في صيف عام 1982 وقف الجيش مترددا على أبواب بيروت الغربية. لم يكن واثقا من قدرته على اقتحام المدينة، رغم الضربات العنيفة التي أصابتها. لكنه حاول أن يختبر هذه الإمكانية في الأوزاعي والمتحف، فتوصل إلى أن الأمر مكلف وغير مضمون. وهكذا طوى فكرة اقتحام المدينة، التي لم يدخلها إلا بعد أن غادرتها القوات المقاتلة الرئيسية.
لكن مياها كثيرة جرت في النهر منذ ذلك الحين مكنت الجيش الإسرائيلي من الاعتقاد أن المدن والتجمعات السكانية لم تعد أماكن لا يمكن اقتحامها. فكل مكان، بعد الآن، صار قابلا للكسر والاقتحام. فالتطورات التكنولوجية، وما رافقها من تطورات في تكتيكات اقتحام التجمعات السكانية، جعلت من المدينة التي لا تقهر أسطورة من أساطير الماضي.
فقد أدى تصفيح الدبابة المضاعف إلى الحد من قدرة الآر بي جي، بل وإلى التهديد بتحويله إلى لعبة أطفال غير مؤذية. كما أن دقة إصابة صواريخ المروحيات ارتفعت حد أن بإمكان قائد المروحية إرسال الصاروخ إلى النافذة التي يريدها. أكثر من ذلك فقد صار بإمكان المروحية ملاحقة فرد ما في الشوارع بأفضل مما تقوم به دورية راجلة، ومن دون إحداث مجازر كبيرة بين المدنيين.
أما بخصوص كثافة المباني فإن بالإمكان اتباع تكتيكات مناسبة مثل تكتيك الاقتحام المتسلسل، الذي يتم عن طريق فتح ثغرة في جدار بيت للوصول إلى البيت الذي يليه بواسطة المعدات الحديثة، بحيث لا تكون القوات المهاجمة بحاجة إلى عبور الشوارع والأزقة الضيقة والتعرض لنيران القناصة.
كل هذا، إضافة إلى الاستخدام المكثف للدروع البشرية، جعل من اقتحام المدن والتجمعات السكنية، ومن دون خسائر كبرى أو مجازر، أمرا ممكنا.
عليه فقد أعلنت النظرية العسكرية الإسرائيلية نهاية أسطورة المدينة التي لا تقتحم.
وكان الاجتياح الكبير لمدن ومخيمات الضفة الغربية، وقبل ذلك اقتحام مخيم بلاطة، ثم بعد ذلك الاقتحامات في قطاع غزة، تطبيقا عمليا لهذا الإعلان. ففي هذا الحدث تم، عبر تكتيك الاقتحام المتسلسل، اقتحام مناطق كثيفة المباني وكثيفة السكان، من دون خسائر مهمة في صفوف المهاجمين، ومن دون مجازر كبرى في صفوف المدنيين. كما تم اقتحام قصبات كانت تعتبر عصية وعاصية حتى وقت قريب، كما هو حال البلدة القديمة في نابلس، التي كانت عصية على الاحتلال البريطاني في ثورة 1936، وحتى على الاحتلال الإسرائيلي في الانتفاضة الأولى. أما مدن مثل رام الله فقد اقتحمت خلال ساعات وتحولت شوارعها إلى مسرح للعب القناصة الإسرائيليين، الذين سيطروا على المباني العالية، بدل أن تكون مسرحا للعب القناصة الفلسطينيين.
كان الاجتياح، إذن، تطبيقا عمليا للنظرية الإسرائيلية التي تعلن إمكانية تفوق المهاجم على المدافع في حرب المدن. وكانت هذه النظرية وتطبيقها العملي هي المساهمة الإسرائيلية في حروب القرن الجديد الأميركية. هذه الحروب التي كانت نبوءتها في حرب الخليج الثانية، ثم تبلورت في حرب كوسوفو، ونضجت في حرب طالبان، ثم وصلت إلى قمتها في الحرب الأخيرة على العراق. وفي هذه الحروب يتم حسم الحرب من بعيد، أي من دون اشتباك جدي مع العدو، وأحيانا حتى من دون أن يتمكن المدافع من رؤية مهاجمه. إنها حرب الخسارة رقم صفر من جانب القوة التكنولوجية المهاجمة.
نظرية الحرب الإسرائيلية تأتي كنظرية تكميلية في إطار هذه الحروب؟ أي أنها حرب تبدأ بعد انهيار القوات المعادية أو انسحابها ودخولها المدن للاحتماء بها، أو حين ترفض هذه القوات الانكشاف أمام الحرب التكنولوجية، وتفضل أن تتحصن في المدن والقصبات.
ويمكن القول أن حصول اجتياح الضفة قبل الحرب على العراق لم يكن صدفة، على الأغلب. صحيح أن هذا الاجتياح كان يهدف إلى هزيمة الفلسطينيين وكسر إرادتهم، لكنه كان، إضافة إلى ذلك، بروفة للحرب العراقية، في ما لو حصلت مواجهات داخل المدن والتجمعات السكانية. يقول الصحفي الإسرائيلي أليكس فيشمان في يديعوت أحرنوت:" في حينه جاءوا( أي الأميركان) إلى جنين لكي يروا كيف يعملون بالجرافات في المدينة". أي أنهم كانوا هناك في العرض الحي والمباشر. وقد سرت شائعة تقول إن الهجوم الذي جرى على مخيم جنين بعد الاجتياح الكبير، وقبل وقت قصير جدا من بدء الحرب على العراق، كان نشاطا معدا للأميركيين أساس. أي أنه كان تدريبا عمليا أجري لصالحهم مباشرة ولم تكن له ضرورة أمنية إسرائيلية.
غير أن التدريب الكبير، أي الاجتياح الذي بدأ في 28 آذار عام 2001، حمل نقطتي ضعف رئيسيتين تؤرقانه وتمنعانه من أن يعمم نفسه كنظرية للحرب التكميلية:
الأولى: أن هذا التدريب جرى في منطقة مغلقة، هي الضفة العربية، التي تدفق إليها السلاح تحت أقسى الشروط وأشدها. وهذا يعني أنه جرى، من حيث المبدأ، في منطقة آمنة، أي حيث لا وجود لمضادات الدروع أو المضادات الجوية. عليه فالروحيات الإسرائيلية كانت تتجول في السماء بحرية مطلقة، كما أن الدروع كانت تتحرك من دون خوف جدي حتى من الآر بي جي الذي فقد الكثير من فعاليته القديمة. وهذا يعني أن التدريب الإسرائيلي أشبه بتجربة غير مكتملة الشروط أجريت في مختبر، وأعطت نتائج قد تكون مضللة جدا.
بناء على ذلك فإن العملية الإسرائيلية كانت أقرب إلى أن تكون، في الواقع، إلى محاولة لقمع شغب مدني في تجمعات سكنية منها إلى تدريب حقيقي لاجتياح مدن محصنة ومستعدة للقتال. بل لعله يمكن القول أن هذا التدريب، هذه العملية، كانت تهدف في الأساس إلى منع تكون مناطق غير قابلة للاجتياح وإجهاض احتمالها. عليه فإن هناك شكا في أن يتمكن الاجتياح الإسرائيلي من تعميم نفسه كنموذج مضاد للمدينة التي لا تقتحم. فهل يمكن مثلا اجتياح مدينة صور اللبنانية الجنوبية المفتوحة على المدد بمثل السهولة التي اجتيحت بها رام الله؟
الثانية: أن مخيم جنين أوشك، بشكل ما، أن يقدم نموذجا ينسف النظرية الإسرائيلية من أساسها، وأن يعيد تثبيت فكرة التجمع الذي لا يقتحم، أي فكرة بيروت أو ستالينغراد. فقد قدم هذا المخيم أقصى ما يمكن لمنطقة مغلقة أن تقدمه، واصلا بالأمور حد التذكير بأساطير المدن المقاومة. صحيح أنه نموذج مصغر، لكنه نموذج محبط بالنسبة لنظرية الحرب الإسرائيلية الجديدة.
