Announcement Title

Your first announcement to every user on the forum.

إيقاع البياض:

Basil Abdallah

عضو جديد
عضو انكور


يمثل الإيقاع ظاهرة صوتية شمولية لا تتحدد مطلقاً بالأصوات بشكلها المجرد فقط بل تشمل كل ما يحيط بها وما يحيل عليها من عناصر مكملة، فالصوت لا تعرف خواصه ولا يعرف شكله إلا من خلال الصمت المحيط به، الذي يسهم أيضاً بقدر أو بآخر في تشكيل بنية الإيقاع.‏



فالإيقاع إذن "تردد ظاهرة صوتية- بما في ذلك الصمت- على مسافات زمنية متساوية أو متقابلة"(1) ، والصوت والصمت يتحددان على المستوى الكتابي للقصيدة بالسواد رمز "الصوت" والبياض رمز "الصمت" إذ إن للبياض في القصيدة أهمية لافتة للنظر، فالنظم يقتضيه باعتباره صمتاً يحيط بالقصيدة"(2) .‏



وتتميز القصيدة الحرة بأنواع مختلفة من الوقفات التي تحدد حجم السواد والبياض فيها، والوقفة في الأصل هي توقف ضروري للمتكلم لأخذ نفسه. وهي بالتالي ليست إلا ظاهرة فيزيولوجية خارجة عن النص، ولكنها بطبيعة الحال محملة بدلالة لغوية" (3) ، وهي في الموسيقى تقابل السكتة التي "تأخذ معناها من أصناف ما يجاورها من ألحان، فالصمت على هذا الاعتبار لحظة من لحظات الكلام والسكوت ليس بكماً بل رفضاً للكلام فهو نوع منه(4) .‏



إن البياض يقوم بشكل أساسي على العنصر التشكيلي للمكان الذي يحتله السواد، متخلياً في ذلك عن مساحة معينة للبياض، ويعد في التجربة الشعرية المعاصرة وسيلة من وسائل توفير الإيحاء وتوصيل الدلالة للقارئ(5) ، عن طريق الصراع الحاد القائم "بين الخط والفراغ، أي بين الأسود والأبيض وهو ربما لم يجربه القدماء بنفس الحدة التي تعتري شاعرنا الحديث وهو يكتب نصه الشعري، لأن القدماء كانوا يعرفون مسبقاً حدود المكان عند كتابة النص، فيمارسون لعبة الكتابة داخل إطار مقفل، أما الشاعر الحديث فإنه يواجه الخطوط اللون الأسود) بنفس القلق الذي يواجه به الفراغ اللون الأبيض)، وهذا الصراع الخارجي لا يمكن أن يكون إلا انعكاساً مباشراً أو غير مباشر للصراع الداخلي الذي يعانيه.‏



إن بنية المكان يشوبها قلق دائم تحدوه رغبة في تحطيم التقاليد البصرية التي اعتادها القارئ فجعلت عينيه مركزتين على بنية مكانية تمنحه الاطمئنان وتدعم توازنه الداخلي الوهمي، أما الشاعر الحديث فإنه يمتد بهذا التركيب اللا متناهي إلى دواخل القارئ ليحدث خلخلة ويدفع بهذا الاطمئنان نحو الشك والدخول في متاهة القلق. ويمكن أن نلاحظ تداخل العلاقة بين بنية المكان والزمان في البيت الشعري، فهو عندما ينتهي ببياض قد ينتهي بوقفة عروضية وقد لا ينتهي، وكما أن طول البيت وقصره ليسا موحدين في جميع الأبيات.‏



والشاعر في اختياره لهذه المقاييس لا يصدر عن تفضيل عنصر على عنصر آخر، وإنما تتداخل في الاختبار الذاتي مجموع البنيات الجزيئية التي يحكم وجودها ترابط جدلي، وينتهي البيت عندما يلامسه البياض أو عندما يوقفه البياض فيحد من حريته في التدفق(6) .‏



ويمكن النظر إلى كل القصائد المعاصرة على هذا الأساس إذ أنها تتشكل جميعاً على تفاصيل اللعبة القائمة بين البياض والسواد، فطالما أن المساحة المكانية للكتابة غير محددة بإطار مسبق كما هو الحال في القصيدة العامودية فللشاعر الحرية المطلقة في اختيار حجم السواد والبياض لقصيدته، ويخضع هذا ضرورة لطبيعة التجربة وخواصها وما يترتب على ذلك من تدفق أو إحجام في المشاعر، ومن احتدام أو هدوء في الحال الشعرية.‏



