في مقال نُشر في مجلة Foreign Policy، يناقش توبياس فيكين وآدم سيغال التحوّل الجذري في الاستراتيجية التكنولوجية للولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، من نموذج متعدد الأطراف قائم على التعاون الدولي والحوكمة الرقمية إلى نهج أحادي يرتكز على شعار "أميركا أولًا". هذا التحوّل أدى إلى تصاعد القومية التكنولوجية عالميًا، وخلق بيئة رقمية أكثر تشظيًا ومخاطر، مهددًا بإبطاء الابتكار وتقويض التحالفات الرقمية التي دعمت النفوذ الأميركي لعقود. بينما تدعو إدارة ترامب إلى الهيمنة الرقمية وسباق الذكاء الاصطناعي، تسعى دول أخرى، حليفة ومحايدة، إلى بناء نماذج حوكمة مستقلة وتطوير بنى تكنولوجية محلية، مما يفتح المجال أمام الصين لتوسيع نفوذها التقني. ويحذر الكاتبان من أن التفوق الأميركي بدون شراكات سيبقى هشًا، وأن الإكراه لا يصنع قيادة دائمة.
Brave New Techno-Nationalist World
يُعاد تشكيل النظام الرقمي العالمي بسرعة تحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فالإطار السابق الذي قام على دبلوماسية تكنولوجية متعددة الأطراف، وجهود منسقة لضمان أمان الذكاء الاصطناعي، ورقابة جماعية على الصادرات، كان هشًّا لكنه قائم. أما الآن، فهو ينهار. وبدلاً منه، تتبنى الولايات المتحدة استراتيجية تكنولوجية أكثر أحادية وعدوانية، تُعلي من شأن الهيمنة التكنولوجية على حساب التعاون متعدد الأطراف. وكما ورد في إعلان يناير عن تأسيس مجلس الرئيس الاستشاري للعلوم والتكنولوجيا، فإن "تحقيق الولايات المتحدة لهيمنة تكنولوجية عالمية لا تُشكك ولا تُنازع هو ضرورة أمن قومي." العقيدة الجديدة واضحة وبسيطة: "أمريكا أولاً" — ولكن بصيغة رقمية.
وبسبب هذه الاستراتيجية، يدخل المشهد التكنولوجي العالمي مرحلة من التنافس المتصاعد، والتشظي، والضبابية. سنشهد تصاعدًا في القومية التكنولوجية، وازديادًا في خطورة البيئة الرقمية. وقد تُحرز الولايات المتحدة مكاسب تكنولوجية قصيرة المدى، لكنها لن تتمكن من الحفاظ على قيادتها على المدى الطويل دون تحالف عريض من الحلفاء والشركاء. وسيفضي هذا التشظي إلى تباطؤ وتيرة الابتكار عالميًا، إلى جانب تحفيز نشوء نماذج جديدة من الحوكمة، مع سعي الدول لبسط مزيد من السيطرة على مستقبلها التكنولوجي.
وقد بدأت النتائج في الظهور فورًا. فالحلفاء يشعرون بالقلق، والمنافسون يكيفون أنفسهم مع الواقع الجديد، والدول المحايدة تسعى بشكل متزايد إلى طريق ثالث يحميها من ضغوط كل من الولايات المتحدة والصين. وفي عصر القومية التكنولوجية، حيث يُحدد التحكم في التكنولوجيا المتقدمة موازين القوة الاستراتيجية، يُهدد تراجع واشنطن عن بناء التحالفات بتقويض النفوذ ذاته الذي تسعى جاهدة للحفاظ عليه.
وضعت إدارة بايدن التكنولوجيا في صلب المنافسة الجيوسياسية. فقد وضعت استراتيجية دولية للتكنولوجيا تعتمد بشكل كبير على التنسيق والقيم المشتركة مع الحلفاء والشركاء. وسعت واشنطن إلى حشد جهود جماعية لصياغة قواعد الحوكمة العالمية للتقنيات الناشئة، وتعزيز السلوك المسؤول في الفضاء السيبراني، والدفاع عن إنترنت حر ومفتوح. كما حاولت التخفيف من التباينات في النهج التنظيمي بين الدول (أو على الأقل عزلها عن التعاون الأوسع)، والاستثمار في بناء القدرات الرقمية لشركائها حول العالم، وتعزيز الابتكار المحلي ومرونة سلاسل الإمداد، وإبطاء تدفق التكنولوجيا إلى المنافسين، وعلى رأسهم الصين.