بالطبع لم يكن لمخيم جنين، ولا حتى نابلس أو غيرها، تخطي الظروف وهزيمة القوة المهاجمة، لكنه أشار إلى هذه الإمكانية، وفتح الباب أمامها.
من أجل هذا يمكن القول أن معركة مخيم جنين سوف تدخل التاريخ العسكري للقرن الواحد والعشرين من باب واسع. كما أنها سوف تكون مجالا للدراسة العسكرية، ليس من زاوية أهميتها المحلية الفلسطينية، بل من أجل أهميتها العامة، أي بسبب الاحتمال المتفجر الذي طرحته.
كذلك يمكن القول أن (أبو الجندل)، قائد معركة المخيم، سوف يقف في التاريخ العسكري، على منصة توازي المنصة التي يقف عليها خصمه رئيس الأركان الإسرائيلي وقتها، شاؤل موفاز، إن لم ترتفع فوقها. صحيح أن موفاز قد سحق المخيم في نهاية الأمر، لكنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن أوصل المخيم رسالته: رسالة أن ستالينغراد ممكنة في القرن الواحد والعشرين.
مخيم جنين: لماذا؟
يمكن القول أن اجتماع عدد من الأسباب والصدف هو الذي أدى إلى جعل مخيم جنين المكان الملائم لإيصال الرسالة. وهذه الأسباب هي:
أولا: أن المخيم تحول إلى نقطة تجمع للمطاردين من قبل قوات الاحتلال، وللمطلوبين من السلطة بناء على تعهدات أوسلو. وقد بدأت هذه الحركة منذ انتفاضة النفق عام 1996. فمن حينها أخذت بعض العناصر المتمردة تجد مكانا آمنا لها في المخيم. وقد كان من هؤلاء أبو الجندل ذاته. ومع انفجار الانتفاضة الثانية تواصل هذا الاتجاه وتسارع، بحيث أصبح المخيم مأوى لبضع عشرات من المطاردين والمطلوبين. وكان نهر من الدم يفصل بين هؤلاء وبين العدو.
ثانيا: أن تفاهما ما حصل بين السلطة والمطلوبين يقضي بأن السلطة لن تلاحقهم إلى المخيم. إنه تفاهم غريب حقا، لكنه حصل على الأرض فعلا. فكل مطلوب من قبل السلطة تحت الضغوط الإسرائيلية يستطيع أن يذهب إلى المخيم من دون الخشية من اعتقال السلطة له. عليه تكون السلطة قد أخرجت هذا المخيم، بإرادتها أو بغير إرادتها، خارج سلطتها. لقد صار منطقة لا تنطبق عليها القوانين ذاتها.
ثالثا: انطلاقا من هاتين النقطتين صار المخيم ملاذا آمنا إلى حد ما ضمن توازن القوى الذي كان قبل الاجتياح. وقد اكتشف المطلوبون المحتمون به أن البقاء فيه أفضل من الخروج منه. يقول أحد المقاتلين الأسرى الذين خاضوا معركة المخيم حتى النهاية: "من تجربة الاجتياحات السابقة تكونت لدينا فكرة أن المكان الأكثر أمنا بالنسبة لنا هو داخل مخيم جنين... لم يكن أمامنا إلا أن نصمد في مخيم جنين لأن الخروج منه خطر".
وهكذا فقد جمع المخيم كتلة مطلوبة من العدو ليس لها ممر انسحاب، وليس لها مكان آخر تذهب إليه.
رابعا: أن المقاتلين في المخيم كانوا على علاقة من الشك، بل ومن العداء أحيانا، مع أجهزة السلطة الأمنية. وعلى الرغم من احترام كثير منهم للقيادة السياسية ممثلة بالرئيس عرفات، فإن الشكوك كانت تملأ قلوبهم تجاه نوايا أجهزة الأمن. وقد جرت قبل الاجتياح الكبير محاولة لإخراج بعض المطلوبين من المخيم ووضعهم في أماكن آمنة خارجه على أن لا تطالهم يد الإسرائيليين، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل حين شك هؤلاء أن بعض الأجهزة ربما أبعدتهم من أجل تسهيل اقتحام المخيم من قبل الإسرائيليين. عليه فقد عادوا إلى المخيم جميعا.
خامسا: تكون مرجعية محلية للمقاتلين داخل المخيم، وعلى الأخص مقاتلي كتائب الأقصى. فهؤلاء تخلصوا من الترتيب الهرمي الذي كان يمكن أن يجبرهم على الالتزام بمواقف لا يقتنعون بها. يقول أحد المقاتلين الأسرى من كتائب الأقصى: "مرجعيتنا العليا ككتائب لم تتعد المخيم". صحيح أن هناك من كان يمون عليهم في وسط قيادات فتح وكوادرها الوسطى بفعل العلاقات الشخصية، وبفعل أشكال الدعم الذي وفروها لهم في وقت ما، لكنهم لم يكونوا يتلقون الأوامر منهم في الحقيقة.
سادسا: منح تجمع المطلوبين والمطاردين المخيم من العقليات العسكرية التي اكتسبت خبرة في مجال الاشتباك والتفخيخ. ومن هؤلاء كان الشهيد أبو الجندل، والشهيد محمود طوالبة، والشهيد زياد عامر. ويمكن مد خبرة بعض هؤلاء إلى بيروت ذاتها. فأبو الجندل كان شبلا يعرف استخدام الآر بي جي وقت اجتياح بيروت.
سابعا: وقوع المخيم في دائرة تتميز بوجود قوي للروح الدينية المجاهدة الأمر الذي دفع بفكرة الاستشهاد إلى حدودها القصوى. يقول أحد الأسرى: إنه من منطقة جنين خرج شعار "الشهيد هو القائد"، والذي جرى تعميمه في كل المناطق.
ثامنا: أن المخيم تعرض لاجتياحات متواصلة قبل الاجتياح الكبير. بلغ عدد هذه الاجتياحات خمس أو ست اجتياحات. وكان آخرها قد وقع قبل أسبوعين من الاجتياح الكبير، الأمر الذي منح المقاتلين خبرة والناس معرفة.
وهكذا فقد كان كل شيء في المخيم يدفع نحو المواجهة لا نحو الهرب والاستسلام، الأمر الذي مكن المخيم من إيصال رسالته التي تحدثنا عنها.
***
في كل حال، تمكن المقاتلون في المخيم من صد أغلب الهجمات الإسرائيلية حتى اليوم السادس تقريبا. لم تتمكن الدبابات من التقدم إلا ببطء، رغم أن الكاسحات أزالت الألغام المبثوثة في الشوارع، بسبب عنف المواجهة. لكن في اليوم السادس حصل تطوران رئيسيان أثرا على سير المعركة، بل وأديا إلى حسمها:
الأول: هو بدء الخروج المكثف للمدنيين من المخيم. فبعد أن اشتد القصف وتزايدت الإصابات بين المدنيين، سمح المقاتلون للمدنيين بمغادرة المخيم، أو أنهم اضطروا للسماح لهم بفعل ضغط الشارع ومخاوفه. وكان الإسرائيليون في الواقع ينتظرون هذه اللحظة ويدفعون نحوها. فقد كانوا يحاولون إقناع المدنيين بالخروج عبر السماعات، وربما عبر إيقاع الإصابات بهم.