وبهذا فإن لكل قصيدة حرة عالماً خاصاً من السواد وعالماً خاصاً من البياض. ولو أخذنا على سبيل المثال قصيدة "الشخص السادس" للشاعر سعدي يوسف، لاكتشفنا أن قضية الحضور الذي ينتزعه السواد من مساحة البياض وتوزيع الخارطة المكانية للقصيدة على أساس نتائج ليست محض مصادفة عابرة، إنما هناك هندسة معينة تقررها التجربة:‏



خمسة أشخاص في الغرفة كانوا يحتكمون إلى شخص سادس:‏



*بدأ الشخص الأول لعبته‏



فتسلق بلا حبل‏



إلى كرسي في السقف.‏



*والثاني أخرج كلباً أسود‏



من جهة الصدر اليسرى‏



*والثالث أخرج "تاريخ البشرية" من مكتبة الغرفة‏



وتحامل فوق السلم.‏



حتى أوصل "تاريخ البشرية" فوق الرف.‏



*أما الرابع فاستل عصا مغمدة‏



وتناول "تاريخ البشرية"‏



يجلده ألفا...‏



*لكن الخامس إذا جاءت نوبته استخفى‏



*ضحك السادس‏



ترك الغرفة‏



أغلق باب الغرفة بالمفتاح‏



ثم مشى في طرقات الناس.(7)‏



إذ تبدأ القصيدة بسطر شعري طويل نسبياً قياساً إلى سطر القصيدة الآخر يعد بمثابة العنوان التفصيلي الآخر لها، ثم تبدأ القصيدة بتوزيع أدوار شخصياتها على مقاطع القصيدة الستة، ويبدأ كل مقطع بإشارة هي عبارة عن دائرة صغيرة مملوءة بالسواد*) تعين بداية المقطع.‏



يحتل المقطع الأول ثلاثة أسطر صغيرة من مساحة البياض العام، ويحتل المقطع الثاني سطرين، والثالث ثلاثة أسطر، والرابع ثلاثة أسطر أيضاً، ويكتفي المقطع الخامس بسطر واحد، في حين يمتد السادس إلى أربعة أسطر.‏



إن كل مقطع يبدأ بحركته الشعرية في المساحة المخصصة له يفرض على ما تبقى صمتاً يمثله حجم البياض المحيط به.‏



ونلاحظ أن السطر الشعري يمتد ويتقلص حسب حركة الفعل الشعري الممثل للتجربة في النص، وبهذا الامتداد والتقلص الذي يتفاوت بين سطر وسطر ومقطع وآخر يتحدد بطبيعة إيقاع البياض، إذ إن حركة السواد على البياض هو حركة الصوت على الصمت، فصدى السواد يتردد في البياض مثلما يتردد صدى الصوت في الصمت.‏



وحركات القصيدة الست تمتص في توزعها المتباين الفاعلية البصرية للعين المتلقية، وبقدر ما تضيق مساحة الكتابة "السواد" فإن مساحة البياض تتسع، وتسعى الفراغات التي تركها الشاعر بين حركةمقطع وآخر إلى توليد انتقالة إيقاعية يؤديها البياض الفاصل بين سوادين، وهي بمثابة صمت وتوقف تنهي، فيه العين المتلقية لاستقبال سواد لاحق.‏



وكلما طال السطر الشعري "السواد" أي كلما أوغل أكثر في مساحة البياض كما هو الحال في السطر الشعري الأول من القصيدة "خمسة أشخاص في الغرفة كانوا يحتكمون إلى شخص سادس"، والسطر الأول من المقطع الثالث "والثالث أخرج" تاريخ البشرية" من مكتبة الغرفة" وغيرها، فإن إيقاع البياض يظهر أكثر لأن انحساره وضيق مساحته يؤديان إلى إظهاره وإبرازه وإشغال العين المتلقية به من خلال اشتراكه في مجال الرؤية البصرية.‏
 

ما هو انكور؟

هو منتدى عربي تطويري يرتكز على محتويات عديدة لاثراء الانترنت العربي، وتقديم الفائدة لرواد الانترنت بكل ما يحتاجوه لمواقعهم ومنتدياتهم واعمالهم المهنية والدراسية. ستجد لدينا كل ما هو حصري وكل ما هو مفيد ويساعدك على ان تصل الى وجهتك، مجانًا.
عودة
أعلى