لكن هذه الاستراتيجية تُستبدل اليوم بدعوات إلى "الهيمنة الأمريكية أولًا" في التقنيات الناشئة، وعلى وجه الخصوص الذكاء الاصطناعي، إلى جانب هجمات علنية على النهج الأوروبي في تنظيم التكنولوجيا. ففي خطاب ألقاه في "قمة باريس للعمل من أجل الذكاء الاصطناعي" في فبراير الماضي، صرّح نائب الرئيس الأميركي ج. د. فانس قائلاً: "الولايات المتحدة الأميركية هي الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعتزم إدارتنا الحفاظ على هذا التفوق". وأضاف أن إدارة ترامب ترى أن "الإفراط في تنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي قد يقتل صناعة تحوّلية"، مؤكدًا أن الولايات المتحدة لن تقبل أن تفرض الحكومات الأجنبية قيودًا على شركات التكنولوجيا الأميركية. وقد كرر ترامب مواقف مشابهة، مهاجمًا بشكل مباشر الغرامات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على شركات مثل Apple وAlphabet وMeta بموجب قانون الأسواق الرقمية، واصفًا إياها بأنها "نوع من الضرائب". وفي هذا السياق، هدّد مسؤولون في الإدارة باتخاذ إجراءات تجارية ردًا على هذه التنظيمات، وبدأ مكتب الممثل التجاري الأميركي بالفعل تحقيقات ضد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وتركيا ودول أخرى تفرض ضرائب على الخدمات الرقمية التي تقدمها الشركات الأميركية.
على مدى العقد الماضي، تمكنت الولايات المتحدة من بناء تحالف واسع من الحلفاء والشركاء المستعدين لتحميل المسؤولية والتصدي للهجمات السيبرانية. ففي يوليو 2022، أدانت كل من الناتو، والاتحاد الأوروبي، وأستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، واليابان، علنًا تورط الصين في اختراق خوادم Microsoft Exchange. كما حمل تحالف مماثل روسيا المسؤولية عن الهجوم السيبراني على شبكة الاتصالات KA-SAT التابعة لـ Viasat عشية غزوها لأوكرانيا. ومع ذلك، وخلال اجتماع لمجموعة عمل تابعة للأمم المتحدة حول الأمن السيبراني في فبراير، ركّز مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الأميركية على التهديدات السيبرانية الصادرة عن الصين وإيران، دون أن يذكر روسيا، بينما ركّز ممثلو المملكة المتحدة والدول الأوروبية على الخطر الصادر من موسكو. وبعد أسبوع، أفادت عدة وسائل إعلام بأن القيادة السيبرانية الأميركية علّقت بعض العمليات ضد أهداف روسية خلال مفاوضات وقف الحرب في أوكرانيا.
ولا تزال المنافسة التكنولوجية مع الصين تمثل أولوية حاسمة في الولاية الثانية لإدارة ترامب. ففي مناسبة أقيمت في ولاية تكساس، وصف مايكل كراتسيوس، مدير مكتب السياسات العلمية والتكنولوجية في البيت الأبيض، الصين بأنها "خصم جيوسياسي ومنافس تكنولوجي". وتدعو سياسة "الاستثمار الأميركي أولًا" التي يعتمدها ترامب الوكالات الفيدرالية إلى دراسة فرض قيود جديدة على الاستثمارات الخارجية في الصين، وخصوصًا في قطاعات مثل أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والبيولوجيا الاصطناعية. وبدافع القلق من نجاح نموذج ذكاء اصطناعي متقدم طورته شركة DeepSeek الصينية، شددت الإدارة قيودها على بيع رقائق Nvidia إلى الصين بدون ترخيص. واستكمالًا لهذا الضغط الاستراتيجي، تفاخر ديفيد ساكس، القيّم على سياسات الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية في البيت الأبيض، بصفقات ضخمة لبيع رقائق متقدمة تم توقيعها خلال زيارة ترامب للشرق الأوسط في مايو، واصفًا إياها بأنها "مكسب للطرفين" بين الولايات المتحدة وشركائها، وخسارة للصين. وأضاف ساكس أن هذه الصفقة لن تُسرّع فقط في بناء بنية تحتية متقدمة للذكاء الاصطناعي، بل "سترسّخ التكنولوجيا الأميركية كمعيار عالمي قبل أن يتمكن المنافسون من اللحاق بها".
قبل أسابيع قليلة من تولّيه منصب مستشار الأمن القومي، أشار مايك والتز إلى أن الولايات المتحدة ستنفذ مزيدًا من العمليات السيبرانية الهجومية ضد بكين، قائلًا في مقابلة مع شبكة CBS News إن على البلاد أن "تبدأ بفرض تكاليف وعواقب أعلى، في رأيي، على الجهات الخاصة والدول التي تواصل سرقة بياناتنا والتجسس علينا." ويبدو أن كبار المسؤولين في إدارة ترامب يعتقدون أن النظام العالمي للعلوم والتكنولوجيا سيتحول إلى نظام منقسم، داعين صراحة الدول إلى الاختيار بين البنية التكنولوجية الأميركية أو الصينية.