وبدءا من هذه النقطة صار وضع القاتلين حرجا. صعب تموينهم وصار العثور على الماء مشكلة خاصة بعد أن أصيبت أنابيب المياه في المخيم. وفي اليوم التاسع صار الوضع حرجا جدا. يقول أحد المحاربين الأسرى: "حصل نقص في الطعام في اليوم التاسع، أي بعد خروج الأهالي من المخيم... بعد اليوم التاسع أخذنا نعتمد على تجميع أباريق ماء ووضعها في البيوت التي نمر بها".
هذا وكان المقاتلون قد خاضوا منذ اللحظة الأولى للاجتياح حربا جدية لتطمين الأهالي وبث الثقة في نفوسهم وإقناعهم بعدم مغادرة المخيم. وقد استخدموا في سبيل ذلك الكثير من المبادرات. فمثلا، عندما بدأت القوات الإسرائيلية بالتقدم تم تنظيم احتفال غريب جدا وبهيج لإشعار الناس بالثقة وعدم الخوف: أطلقت ألعاب نارية احتفالية في السماء، وقام شيخ يدعى "الخاروف" يملك عدة صوفية بضرب طبوله وصنوجه في حارات المخيم، مما أثر على معنويات الناس إيجابا.
بعد ذلك استخدمت مكبرات الجوامع بكثافة لنفي الشائعات وإطلاق شائعات مضادة. وكانت هذه المكبرات تدعو الجنود الإسرائيليين إلى الاستسلام، وهو عين ما كان يحدث على خطوط التماس في حصار بيروت. وكان المقاتلون قد أعدوا سماعات إضافية في حال توقفت سماعات المساجد عن العمل.
لكن الضغط الإسرائيلي وصل إلى حدود أرغمت المقاتلين على قبول فكرة مغادرة الأهالي، رغم بقاء جزء بسيط أصر على مشاركة المقاتلين مصيرهم.
الثاني: وصول جرافة دي 9
منذ وصول هذه الجرافة الضخمة إلى مسرح العمليات حصل انقلاب في الميدان. ورغم أن المقاتلين خاضوا بعض أنجح معاركهم بعد وصولها، وهي المعركة التي خسر فيها الإسرائيليون ثلاثة عشر قتيلا، إلا أن المعركة تحولت بعد وصول هذه الجرافة إلى هروب دائم من أنيابها. لم تعد الدبابة أو المروحية هي العدو الأول بل الجرافة.
يقول أحد المقاتلين الأسرى: "تم استخدام الجرافة في اليوم السابع (هناك من يقول السادس) للاجتياح في حارة الدمج. وقد أحضروها بعد أن واجهوا مقاومة شرسة في تلك الحارة التي تتميز بضيق أزقتها". ويضيف آخر: " لم نتوقع دخول الجرافة التي أطلقنا عليها اسم الغول إلى المخيم... لم تؤثر فيها العبوات ولا حتى قذيفة آر بي جي أطلقها الأخ أبو الجندل (ويبدو أنه كان يحمل قاذف الآر بي جي الوحيد في الممخيم). وأذكر أنه سقط سقف بيت على الجرافة ولم يحصل لها شيء". ويزيد مقاتل آخر:" ثم تقدمت جرافة من مركز المخيم... فجرنا بها عبوة ناسفة فلم تتأثر. حاول أحد الإخوة حرقها من خلال الوقوف على سطح أحدة المنازل وسكب البنزين وإشعال النار، لكن دون جدوى".
وهكذا نجحت الجرافة.
نجحت حيث أخفقت الدبابة والمروحية.
كانت الجرافة، إذن، بطل الجانب الإسرائيلي. لهذا أعطيت النياشين لسائقيها من قبل الجيش الإسرائيلي، فقد صارت رمز انتصاره في المخيم. يقول أحد المقاتلين الوضع بعد وصول الجرافة: "بعد ذلك أخذنا ننسحب من بيت لبيت، حيث أن بقاءنا في موقع واحد يعني أن سيتم دفننا أحياء".
لكن لماذا تأخر الإسرائيليون في استخدام الجرافة الضخمة؟ هل لأنهم لم يكونوا يعرفون قدراتها جيدا في مثل هذه الحال، أم أنهم كانوا ينتظرون خروج المدنيين؟ هذا سؤال لا نستطيع الإجابة عليه بالمعلومات التي نملكها.
في كل حال، فعند استسلام آخر المقاتلين رؤيت (أكثر من عشر جرافات) تقوم بعملها في أنحاء المخيم! لكن هذا الأمر يطرح سؤالين:
أولا: هل يمكن للجرافة أن تكون بهذه الأهمية في تجمع سكاني ببناء صلب يختلف عن أبنية المخيم الهشة؟
ثانيا: إذا كان اقتحام مكان يقتضي جرفه وإزالته عن وجه الأرض، فهل يكون هذا اقتحاما في الحقيقة؟
إن اقتحام مكان يختلف عن تدميره بالتأكيد. وهكذا فنظرية الحرب الإسرائيلية تصل إلى مأزق. فإذا أردت اقتحام مكان فعليك أن تمحقه. وتطبيق مثل هذا على تجمع سكاني كبير قد يعني ضربه بقنبلة نووية.
عليه فإن تدمير المخيم، أو بشكل أدق تدمير معظمه، يلغي فكرة الاجتياح. بالتالي، يمكن الحديث عن اجتياح نابلس أو مخيم بلاطة، لكن لا يمكن الحديث عن اقتحام مخيم جنين. فلم يعد هناك مخيم لكي يقتحم.
ما حصل في مخيم جنين لم يحصل في مخيم بلاطة. فالجرافة لم تكن ضرورية هناك، أو لم تكن مكتشفة بعد، أو لعل المقاومة لم تكن بالضراوة التي كانت عليها في مخيم جنين بحيث ترغم الإسرائيليين على اكتشاف الجرافة، أي بحيث ترغمهم على الانتقال من (الاقتحام) إلى (التدمير). لذا فقد اقتحم المخيم بالطريقة المتسلسلة، وفجرت عبوات الشوارع بقذائف المروحيات.
أما في مخيم جنين فلم يكن تكتيك الاقتحام المتسلسل هو التكتيك السائد. لم ينجح هذا التكتيك كما نجح في أماكن أخرى. ويبدو أن مقاتلي المخيم استفادوا من تجربة الأماكن الأخرى فتمكنوا من قلب التكتيك واستخدامه ضد الإسرائيليين. أي أنه كان هناك اقتحام مسلسل مضاد قام به المقاتلون لنصب الكمائن للعدو. يقول أحد المقاتلين: كنا "كنا نقوم بفتح ثغرات في البيوت وعبرها، وننتقل من خلالها... كنا نكمن للجيش داخل هذه البيوت وفي هذه الثغرات كي نفاجئهم. وقد تمكنا بفعل ذلك من السيطرة الجيدة في البداية على كل مناطق المخيم". وهذا يعني أن قلب التكتيك حصل مبكرا وبفعل دراسة حالات الاقتحام في المناطق الأخرى والاستفادة من خبرتها.
وحسب بعض المقاتلين الأسرى فإن الشهيد زياد العامر كان هو مبدع "تكتيك فتح المنافذ والثغرات من بيت لبيت، والتي استخدمها العدو في مخيم بلاطة".
