لأن هذا هو أساس ازدهار الشعوب ورقيها.
أخيرًا، قد يتساءل المرء هل هناك بالفعل في المغرب وجل بلدان العالم الثالث آخذ جدي وحقيقي بالليبرالية كما تم تحديدها أعلاه. لا أظن ذلك والعكس هو الذي نلاحظه. مثلًا في المغرب هناك خطاب حول الليبرالية ولكن السياسات الاقتصادية وفي ميدان الحقوق والحريات هي عكس ذلك بكثير. أنا أظن أننا لم نجرب الليبرالية بعد بطريقة جدية. محيط الأعمال لا زال مكبلًا بقيود سواء فيما يخص خلق المقاولة أو إعطاء الرخص أو إنهاء عقد الشغل أو الوقت الذي تستغرقه القضايا أمام المحاكم. الحرية السياسية تنمو ولكن القانون والدستور لم يؤسسا لهذا النمو بطريقة لا رجعة فيها. حرية الصحافة عرفت تطورات إيجابية ولكن الصحافة لازالت تعتبر عدوًا للسياسي وأخيرًا سيادة القانون لازالت في بداياتها الأولى. السبب في ذلك هو أن من سهروا على السياسات الليبرالية في السنوات الأخيرة هم إما اشتراكيون أو وطنيون خططوا لمشاريع ليبرالية رغم أنفهم لأن الاختيارات الكبرى كان قد تم تحديدها حتى قبل ولوجهم الحكومة. لهذا فرغم خطاب الليبرالية ورغم الحديث عن المسؤولية والمساءلة وعن روح المقاولة فإن ثقافة الاتكالية والانتظارية والتعويل على الدولة (وهي قيم اشتراكية حتى النخاع) لازالت تسيطر على البنيات الذهنية في المجتمع المغربي. بدون ثورة في الذهنيات والعقول وبدون خلق ثقافة جديدة مبنية على الجدية وأخلاقيات العمل والمحاسبة وحرية التعبير والتقاول- بل بدون ثورة جديدة في المفاهيم والقيم- سيبقى المجتمع الليبرالي حلمًا يحتاج إلى ليبراليين حقيقيين لتجسيده على أرض الواقع.

المصدر: منشورات المجلة المغربية للسياسات العمومية - سلسلة الليبرالية في المغرب
الناشر: حسن طارق
المؤلف الرئيسي: حداد، لحسن
المجلد/العدد: ع1
التاريخ الميلادي: 2009
الصفحات: 24 - 33

ذ. لحسن حداد: أستاذ جامعي وخبير لدى منظمات دولية​
 

✔ نبذة عنا

منتدى انكور التطويري لدعم وتطوير المواقع والمنتديات والمحتوى العربي. نسعى للارتقاء في المحتوى العربي وتقديم الخدمات المتنوعة لأصحاب المواقع والمنتديات بأحدث الامكانيات والشروحات مجانًا.
عودة
أعلى