وقد بدأت نتائج هذه الاستراتيجية التكنولوجية التي تتبناها سياسة "أميركا أولًا" بالظهور، من خلال موجة جديدة من القومية التكنولوجية، حيث تعمل الحكومات، إما بشكل مستقل أو عبر تحالفات جديدة، على حماية نفسها من نقاط الضعف الناجمة عن الاعتماد المفرط على واشنطن أو بكين. ففي بروكسل، يناقش المسؤولون بناء بنية تكنولوجية أوروبية متكاملة — تشمل قدرات مستقلة في مجالات الرقاقات، ومراكز البيانات، وخدمات السحابة، ونماذج الذكاء الاصطناعي. كما يضاعف المنظمون جهودهم في ما يُعرف بالسيادة الرقمية، بتشديد القوانين المتعلقة بتوطين البيانات، وأمان الذكاء الاصطناعي، والمنافسة في السوق. وقد عيّنت المفوضية الأوروبية أول مفوض للسيادة التكنولوجية، وهي هينا فيركونين. وفي البرلمان الهولندي، تم تمرير عدة قرارات تدعو إلى استبدال البرمجيات الأميركية، وحتى كندا بدأت بالحديث عن تقليص اعتمادها على التكنولوجيا الأميركية.
أما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فقد قوبل التشدد الأميركي بمقاومة هادئة ومواقف استراتيجية مترددة. فالدول المتوسطة مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند — التي كانت أساسية في دبلوماسية التكنولوجيا الأميركية في عهد الرئيس بايدن — بدأت تعيد ضبط علاقاتها، وتستكشف تعاونًا إقليميًا أعمق لضمان الوصول إلى التكنولوجيا الحيوية دون اعتماد مفرط على أي من العملاقين. فمثلًا، تسعى كوريا الجنوبية إلى تطوير نموذج ذكاء اصطناعي "سيادي"، يتم تدريبه محليًا على بيانات محلية لتجسيد اللغة والثقافة والعادات الكورية. وفي عام 2025، ناقشت الحكومة الكورية هذا النهج لعدة أشهر، ثم تبنت استراتيجية مزدوجة حذرة: تشديد مراقبة الاستثمارات الخارجية، بالتوازي مع توسيع التعاون بهدوء مع دول غير منحازة في مجالي حوكمة الذكاء الاصطناعي والتجارة الرقمية.
ورغم أن اليابان لا تزال ملتزمة عمومًا بسياسات مراقبة الصادرات الأميركية تجاه الصين، فإن الصناعات المحلية بدأت تشعر بالقلق. فقد مارست شركات تصنيع معدات أشباه الموصلات ضغوطًا على طوكيو للحصول على استثناءات من القيود، محذّرة من أن التشدد في القواعد يضر بتنافسيتها. وفي الآونة الأخيرة، تم التراجع عن اقتراح لتعميق التعاون مع الولايات المتحدة في اختبار أمان الذكاء الاصطناعي، بعد اعتراضات من المنظمين اليابانيين الذين يخشون فقدان السيادة على المعايير الناشئة في هذا المجال.
وسارت دول رابطة آسيان على النهج ذاته. فقد أقرّت إندونيسيا قانونًا بارزًا للمساءلة في مجال الذكاء الاصطناعي، يُلزم بإجراء تدقيقات تفسيرية محلية لأي نموذج أجنبي يُستخدم في تطبيقات عامة. أما سنغافورة، فترسّخ مكانتها كمركز محايد لتقييم البيانات والذكاء الاصطناعي عبر الحدود. وفي عموم آسيا، تتكرر الرسالة ذاتها: التحالفات مع الولايات المتحدة لا تزال مهمة، لكن موقف واشنطن الأكثر إكراهًا يدفع الدول إلى تنويع خياراتها التكنولوجية.
وفي المقابل، تبعث الصين بإشارات واضحة تؤكد استعدادها للتعاون مع أي جهة تتأذى من الرسوم الجمركية التي يفرضها ترامب، وتعرض توفير حلول تكنولوجية منخفضة التكلفة بدون "تنمّر سياسي."
لن يكون تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة والصين أمرًا سهلًا لأي من هذه الدول. فقد فشلت محاولات سابقة لبناء بدائل تكنولوجية أوروبية مثل مشروع Gaia-X بسبب الخلافات الداخلية وعدم القدرة على التوسع. وفوق ذلك، لا يوجد بديل حقيقي للولايات المتحدة كشريك في العديد من مجالات التكنولوجيا الناشئة. فوفقًا لمؤشر "تتبع التكنولوجيا الحرجة" الصادر عن معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، تهيمن الصين والولايات المتحدة على معظم الفئات الـ44، مع وجود فجوة كبيرة تفصل بينهما وبين بقية الدول. ومع ذلك، وبالنظر إلى تقلبات السياسة الأميركية وعدم استقرارها، يبدو منطقيًا أن يسعى صانعو السياسات إلى امتلاك سيطرة أكبر على مستقبل بلدانهم التكنولوجي.