في ما يخص عبوات الشوارع فلم تكن ذات نفع في مخيم جنين، حيث تم تفجيرها عبر كاسحات الألغام. لذا كان التركيز على (الأكواع)، وهي عبوات محلية الصنع مكونة من المواسير المعدنية، التي كثيرا ما كانت سلاح الأشبال. لكن العبوات الجانبية كانت شديدة التأثير. فقد اكتشف الشهيد محمود طوالبة، قبل استشهاده، أن بالإمكان تفخيخ مواسير المياه والحنفيات على جدران المخيم. وكان هذا أسلوبا مبتكرا. يقول أحد المقاتلين: "تم تفخيخ المواسير والحنفيات الممتدة على جدران بيوت المخيم. كان الجنود يظنونها مواسير ماء فيقتربون منها بدون حذر لحاجتهم إلى الجدران للاحتماء بها، وعندها يتم تفجيرها، وهي عادة ما تكون بمستوى رأس الجندي الذي يحتمي بالحائط".
هذه التكتيكات أطالت أمد المواجهة، وأحرجت الجيش الإسرائيلي، الذي وقفت كل قياداته على مشارف المخيم تراقب المعركة وتقودها. فقد تحول صمود المخيم إلى عار لنظرية الحرب الإسرائيلية وتشكيك بجدواها.
وعندما استسلم آخر المقاتلين في اليوم الحادي عشر كان هناك، حسب شهادة آخر المقاتلين الأسرى، ما يقرب من عشرين ألف جندي يراقبون مشهد الاستسلام. كانوا يريدون أن يبروا بأعينهم من حقق معجزة صمود المخيم. فقد فعل هذا المخيم ما لم تفعله مدن كبرى تعرضت للاجتياح، مقدما أقصى ما يمكن تقديمه في منطقة صغيرة ومغلقة، مبينا الحدود التي يمكن لصمود مثل هذه المناطق أن تبلغها.
والغريب أن تجربة المواجهة المسلحة كلها في الانتفاضة الثانية قد أقيمت على أرض اتفاقية أوسلو. فمن دون هذا الاتفاق المكروه لم يكن بالإمكان وصول حتى هذا القدر الضئيل من الأسلحة إلى أيدي الناس. كما أنه من دونه لم يكن ليتدرب الألوف على استخدام هذه الأسلحة. وفوق هذا كله فلم تكن لتتشكل مناطق شبه آمنة هي ما يدعى بمناطق(أ) التي كانت تحت سيطرة السلطة. ففي هذه المناطق تم التدرب على السلاح وعلى تحضير المتفجرات والعبوات في ظل وضع شبه آمن دام لبضع سنوات، إلى أن جاء الاجتياح ليدمر هذه الدفيئة كما سماها الإسرائيليون. لكنها لم تدمر إلا بعد أن زرعت فكرة المواجهة المسلحة، وفرضت تجربتها ووضحت حدودها.
مجزرة أم أسطورة؟
لكن ما الذي حصل حتى انتقلنا من الحديث عن صمود المخيم في لحظة ما إلى الحديث عن مجزرة؟ كيف حدث أن مأثرة الصمود قد نسيت لصالح الحديث عن مجزرة؟
ثمة أناس يعتقدون أن هذا قد حصل عمدا وبشكل مدروس لإخفاء البطولة والقفز عنها. لكن الأمور في ما يبدو لم تكن كذلك. إذ نفهم من شهادات المقاتلين الأسرى أن شرارة فكرة المجزرة قد خرجت من المخيم ذاته، أي أن المقاتلين هم المسئولون عن التشوش الذي حصل. فقد ظن قسم منهم أن الحديث عن مجزرة وعن قتلى بالمئات قد يؤدي إلى تكبيل أيدي تكبيل أيدي الإسرائيليين ومنعم من ارتكاب الجرائم. كما أنهم كانوا يعتقدون أن تكبير الأمور إلى هذا الحد قد يدفع الجمهور العربي إلى الثورة. عليه فقد كان هذا نوعا من الحرب الإعلامية المقصودة. وقد تصاعد هذا الأمر بعد المعركة التي سقط فيها ثلاثة عشر عسكريا إسرائيليا. فقد خشي المقاتلون أن هذه الخسارة ستدفع بالإسرائيليين إلى الجنون. لذا زادوا من حدة الحديث عن المجازر. بل إنهم أعلنوا أن جميع المطلوبين قد قتلوا، لكي يخففوا الضغط عنهم، ولم يكن هذا حقيقيا. يقول أحد المقاتلين الأسرى: "كل المبالغة في عدد القتلى كانت حربا إعلامية بهدف كسب الرأي العام وإثارته ضد جرائم العدو البشعة وردعه، في الوقت ذاته، عن القيام بالمزيد... وقد رأى بعضنا أن هذه الإشاعات كانت مضرة ولم تفدنا بشيء".
يذكر هنا أن تصريح شمعون بيريز حول المخيم، والذي أعلن فيه أن الإسرائيليين ربما ارتكبوا مذابح في المخيم متحدثا عن أرقام كبيرة من القتلى، قد أسهم في تثبيت ما أراد المقاتلون أن يكون حربا إعلامية. بناء عليه فقد نسيت حكاية الصمود لكي تحل محلها حكاية المجزرة.
لقد كانت هناك بالطبع جرائم حرب ارتكبها الجيش الإسرائيلي في المخيم. فقد تم قتل مدنيين وأسرى. لكن لم يكن هناك مجازر على نطاق واسع. فقد بلغ عدد الشهداء من المقاتلين حوالي خمسة وثلاثين مقاتلا. أما المدنيون فقد بلغ عدد الشهداء منهم 25، إضافة إلى الجرحى الكثيرين. وعليه فقد كان هناك نوعا من التوازن في عدد القتلى بين الطرفين. فحب الإسرائيليين كان عدد قتلاهم ثمانية وعشرون عسكريا. لكن المقاتلين يعتقدون أنهم خسروا 35 قتيلا.
في كل حال، فقد كانت معركة المخيم معركة شديدة التعقيد ومليئة بالدروس والعبر في كل المجالات: العسكرية والنفسية وفي مجال العلاقة مع الأهالي ومع وسائل الإعلام. وكل هذا بحاجة إلى الدراسة والتقييم. لكن من سوء حظ تجربة المخيم أن المواجهة في الحرب الأميركية على العراق لم تتمكن من حمل رسالته. فهناك تساقطت المدن العظمى من دون قتال كما تسقط أوراق الخريف. وبدا وكأن صرخة المخيم كانت مجرد صوت صارخ في البرية لم يسمعه أحد. لكننا نظن أن هذه لحظة مؤقتة، وأنه سيجيء الوقت الذي تستعاد فيها هذه التجربة وتدرس وتستوعب.
ولعل الدرس الأول لهذه التجربة يتمثل في إرادة القتال. فمن دون إرادة قتال لن تنفع الأسلحة والجيوش، ولن ينفع حجم المدن ولا عدد سكانها. وعليه فهي تعيد تثبيت الحقيقة الأساسية، وهي أن الإنسان هو القيمة الأولى، وأن إرادته فوق التكنولوجيا.
* كل ما نقل على ألسنة الأسرى مأخوذ من مسودة كتاب أصدرته لاحقا مؤسسة (مواطن) في رام الله بعنوان: شهادات مخيم جنين. والكتاب مجموعة مقابلات مع قيادات المقاومة التي شاركت في القتال حتى سقوط المخيم أجراها معهم زميلهم السجين وليد دقة. ولعل هذا الكتاب أفضل كتاب عن تجربة المخيم حتى الآن.