ومن نتائج استراتيجية ترامب التكنولوجية أن العالم الرقمي سيصبح أكثر خطورة. فالقرارات الداخلية — كإلغاء وظائف في وكالة الأمن السيبراني وحماية البنية التحتية (CISA)، والإقالة المفاجئة لرئيس وكالة الأمن القومي والقيادة السيبرانية — من المرجح أن تجعل الولايات المتحدة وحلفاءها أكثر عرضة للهجمات الإلكترونية. كما أن تقليص ميزانية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، التي قدمت أكثر من 200 مليون دولار كمساعدات في مجال الأمن السيبراني لأوكرانيا خلال السنوات الخمس الماضية، سيُضعف من قدرة البلاد على منع الهجمات الروسية والتعافي منها.
وفي ظل تصاعد السباق العالمي على الذكاء الاصطناعي، ومع تركيز واشنطن على التفوق في هذا المجال وتجاهلها للنقاشات متعددة الأطراف حول أمان الذكاء الاصطناعي، تتضاءل احتمالات التوصل إلى معايير دولية تحكم تطوير واستخدام هذه التقنية. فقد رفضت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التوقيع على بيان قمة باريس للعمل من أجل الذكاء الاصطناعي، والذي تعهد بتطوير تقنيات ذكاء اصطناعي "شفافة وآمنة وجديرة بالثقة". في المقابل، تحاول بعض القوى الديمقراطية التكنولوجية الأصغر سد هذا الفراغ. فمثلًا، كانت كندا وفرنسا من أوائل الدول التي قادت جهود حوكمة الذكاء الاصطناعي، من خلال تأسيس الشراكة العالمية للذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن تواصلا هذا الدور القيادي بغض النظر عن مواقف الولايات المتحدة. لكن واشنطن، بتحولها نحو خطاب الهيمنة، قامت بتحويل النقاش الدولي بعيدًا عن التنظيم والسلامة، مما أضعف بعض الضوابط التي ربما كانت ستكبح جماح سباق التسلح في الذكاء الاصطناعي.
وسوف تستمر مجموعة من الدول الديمقراطية ذات النفوذ التكنولوجي في العمل معًا، في ظل غياب قيادة أميركية، من أجل مواجهة التهديدات التي تمس حقوق الإنسان على الإنترنت، وتطوير القدرات السيبرانية في الدول النامية، والسيطرة على انتشار برامج التجسس. وقد لعبت كل من أستراليا والدنمارك وهولندا أدوارًا قيادية في "تحالف حرية الإنترنت"، وهو مجموعة من 42 دولة تعمل لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في الفضاء الرقمي. كما تطوّر منظمات مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة الدول الأميركية، ومنتدى آسيان الإقليمي، برامج لبناء القدرات السيبرانية في الدول الصغيرة والأقل قدرة. وتقود فرنسا والمملكة المتحدة ما يُعرف بـ"عملية بال مول"، وهي مدونة ممارسات وقعتها أكثر من 25 دولة ومنظمة دولية تهدف إلى تنظيم القدرات التجارية للاختراق الإلكتروني ومكافحة شركات التجسس.
ورغم أن الولايات المتحدة ستحتفظ في المدى القريب بصدارتها في مجال الرقائق المتقدمة ونماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة، فإن قدرتها على الحفاظ على هذا التفوق التكنولوجي على المدى الطويل تبدو موضع شك. فقد أدت التخفيضات الكبيرة في تمويل الأبحاث الفيدرالية إلى تسريحات وتعطيل في البحث العلمي داخل مؤسسة العلوم الوطنية والمعاهد الوطنية للصحة، فضلًا عن الجامعات البحثية الكبرى. وهذه الإجراءات تضر بأساس البحث العلمي الذي يشكّل ركيزة الابتكار الأميركي.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن قرار واشنطن بالمضي وحدها سيضعف في نهاية المطاف مكانتها في المنافسة العالمية على التفوق التكنولوجي. فمواجهة الصين تتطلب من الولايات المتحدة شركاء يساعدونها على التوسع والانتشار والتحكم. ولا تزال شركات مثل هواوي الصينية تقدم بنية تحتية رقمية منخفضة التكلفة في الدول النامية. وفي عهد إدارة بايدن، عملت الولايات المتحدة مع أستراليا واليابان والقطاع الخاص لتمويل كابلات بحرية ومراكز بيانات في دول جزر المحيط الهادئ، وهو ما لا يمكن لواشنطن مواكبته إلا بتمويل مشترك مع الشركاء. وينطبق الأمر ذاته على الجيل المقبل من الابتكار. فاستثمارات بكين في البحث العلمي الأساسي في تزايد مستمر، وتُعد الجهود لتجميع الموارد عبر الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف — مثل ركيزة أوكوس الثانية، والحوار الاستراتيجي الثلاثي، والرباعية، ومبادرة COMPACT بين الولايات المتحدة والهند — ضرورية لتسريع وتيرة الابتكار وتبني التقنيات الناشئة.
كما تحتاج الولايات المتحدة إلى شركاء وحلفاء لنشر الجيل المقبل من تقنيات الذكاء الاصطناعي. فخلافًا للمنتجات الأميركية التي غالبًا ما تتطلب تراخيص مكلفة واستثمارات كبيرة في البنية التحتية، تقود الصين جهود توفير قدرات ذكاء اصطناعي متوسطة المستوى للدول النامية بأسعار تنافسية. وتقوم الشركات الصينية بنقل المعرفة، وتأسيس مختبرات أبحاث، وتدريب الكوادر في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. وتعمل شركات مثل DeepSeek وBaidu وAlibaba وTencent على تطوير نماذج مفتوحة المصدر وإتاحتها، مما يتيح للجهات الفاعلة في الاقتصادات الناشئة تكييف التكنولوجيا الصينية مع احتياجاتها المحلية. أما تفكيك الجهود الأميركية في مجالي الدبلوماسية والتنمية في هذه البلدان، فيُغلق مسارات حيوية لنشر هذه التقنيات وتبنيها، خاصة في المجالات التي يتطلع فيها القادة المحليون إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لمواجهة تحديات مثل الصحة العالمية، والمرونة المناخية، والأمن الغذائي. 2/2
على النقيض من الدعوات إلى الهيمنة الأميركية، يروّج المسؤولون الصينيون لفكرة التعاون الدولي في أبحاث الذكاء الاصطناعي، وإنشاء منصات لتسهيل نقل التكنولوجيا، وتوزيع بنى الذكاء الاصطناعي التحتية بشكل عادل. لطالما استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها منابر متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للاتصالات وغيرها، لإثبات قدرة التكنولوجيا الغربية على تحقيق نتائج عملية تفيد الاقتصادات المحلية. لكن الانسحاب من هذه المنظمات أو المشاركة فيها بشكل رمزي يفسح المجال أمام الصين لتحديد معايير استخدام التكنولوجيا وتوجيه تطبيقاتها العملية.
يمكن لواشنطن أن تفرض بمفردها قيودًا على تصدير التكنولوجيا إلى الصين، لكن فاعلية هذه الإجراءات تعتمد بشكل كبير على دعم الحلفاء وتعاونهم. فاليابان وهولندا أبدتا في البداية تحفظات على القيود التي فُرضت في عهد بايدن بسبب التكاليف الاقتصادية وغياب التنسيق، إلا أنهما تعاونتا لاحقًا عن قرب مع المسؤولين الأميركيين لضمان عدم تمكن الشركات الصينية من استغلال الثغرات التنظيمية للحصول على معدات تصنيع أشباه الموصلات. لكن هذا التوازن الحساس بدأ يتعرض للضغط في عهد إدارة ترامب الحالية. فمع تحوّل قيود التصدير إلى سمة دائمة من سمات المنافسة الاستراتيجية، قد يصبح مدى استعداد الحلفاء لمجاراة واشنطن حاسمًا بقدر فاعلية القيود ذاتها.
ومع ترسّخ النزعة القومية التكنولوجية في كبرى اقتصادات العالم، من المتوقع أن يتباطأ الإيقاع العام للتقدم التكنولوجي. فالاكتشافات العلمية التي دفعت بثورة الذكاء الاصطناعي للأمام نشأت إلى حدّ كبير من نظام ابتكار مفتوح ومترابط، تغذّيه التعاونات العابرة للحدود، وتدفّق المواهب بحرية، وتبادل القيم والمعايير العلمية. لكن هذا النموذج يتعرض الآن لضغوط متزايدة. فنظام أكثر تشظيًا وتحكّمًا أمنيًا آخذ في التشكّل، حيث أصبحت الحكومات أكثر استعدادًا للتضحية بالكفاءة والانفتاح مقابل السيطرة والمرونة والنفوذ الجيوسياسي. ومع إعادة تأكيد الدول على سلطتها الاستراتيجية في مجال التكنولوجيا الناشئة، تتزايد الاحتكاكات ليس فقط بين الخصوم، بل أيضًا بين الحلفاء، مما يهدد بعرقلة البحث العلمي الأساسي الذي يزدهر في بيئات منفتحة وتعاونية.