(كتبت هذه المادة بعد شهور من معركة مخيم جنين عام 2002. وأنا أعيد نشرها هنا من دون تعديل، ذلك أن جنين ومخيمها عادا لكي يقفا على خشبة المسرح من جديد، وكي يعيدا إلقاء الدرس علينا، درس الكفاح، مرة أخرى- زكريا محمد)
لكن مياها كثيرة جرت في النهر منذ ذلك الحين مكنت الجيش الإسرائيلي من الاعتقاد أن المدن والتجمعات السكانية لم تعد أماكن لا يمكن اقتحامها. فكل مكان، بعد الآن، صار قابلا للكسر والاقتحام. فالتطورات التكنولوجية، وما رافقها من تطورات في تكتيكات اقتحام التجمعات السكانية، جعلت من المدينة التي لا تقهر أسطورة من أساطير الماضي.
فقد أدى تصفيح الدبابة المضاعف إلى الحد من قدرة الآر بي جي، بل وإلى التهديد بتحويله إلى لعبة أطفال غير مؤذية. كما أن دقة إصابة صواريخ المروحيات ارتفعت حد أن بإمكان قائد المروحية إرسال الصاروخ إلى النافذة التي يريدها. أكثر من ذلك فقد صار بإمكان المروحية ملاحقة فرد ما في الشوارع بأفضل مما تقوم به دورية راجلة، ومن دون إحداث مجازر كبيرة بين المدنيين.
أما بخصوص كثافة المباني فإن بالإمكان اتباع تكتيكات مناسبة مثل تكتيك الاقتحام المتسلسل، الذي يتم عن طريق فتح ثغرة في جدار بيت للوصول إلى البيت الذي يليه بواسطة المعدات الحديثة، بحيث لا تكون القوات المهاجمة بحاجة إلى عبور الشوارع والأزقة الضيقة والتعرض لنيران القناصة.
كل هذا، إضافة إلى الاستخدام المكثف للدروع البشرية، جعل من اقتحام المدن والتجمعات السكنية، ومن دون خسائر كبرى أو مجازر، أمرا ممكنا.
عليه فقد أعلنت النظرية العسكرية الإسرائيلية نهاية أسطورة المدينة التي لا تقتحم.
وكان الاجتياح الكبير لمدن ومخيمات الضفة الغربية، وقبل ذلك اقتحام مخيم بلاطة، ثم بعد ذلك الاقتحامات في قطاع غزة، تطبيقا عمليا لهذا الإعلان. ففي هذا الحدث تم، عبر تكتيك الاقتحام المتسلسل، اقتحام مناطق كثيفة المباني وكثيفة السكان، من دون خسائر مهمة في صفوف المهاجمين، ومن دون مجازر كبرى في صفوف المدنيين. كما تم اقتحام قصبات كانت تعتبر عصية وعاصية حتى وقت قريب، كما هو حال البلدة القديمة في نابلس، التي كانت عصية على الاحتلال البريطاني في ثورة 1936، وحتى على الاحتلال الإسرائيلي في الانتفاضة الأولى. أما مدن مثل رام الله فقد اقتحمت خلال ساعات وتحولت شوارعها إلى مسرح للعب القناصة الإسرائيليين، الذين سيطروا على المباني العالية، بدل أن تكون مسرحا للعب القناصة الفلسطينيين.
كان الاجتياح، إذن، تطبيقا عمليا للنظرية الإسرائيلية التي تعلن إمكانية تفوق المهاجم على المدافع في حرب المدن. وكانت هذه النظرية وتطبيقها العملي هي المساهمة الإسرائيلية في حروب القرن الجديد الأميركية. هذه الحروب التي كانت نبوءتها في حرب الخليج الثانية، ثم تبلورت في حرب كوسوفو، ونضجت في حرب طالبان، ثم وصلت إلى قمتها في الحرب الأخيرة على العراق. وفي هذه الحروب يتم حسم الحرب من بعيد، أي من دون اشتباك جدي مع العدو، وأحيانا حتى من دون أن يتمكن المدافع من رؤية مهاجمه. إنها حرب الخسارة رقم صفر من جانب القوة التكنولوجية المهاجمة.
نظرية الحرب الإسرائيلية تأتي كنظرية تكميلية في إطار هذه الحروب؟ أي أنها حرب تبدأ بعد انهيار القوات المعادية أو انسحابها ودخولها المدن للاحتماء بها، أو حين ترفض هذه القوات الانكشاف أمام الحرب التكنولوجية، وتفضل أن تتحصن في المدن والقصبات.
ويمكن القول أن حصول اجتياح الضفة قبل الحرب على العراق لم يكن صدفة، على الأغلب. صحيح أن هذا الاجتياح كان يهدف إلى هزيمة الفلسطينيين وكسر إرادتهم، لكنه كان، إضافة إلى ذلك، بروفة للحرب العراقية، في ما لو حصلت مواجهات داخل المدن والتجمعات السكانية. يقول الصحفي الإسرائيلي أليكس فيشمان في يديعوت أحرنوت:" في حينه جاءوا( أي الأميركان) إلى جنين لكي يروا كيف يعملون بالجرافات في المدينة". أي أنهم كانوا هناك في العرض الحي والمباشر. وقد سرت شائعة تقول إن الهجوم الذي جرى على مخيم جنين بعد الاجتياح الكبير، وقبل وقت قصير جدا من بدء الحرب على العراق، كان نشاطا معدا للأميركيين أساس. أي أنه كان تدريبا عمليا أجري لصالحهم مباشرة ولم تكن له ضرورة أمنية إسرائيلية.
غير أن التدريب الكبير، أي الاجتياح الذي بدأ في 28 آذار عام 2001، حمل نقطتي ضعف رئيسيتين تؤرقانه وتمنعانه من أن يعمم نفسه كنظرية للحرب التكميلية:
الأولى: أن هذا التدريب جرى في منطقة مغلقة، هي الضفة العربية، التي تدفق إليها السلاح تحت أقسى الشروط وأشدها. وهذا يعني أنه جرى، من حيث المبدأ، في منطقة آمنة، أي حيث لا وجود لمضادات الدروع أو المضادات الجوية. عليه فالروحيات الإسرائيلية كانت تتجول في السماء بحرية مطلقة، كما أن الدروع كانت تتحرك من دون خوف جدي حتى من الآر بي جي الذي فقد الكثير من فعاليته القديمة. وهذا يعني أن التدريب الإسرائيلي أشبه بتجربة غير مكتملة الشروط أجريت في مختبر، وأعطت نتائج قد تكون مضللة جدا.
بناء على ذلك فإن العملية الإسرائيلية كانت أقرب إلى أن تكون، في الواقع، إلى محاولة لقمع شغب مدني في تجمعات سكنية منها إلى تدريب حقيقي لاجتياح مدن محصنة ومستعدة للقتال. بل لعله يمكن القول أن هذا التدريب، هذه العملية، كانت تهدف في الأساس إلى منع تكون مناطق غير قابلة للاجتياح وإجهاض احتمالها. عليه فإن هناك شكا في أن يتمكن الاجتياح الإسرائيلي من تعميم نفسه كنموذج مضاد للمدينة التي لا تقتحم. فهل يمكن مثلا اجتياح مدينة صور اللبنانية الجنوبية المفتوحة على المدد بمثل السهولة التي اجتيحت بها رام الله؟
الثانية: أن مخيم جنين أوشك، بشكل ما، أن يقدم نموذجا ينسف النظرية الإسرائيلية من أساسها، وأن يعيد تثبيت فكرة التجمع الذي لا يقتحم، أي فكرة بيروت أو ستالينغراد. فقد قدم هذا المخيم أقصى ما يمكن لمنطقة مغلقة أن تقدمه، واصلا بالأمور حد التذكير بأساطير المدن المقاومة. صحيح أنه نموذج مصغر، لكنه نموذج محبط بالنسبة لنظرية الحرب الإسرائيلية الجديدة.