ورغم هذا، يُتوقّع أن تشهد الحوكمة والشراكات الدولية موجة من الابتكار، مع سعي الدول لحماية نفسها من النفوذ الأميركي أو الصيني. فالدول المتمرسة تكنولوجيًا ستحاول بسط نفوذها من خلال سياسات تكنولوجية محلية تجذب الدول الصغيرة والمتوسطة التي تبحث عن نماذج حكم رقمي عملية وسهلة التكيّف، بدلًا من المعايير الواسعة والمعقدة التي تفرضها مثلًا بروكسل. فعلى سبيل المثال، يشكّل مفوض السلامة الرقمية الأسترالي نموذجًا لوكالات متخصصة في مكافحة الأذى الرقمي مثل التنمر الإلكتروني واستغلال الصور، وقد أصبح هذا النموذج مرجعًا لتطوير أطر الأمان الرقمي في نيوزيلندا وفيجي وسنغافورة والمملكة المتحدة. أما طوكيو، فقد أثرت عبر "عملية هيروشيما للذكاء الاصطناعي" — وهي مبادرة دولية أطلقتها مجموعة السبع في مايو 2023 لتعزيز الذكاء الاصطناعي الآمن والمستقر والموثوق — كما من خلال تنظيمات مقترحة لا تستهدف كل المخاطر المحتملة بل تركز على النتائج العملية والفرص الاقتصادية.
وستعمل مجموعات الدول أيضًا على توظيف التقنيات الناشئة والذكاء الاصطناعي لتعزيز التعاون الإقليمي. فمثلًا، تعمل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) على تطوير إطار إقليمي للذكاء الاصطناعي ينسّق السياسات التنظيمية بين الدول الأعضاء، بهدف تحقيق توازن بين تبني الذكاء الاصطناعي والرقابة عليه، والحؤول دون سيطرة الصين أو الولايات المتحدة على السوق. كما تتعاون دول أميركا اللاتينية على وضع إرشادات أخلاقية للذكاء الاصطناعي تأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والاقتصادية لكل دولة، لضمان مواءمة تطوير التكنولوجيا مع المصالح الوطنية.
إن الاستراتيجية التكنولوجية الدولية لإدارة ترامب تقوم على قناعة واضحة: يجب على الولايات المتحدة أن تنتصر في سباق الذكاء الاصطناعي، وتُهيمن على البنية التحتية الرقمية، وتفرض قواعد تخدم مصالحها الوطنية والتجارية، حتى إن اضطرت للتحرك بمفردها. إلا أن هذا السعي نحو الهيمنة الأحادية من المرجح أن يرتدّ سلبًا عليها. فبدلًا من أن يرسّخ قيادة الولايات المتحدة، سيُسهم في تسريع القومية التكنولوجية، وتعميق التنافس في مجالي الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وتمزيق التحالفات الرقمية التي كانت أساس نفوذ واشنطن لعقود. إن التفوق دون شراكة هش، والإكراه، مهما بدا ناجحًا على المدى القصير، نادرًا ما يصنع مستقبلًا يستحق القيادة.
وبسبب هذه الاستراتيجية، يدخل المشهد التكنولوجي العالمي مرحلة من التنافس المتصاعد، والتشظي، والضبابية. سنشهد تصاعدًا في القومية التكنولوجية، وازديادًا في خطورة البيئة الرقمية. وقد تُحرز الولايات المتحدة مكاسب تكنولوجية قصيرة المدى، لكنها لن تتمكن من الحفاظ على قيادتها على المدى الطويل دون تحالف عريض من الحلفاء والشركاء. وسيفضي هذا التشظي إلى تباطؤ وتيرة الابتكار عالميًا، إلى جانب تحفيز نشوء نماذج جديدة من الحوكمة، مع سعي الدول لبسط مزيد من السيطرة على مستقبلها التكنولوجي.
وقد بدأت النتائج في الظهور فورًا. فالحلفاء يشعرون بالقلق، والمنافسون يكيفون أنفسهم مع الواقع الجديد، والدول المحايدة تسعى بشكل متزايد إلى طريق ثالث يحميها من ضغوط كل من الولايات المتحدة والصين. وفي عصر القومية التكنولوجية، حيث يُحدد التحكم في التكنولوجيا المتقدمة موازين القوة الاستراتيجية، يُهدد تراجع واشنطن عن بناء التحالفات بتقويض النفوذ ذاته الذي تسعى جاهدة للحفاظ عليه.
وضعت إدارة بايدن التكنولوجيا في صلب المنافسة الجيوسياسية. فقد وضعت استراتيجية دولية للتكنولوجيا تعتمد بشكل كبير على التنسيق والقيم المشتركة مع الحلفاء والشركاء. وسعت واشنطن إلى حشد جهود جماعية لصياغة قواعد الحوكمة العالمية للتقنيات الناشئة، وتعزيز السلوك المسؤول في الفضاء السيبراني، والدفاع عن إنترنت حر ومفتوح. كما حاولت التخفيف من التباينات في النهج التنظيمي بين الدول (أو على الأقل عزلها عن التعاون الأوسع)، والاستثمار في بناء القدرات الرقمية لشركائها حول العالم، وتعزيز الابتكار المحلي ومرونة سلاسل الإمداد، وإبطاء تدفق التكنولوجيا إلى المنافسين، وعلى رأسهم الصين.