بالطبع لم يكن لمخيم جنين، ولا حتى نابلس أو غيرها، تخطي الظروف وهزيمة القوة المهاجمة، لكنه أشار إلى هذه الإمكانية، وفتح الباب أمامها.
من أجل هذا يمكن القول أن معركة مخيم جنين سوف تدخل التاريخ العسكري للقرن الواحد والعشرين من باب واسع. كما أنها سوف تكون مجالا للدراسة العسكرية، ليس من زاوية أهميتها المحلية الفلسطينية، بل من أجل أهميتها العامة، أي بسبب الاحتمال المتفجر الذي طرحته.
كذلك يمكن القول أن (أبو الجندل)، قائد معركة المخيم، سوف يقف في التاريخ العسكري، على منصة توازي المنصة التي يقف عليها خصمه رئيس الأركان الإسرائيلي وقتها، شاؤل موفاز، إن لم ترتفع فوقها. صحيح أن موفاز قد سحق المخيم في نهاية الأمر، لكنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن أوصل المخيم رسالته: رسالة أن ستالينغراد ممكنة في القرن الواحد والعشرين.
مخيم جنين: لماذا؟
يمكن القول أن اجتماع عدد من الأسباب والصدف هو الذي أدى إلى جعل مخيم جنين المكان الملائم لإيصال الرسالة. وهذه الأسباب هي:
أولا: أن المخيم تحول إلى نقطة تجمع للمطاردين من قبل قوات الاحتلال، وللمطلوبين من السلطة بناء على تعهدات أوسلو. وقد بدأت هذه الحركة منذ انتفاضة النفق عام 1996. فمن حينها أخذت بعض العناصر المتمردة تجد مكانا آمنا لها في المخيم. وقد كان من هؤلاء أبو الجندل ذاته. ومع انفجار الانتفاضة الثانية تواصل هذا الاتجاه وتسارع، بحيث أصبح المخيم مأوى لبضع عشرات من المطاردين والمطلوبين. وكان نهر من الدم يفصل بين هؤلاء وبين العدو.
ثانيا: أن تفاهما ما حصل بين السلطة والمطلوبين يقضي بأن السلطة لن تلاحقهم إلى المخيم. إنه تفاهم غريب حقا، لكنه حصل على الأرض فعلا. فكل مطلوب من قبل السلطة تحت الضغوط الإسرائيلية يستطيع أن يذهب إلى المخيم من دون الخشية من اعتقال السلطة له. عليه تكون السلطة قد أخرجت هذا المخيم، بإرادتها أو بغير إرادتها، خارج سلطتها. لقد صار منطقة لا تنطبق عليها القوانين ذاتها.
ثالثا: انطلاقا من هاتين النقطتين صار المخيم ملاذا آمنا إلى حد ما ضمن توازن القوى الذي كان قبل الاجتياح. وقد اكتشف المطلوبون المحتمون به أن البقاء فيه أفضل من الخروج منه. يقول أحد المقاتلين الأسرى الذين خاضوا معركة المخيم حتى النهاية: "من تجربة الاجتياحات السابقة تكونت لدينا فكرة أن المكان الأكثر أمنا بالنسبة لنا هو داخل مخيم جنين... لم يكن أمامنا إلا أن نصمد في مخيم جنين لأن الخروج منه خطر".
وهكذا فقد جمع المخيم كتلة مطلوبة من العدو ليس لها ممر انسحاب، وليس لها مكان آخر تذهب إليه.
رابعا: أن المقاتلين في المخيم كانوا على علاقة من الشك، بل ومن العداء أحيانا، مع أجهزة السلطة الأمنية. وعلى الرغم من احترام كثير منهم للقيادة السياسية ممثلة بالرئيس عرفات، فإن الشكوك كانت تملأ قلوبهم تجاه نوايا أجهزة الأمن. وقد جرت قبل الاجتياح الكبير محاولة لإخراج بعض المطلوبين من المخيم ووضعهم في أماكن آمنة خارجه على أن لا تطالهم يد الإسرائيليين، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل حين شك هؤلاء أن بعض الأجهزة ربما أبعدتهم من أجل تسهيل اقتحام المخيم من قبل الإسرائيليين. عليه فقد عادوا إلى المخيم جميعا.
خامسا: تكون مرجعية محلية للمقاتلين داخل المخيم، وعلى الأخص مقاتلي كتائب الأقصى. فهؤلاء تخلصوا من الترتيب الهرمي الذي كان يمكن أن يجبرهم على الالتزام بمواقف لا يقتنعون بها. يقول أحد المقاتلين الأسرى من كتائب الأقصى: "مرجعيتنا العليا ككتائب لم تتعد المخيم". صحيح أن هناك من كان يمون عليهم في وسط قيادات فتح وكوادرها الوسطى بفعل العلاقات الشخصية، وبفعل أشكال الدعم الذي وفروها لهم في وقت ما، لكنهم لم يكونوا يتلقون الأوامر منهم في الحقيقة.
سادسا: منح تجمع المطلوبين والمطاردين المخيم من العقليات العسكرية التي اكتسبت خبرة في مجال الاشتباك والتفخيخ. ومن هؤلاء كان الشهيد أبو الجندل، والشهيد محمود طوالبة، والشهيد زياد عامر. ويمكن مد خبرة بعض هؤلاء إلى بيروت ذاتها. فأبو الجندل كان شبلا يعرف استخدام الآر بي جي وقت اجتياح بيروت.
سابعا: وقوع المخيم في دائرة تتميز بوجود قوي للروح الدينية المجاهدة الأمر الذي دفع بفكرة الاستشهاد إلى حدودها القصوى. يقول أحد الأسرى: إنه من منطقة جنين خرج شعار "الشهيد هو القائد"، والذي جرى تعميمه في كل المناطق.
ثامنا: أن المخيم تعرض لاجتياحات متواصلة قبل الاجتياح الكبير. بلغ عدد هذه الاجتياحات خمس أو ست اجتياحات. وكان آخرها قد وقع قبل أسبوعين من الاجتياح الكبير، الأمر الذي منح المقاتلين خبرة والناس معرفة.
وهكذا فقد كان كل شيء في المخيم يدفع نحو المواجهة لا نحو الهرب والاستسلام، الأمر الذي مكن المخيم من إيصال رسالته التي تحدثنا عنها.
***
في كل حال، تمكن المقاتلون في المخيم من صد أغلب الهجمات الإسرائيلية حتى اليوم السادس تقريبا. لم تتمكن الدبابات من التقدم إلا ببطء، رغم أن الكاسحات أزالت الألغام المبثوثة في الشوارع، بسبب عنف المواجهة. لكن في اليوم السادس حصل تطوران رئيسيان أثرا على سير المعركة، بل وأديا إلى حسمها:
الأول: هو بدء الخروج المكثف للمدنيين من المخيم. فبعد أن اشتد القصف وتزايدت الإصابات بين المدنيين، سمح المقاتلون للمدنيين بمغادرة المخيم، أو أنهم اضطروا للسماح لهم بفعل ضغط الشارع ومخاوفه. وكان الإسرائيليون في الواقع ينتظرون هذه اللحظة ويدفعون نحوها. فقد كانوا يحاولون إقناع المدنيين بالخروج عبر السماعات، وربما عبر إيقاع الإصابات بهم.