لكن هذه الاستراتيجية تُستبدل اليوم بدعوات إلى "الهيمنة الأمريكية أولًا" في التقنيات الناشئة، وعلى وجه الخصوص الذكاء الاصطناعي، إلى جانب هجمات علنية على النهج الأوروبي في تنظيم التكنولوجيا. ففي خطاب ألقاه في "قمة باريس للعمل من أجل الذكاء الاصطناعي" في فبراير الماضي، صرّح نائب الرئيس الأميركي ج. د. فانس قائلاً: "الولايات المتحدة الأميركية هي الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعتزم إدارتنا الحفاظ على هذا التفوق". وأضاف أن إدارة ترامب ترى أن "الإفراط في تنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي قد يقتل صناعة تحوّلية"، مؤكدًا أن الولايات المتحدة لن تقبل أن تفرض الحكومات الأجنبية قيودًا على شركات التكنولوجيا الأميركية. وقد كرر ترامب مواقف مشابهة، مهاجمًا بشكل مباشر الغرامات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على شركات مثل Apple وAlphabet وMeta بموجب قانون الأسواق الرقمية، واصفًا إياها بأنها "نوع من الضرائب". وفي هذا السياق، هدّد مسؤولون في الإدارة باتخاذ إجراءات تجارية ردًا على هذه التنظيمات، وبدأ مكتب الممثل التجاري الأميركي بالفعل تحقيقات ضد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وتركيا ودول أخرى تفرض ضرائب على الخدمات الرقمية التي تقدمها الشركات الأميركية.
على مدى العقد الماضي، تمكنت الولايات المتحدة من بناء تحالف واسع من الحلفاء والشركاء المستعدين لتحميل المسؤولية والتصدي للهجمات السيبرانية. ففي يوليو 2022، أدانت كل من الناتو، والاتحاد الأوروبي، وأستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، واليابان، علنًا تورط الصين في اختراق خوادم Microsoft Exchange. كما حمل تحالف مماثل روسيا المسؤولية عن الهجوم السيبراني على شبكة الاتصالات KA-SAT التابعة لـ Viasat عشية غزوها لأوكرانيا. ومع ذلك، وخلال اجتماع لمجموعة عمل تابعة للأمم المتحدة حول الأمن السيبراني في فبراير، ركّز مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الأميركية على التهديدات السيبرانية الصادرة عن الصين وإيران، دون أن يذكر روسيا، بينما ركّز ممثلو المملكة المتحدة والدول الأوروبية على الخطر الصادر من موسكو. وبعد أسبوع، أفادت عدة وسائل إعلام بأن القيادة السيبرانية الأميركية علّقت بعض العمليات ضد أهداف روسية خلال مفاوضات وقف الحرب في أوكرانيا.
ولا تزال المنافسة التكنولوجية مع الصين تمثل أولوية حاسمة في الولاية الثانية لإدارة ترامب. ففي مناسبة أقيمت في ولاية تكساس، وصف مايكل كراتسيوس، مدير مكتب السياسات العلمية والتكنولوجية في البيت الأبيض، الصين بأنها "خصم جيوسياسي ومنافس تكنولوجي". وتدعو سياسة "الاستثمار الأميركي أولًا" التي يعتمدها ترامب الوكالات الفيدرالية إلى دراسة فرض قيود جديدة على الاستثمارات الخارجية في الصين، وخصوصًا في قطاعات مثل أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والبيولوجيا الاصطناعية. وبدافع القلق من نجاح نموذج ذكاء اصطناعي متقدم طورته شركة DeepSeek الصينية، شددت الإدارة قيودها على بيع رقائق Nvidia إلى الصين بدون ترخيص. واستكمالًا لهذا الضغط الاستراتيجي، تفاخر ديفيد ساكس، القيّم على سياسات الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية في البيت الأبيض، بصفقات ضخمة لبيع رقائق متقدمة تم توقيعها خلال زيارة ترامب للشرق الأوسط في مايو، واصفًا إياها بأنها "مكسب للطرفين" بين الولايات المتحدة وشركائها، وخسارة للصين. وأضاف ساكس أن هذه الصفقة لن تُسرّع فقط في بناء بنية تحتية متقدمة للذكاء الاصطناعي، بل "سترسّخ التكنولوجيا الأميركية كمعيار عالمي قبل أن يتمكن المنافسون من اللحاق بها".