وبدءا من هذه النقطة صار وضع القاتلين حرجا. صعب تموينهم وصار العثور على الماء مشكلة خاصة بعد أن أصيبت أنابيب المياه في المخيم. وفي اليوم التاسع صار الوضع حرجا جدا. يقول أحد المحاربين الأسرى: "حصل نقص في الطعام في اليوم التاسع، أي بعد خروج الأهالي من المخيم... بعد اليوم التاسع أخذنا نعتمد على تجميع أباريق ماء ووضعها في البيوت التي نمر بها".
هذا وكان المقاتلون قد خاضوا منذ اللحظة الأولى للاجتياح حربا جدية لتطمين الأهالي وبث الثقة في نفوسهم وإقناعهم بعدم مغادرة المخيم. وقد استخدموا في سبيل ذلك الكثير من المبادرات. فمثلا، عندما بدأت القوات الإسرائيلية بالتقدم تم تنظيم احتفال غريب جدا وبهيج لإشعار الناس بالثقة وعدم الخوف: أطلقت ألعاب نارية احتفالية في السماء، وقام شيخ يدعى "الخاروف" يملك عدة صوفية بضرب طبوله وصنوجه في حارات المخيم، مما أثر على معنويات الناس إيجابا.
بعد ذلك استخدمت مكبرات الجوامع بكثافة لنفي الشائعات وإطلاق شائعات مضادة. وكانت هذه المكبرات تدعو الجنود الإسرائيليين إلى الاستسلام، وهو عين ما كان يحدث على خطوط التماس في حصار بيروت. وكان المقاتلون قد أعدوا سماعات إضافية في حال توقفت سماعات المساجد عن العمل.
لكن الضغط الإسرائيلي وصل إلى حدود أرغمت المقاتلين على قبول فكرة مغادرة الأهالي، رغم بقاء جزء بسيط أصر على مشاركة المقاتلين مصيرهم.
الثاني: وصول جرافة دي 9
منذ وصول هذه الجرافة الضخمة إلى مسرح العمليات حصل انقلاب في الميدان. ورغم أن المقاتلين خاضوا بعض أنجح معاركهم بعد وصولها، وهي المعركة التي خسر فيها الإسرائيليون ثلاثة عشر قتيلا، إلا أن المعركة تحولت بعد وصول هذه الجرافة إلى هروب دائم من أنيابها. لم تعد الدبابة أو المروحية هي العدو الأول بل الجرافة.
يقول أحد المقاتلين الأسرى: "تم استخدام الجرافة في اليوم السابع (هناك من يقول السادس) للاجتياح في حارة الدمج. وقد أحضروها بعد أن واجهوا مقاومة شرسة في تلك الحارة التي تتميز بضيق أزقتها". ويضيف آخر: " لم نتوقع دخول الجرافة التي أطلقنا عليها اسم الغول إلى المخيم... لم تؤثر فيها العبوات ولا حتى قذيفة آر بي جي أطلقها الأخ أبو الجندل (ويبدو أنه كان يحمل قاذف الآر بي جي الوحيد في الممخيم). وأذكر أنه سقط سقف بيت على الجرافة ولم يحصل لها شيء". ويزيد مقاتل آخر:" ثم تقدمت جرافة من مركز المخيم... فجرنا بها عبوة ناسفة فلم تتأثر. حاول أحد الإخوة حرقها من خلال الوقوف على سطح أحدة المنازل وسكب البنزين وإشعال النار، لكن دون جدوى".
وهكذا نجحت الجرافة.
نجحت حيث أخفقت الدبابة والمروحية.
كانت الجرافة، إذن، بطل الجانب الإسرائيلي. لهذا أعطيت النياشين لسائقيها من قبل الجيش الإسرائيلي، فقد صارت رمز انتصاره في المخيم. يقول أحد المقاتلين الوضع بعد وصول الجرافة: "بعد ذلك أخذنا ننسحب من بيت لبيت، حيث أن بقاءنا في موقع واحد يعني أن سيتم دفننا أحياء".
لكن لماذا تأخر الإسرائيليون في استخدام الجرافة الضخمة؟ هل لأنهم لم يكونوا يعرفون قدراتها جيدا في مثل هذه الحال، أم أنهم كانوا ينتظرون خروج المدنيين؟ هذا سؤال لا نستطيع الإجابة عليه بالمعلومات التي نملكها.
في كل حال، فعند استسلام آخر المقاتلين رؤيت (أكثر من عشر جرافات) تقوم بعملها في أنحاء المخيم! لكن هذا الأمر يطرح سؤالين:
أولا: هل يمكن للجرافة أن تكون بهذه الأهمية في تجمع سكاني ببناء صلب يختلف عن أبنية المخيم الهشة؟
ثانيا: إذا كان اقتحام مكان يقتضي جرفه وإزالته عن وجه الأرض، فهل يكون هذا اقتحاما في الحقيقة؟
إن اقتحام مكان يختلف عن تدميره بالتأكيد. وهكذا فنظرية الحرب الإسرائيلية تصل إلى مأزق. فإذا أردت اقتحام مكان فعليك أن تمحقه. وتطبيق مثل هذا على تجمع سكاني كبير قد يعني ضربه بقنبلة نووية.
عليه فإن تدمير المخيم، أو بشكل أدق تدمير معظمه، يلغي فكرة الاجتياح. بالتالي، يمكن الحديث عن اجتياح نابلس أو مخيم بلاطة، لكن لا يمكن الحديث عن اقتحام مخيم جنين. فلم يعد هناك مخيم لكي يقتحم.
ما حصل في مخيم جنين لم يحصل في مخيم بلاطة. فالجرافة لم تكن ضرورية هناك، أو لم تكن مكتشفة بعد، أو لعل المقاومة لم تكن بالضراوة التي كانت عليها في مخيم جنين بحيث ترغم الإسرائيليين على اكتشاف الجرافة، أي بحيث ترغمهم على الانتقال من (الاقتحام) إلى (التدمير). لذا فقد اقتحم المخيم بالطريقة المتسلسلة، وفجرت عبوات الشوارع بقذائف المروحيات.
أما في مخيم جنين فلم يكن تكتيك الاقتحام المتسلسل هو التكتيك السائد. لم ينجح هذا التكتيك كما نجح في أماكن أخرى. ويبدو أن مقاتلي المخيم استفادوا من تجربة الأماكن الأخرى فتمكنوا من قلب التكتيك واستخدامه ضد الإسرائيليين. أي أنه كان هناك اقتحام مسلسل مضاد قام به المقاتلون لنصب الكمائن للعدو. يقول أحد المقاتلين: كنا "كنا نقوم بفتح ثغرات في البيوت وعبرها، وننتقل من خلالها... كنا نكمن للجيش داخل هذه البيوت وفي هذه الثغرات كي نفاجئهم. وقد تمكنا بفعل ذلك من السيطرة الجيدة في البداية على كل مناطق المخيم". وهذا يعني أن قلب التكتيك حصل مبكرا وبفعل دراسة حالات الاقتحام في المناطق الأخرى والاستفادة من خبرتها.
وحسب بعض المقاتلين الأسرى فإن الشهيد زياد العامر كان هو مبدع "تكتيك فتح المنافذ والثغرات من بيت لبيت، والتي استخدمها العدو في مخيم بلاطة".
في ما يخص عبوات الشوارع فلم تكن ذات نفع في مخيم جنين، حيث تم تفجيرها عبر كاسحات الألغام. لذا كان التركيز على (الأكواع)، وهي عبوات محلية الصنع مكونة من المواسير المعدنية، التي كثيرا ما كانت سلاح الأشبال. لكن العبوات الجانبية كانت شديدة التأثير. فقد اكتشف الشهيد محمود طوالبة، قبل استشهاده، أن بالإمكان تفخيخ مواسير المياه والحنفيات على جدران المخيم. وكان هذا أسلوبا مبتكرا. يقول أحد المقاتلين: "تم تفخيخ المواسير والحنفيات الممتدة على جدران بيوت المخيم. كان الجنود يظنونها مواسير ماء فيقتربون منها بدون حذر لحاجتهم إلى الجدران للاحتماء بها، وعندها يتم تفجيرها، وهي عادة ما تكون بمستوى رأس الجندي الذي يحتمي بالحائط".
هذه التكتيكات أطالت أمد المواجهة، وأحرجت الجيش الإسرائيلي، الذي وقفت كل قياداته على مشارف المخيم تراقب المعركة وتقودها. فقد تحول صمود المخيم إلى عار لنظرية الحرب الإسرائيلية وتشكيك بجدواها.
وعندما استسلم آخر المقاتلين في اليوم الحادي عشر كان هناك، حسب شهادة آخر المقاتلين الأسرى، ما يقرب من عشرين ألف جندي يراقبون مشهد الاستسلام. كانوا يريدون أن يبروا بأعينهم من حقق معجزة صمود المخيم. فقد فعل هذا المخيم ما لم تفعله مدن كبرى تعرضت للاجتياح، مقدما أقصى ما يمكن تقديمه في منطقة صغيرة ومغلقة، مبينا الحدود التي يمكن لصمود مثل هذه المناطق أن تبلغها.
والغريب أن تجربة المواجهة المسلحة كلها في الانتفاضة الثانية قد أقيمت على أرض اتفاقية أوسلو. فمن دون هذا الاتفاق المكروه لم يكن بالإمكان وصول حتى هذا القدر الضئيل من الأسلحة إلى أيدي الناس. كما أنه من دونه لم يكن ليتدرب الألوف على استخدام هذه الأسلحة. وفوق هذا كله فلم تكن لتتشكل مناطق شبه آمنة هي ما يدعى بمناطق(أ) التي كانت تحت سيطرة السلطة. ففي هذه المناطق تم التدرب على السلاح وعلى تحضير المتفجرات والعبوات في ظل وضع شبه آمن دام لبضع سنوات، إلى أن جاء الاجتياح ليدمر هذه الدفيئة كما سماها الإسرائيليون. لكنها لم تدمر إلا بعد أن زرعت فكرة المواجهة المسلحة، وفرضت تجربتها ووضحت حدودها.
مجزرة أم أسطورة؟
لكن ما الذي حصل حتى انتقلنا من الحديث عن صمود المخيم في لحظة ما إلى الحديث عن مجزرة؟ كيف حدث أن مأثرة الصمود قد نسيت لصالح الحديث عن مجزرة؟
ثمة أناس يعتقدون أن هذا قد حصل عمدا وبشكل مدروس لإخفاء البطولة والقفز عنها. لكن الأمور في ما يبدو لم تكن كذلك. إذ نفهم من شهادات المقاتلين الأسرى أن شرارة فكرة المجزرة قد خرجت من المخيم ذاته، أي أن المقاتلين هم المسئولون عن التشوش الذي حصل. فقد ظن قسم منهم أن الحديث عن مجزرة وعن قتلى بالمئات قد يؤدي إلى تكبيل أيدي تكبيل أيدي الإسرائيليين ومنعم من ارتكاب الجرائم. كما أنهم كانوا يعتقدون أن تكبير الأمور إلى هذا الحد قد يدفع الجمهور العربي إلى الثورة. عليه فقد كان هذا نوعا من الحرب الإعلامية المقصودة. وقد تصاعد هذا الأمر بعد المعركة التي سقط فيها ثلاثة عشر عسكريا إسرائيليا. فقد خشي المقاتلون أن هذه الخسارة ستدفع بالإسرائيليين إلى الجنون. لذا زادوا من حدة الحديث عن المجازر. بل إنهم أعلنوا أن جميع المطلوبين قد قتلوا، لكي يخففوا الضغط عنهم، ولم يكن هذا حقيقيا. يقول أحد المقاتلين الأسرى: "كل المبالغة في عدد القتلى كانت حربا إعلامية بهدف كسب الرأي العام وإثارته ضد جرائم العدو البشعة وردعه، في الوقت ذاته، عن القيام بالمزيد... وقد رأى بعضنا أن هذه الإشاعات كانت مضرة ولم تفدنا بشيء".
يذكر هنا أن تصريح شمعون بيريز حول المخيم، والذي أعلن فيه أن الإسرائيليين ربما ارتكبوا مذابح في المخيم متحدثا عن أرقام كبيرة من القتلى، قد أسهم في تثبيت ما أراد المقاتلون أن يكون حربا إعلامية. بناء عليه فقد نسيت حكاية الصمود لكي تحل محلها حكاية المجزرة.
لقد كانت هناك بالطبع جرائم حرب ارتكبها الجيش الإسرائيلي في المخيم. فقد تم قتل مدنيين وأسرى. لكن لم يكن هناك مجازر على نطاق واسع. فقد بلغ عدد الشهداء من المقاتلين حوالي خمسة وثلاثين مقاتلا. أما المدنيون فقد بلغ عدد الشهداء منهم 25، إضافة إلى الجرحى الكثيرين. وعليه فقد كان هناك نوعا من التوازن في عدد القتلى بين الطرفين. فحب الإسرائيليين كان عدد قتلاهم ثمانية وعشرون عسكريا. لكن المقاتلين يعتقدون أنهم خسروا 35 قتيلا.
في كل حال، فقد كانت معركة المخيم معركة شديدة التعقيد ومليئة بالدروس والعبر في كل المجالات: العسكرية والنفسية وفي مجال العلاقة مع الأهالي ومع وسائل الإعلام. وكل هذا بحاجة إلى الدراسة والتقييم. لكن من سوء حظ تجربة المخيم أن المواجهة في الحرب الأميركية على العراق لم تتمكن من حمل رسالته. فهناك تساقطت المدن العظمى من دون قتال كما تسقط أوراق الخريف. وبدا وكأن صرخة المخيم كانت مجرد صوت صارخ في البرية لم يسمعه أحد. لكننا نظن أن هذه لحظة مؤقتة، وأنه سيجيء الوقت الذي تستعاد فيها هذه التجربة وتدرس وتستوعب.
ولعل الدرس الأول لهذه التجربة يتمثل في إرادة القتال. فمن دون إرادة قتال لن تنفع الأسلحة والجيوش، ولن ينفع حجم المدن ولا عدد سكانها. وعليه فهي تعيد تثبيت الحقيقة الأساسية، وهي أن الإنسان هو القيمة الأولى، وأن إرادته فوق التكنولوجيا.
* كل ما نقل على ألسنة الأسرى مأخوذ من مسودة كتاب أصدرته لاحقا مؤسسة (مواطن) في رام الله بعنوان: شهادات مخيم جنين. والكتاب مجموعة مقابلات مع قيادات المقاومة التي شاركت في القتال حتى سقوط المخيم أجراها معهم زميلهم السجين وليد دقة. ولعل هذا الكتاب أفضل كتاب عن تجربة المخيم حتى الآن.
(كتبت هذه المادة بعد شهور من معركة مخيم جنين عام 2002. وأنا أعيد نشرها هنا من دون تعديل، ذلك أن جنين ومخيمها عادا لكي يقفا على خشبة المسرح من جديد، وكي يعيدا إلقاء الدرس علينا، درس الكفاح، مرة أخرى- زكريا محمد)