قبل أسابيع قليلة من تولّيه منصب مستشار الأمن القومي، أشار مايك والتز إلى أن الولايات المتحدة ستنفذ مزيدًا من العمليات السيبرانية الهجومية ضد بكين، قائلًا في مقابلة مع شبكة CBS News إن على البلاد أن "تبدأ بفرض تكاليف وعواقب أعلى، في رأيي، على الجهات الخاصة والدول التي تواصل سرقة بياناتنا والتجسس علينا." ويبدو أن كبار المسؤولين في إدارة ترامب يعتقدون أن النظام العالمي للعلوم والتكنولوجيا سيتحول إلى نظام منقسم، داعين صراحة الدول إلى الاختيار بين البنية التكنولوجية الأميركية أو الصينية.
وقد بدأت نتائج هذه الاستراتيجية التكنولوجية التي تتبناها سياسة "أميركا أولًا" بالظهور، من خلال موجة جديدة من القومية التكنولوجية، حيث تعمل الحكومات، إما بشكل مستقل أو عبر تحالفات جديدة، على حماية نفسها من نقاط الضعف الناجمة عن الاعتماد المفرط على واشنطن أو بكين. ففي بروكسل، يناقش المسؤولون بناء بنية تكنولوجية أوروبية متكاملة — تشمل قدرات مستقلة في مجالات الرقاقات، ومراكز البيانات، وخدمات السحابة، ونماذج الذكاء الاصطناعي. كما يضاعف المنظمون جهودهم في ما يُعرف بالسيادة الرقمية، بتشديد القوانين المتعلقة بتوطين البيانات، وأمان الذكاء الاصطناعي، والمنافسة في السوق. وقد عيّنت المفوضية الأوروبية أول مفوض للسيادة التكنولوجية، وهي هينا فيركونين. وفي البرلمان الهولندي، تم تمرير عدة قرارات تدعو إلى استبدال البرمجيات الأميركية، وحتى كندا بدأت بالحديث عن تقليص اعتمادها على التكنولوجيا الأميركية.
أما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فقد قوبل التشدد الأميركي بمقاومة هادئة ومواقف استراتيجية مترددة. فالدول المتوسطة مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند — التي كانت أساسية في دبلوماسية التكنولوجيا الأميركية في عهد الرئيس بايدن — بدأت تعيد ضبط علاقاتها، وتستكشف تعاونًا إقليميًا أعمق لضمان الوصول إلى التكنولوجيا الحيوية دون اعتماد مفرط على أي من العملاقين. فمثلًا، تسعى كوريا الجنوبية إلى تطوير نموذج ذكاء اصطناعي "سيادي"، يتم تدريبه محليًا على بيانات محلية لتجسيد اللغة والثقافة والعادات الكورية. وفي عام 2025، ناقشت الحكومة الكورية هذا النهج لعدة أشهر، ثم تبنت استراتيجية مزدوجة حذرة: تشديد مراقبة الاستثمارات الخارجية، بالتوازي مع توسيع التعاون بهدوء مع دول غير منحازة في مجالي حوكمة الذكاء الاصطناعي والتجارة الرقمية.
ورغم أن اليابان لا تزال ملتزمة عمومًا بسياسات مراقبة الصادرات الأميركية تجاه الصين، فإن الصناعات المحلية بدأت تشعر بالقلق. فقد مارست شركات تصنيع معدات أشباه الموصلات ضغوطًا على طوكيو للحصول على استثناءات من القيود، محذّرة من أن التشدد في القواعد يضر بتنافسيتها. وفي الآونة الأخيرة، تم التراجع عن اقتراح لتعميق التعاون مع الولايات المتحدة في اختبار أمان الذكاء الاصطناعي، بعد اعتراضات من المنظمين اليابانيين الذين يخشون فقدان السيادة على المعايير الناشئة في هذا المجال.
وسارت دول رابطة آسيان على النهج ذاته. فقد أقرّت إندونيسيا قانونًا بارزًا للمساءلة في مجال الذكاء الاصطناعي، يُلزم بإجراء تدقيقات تفسيرية محلية لأي نموذج أجنبي يُستخدم في تطبيقات عامة. أما سنغافورة، فترسّخ مكانتها كمركز محايد لتقييم البيانات والذكاء الاصطناعي عبر الحدود. وفي عموم آسيا، تتكرر الرسالة ذاتها: التحالفات مع الولايات المتحدة لا تزال مهمة، لكن موقف واشنطن الأكثر إكراهًا يدفع الدول إلى تنويع خياراتها التكنولوجية.
وفي المقابل، تبعث الصين بإشارات واضحة تؤكد استعدادها للتعاون مع أي جهة تتأذى من الرسوم الجمركية التي يفرضها ترامب، وتعرض توفير حلول تكنولوجية منخفضة التكلفة بدون "تنمّر سياسي."
لن يكون تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة والصين أمرًا سهلًا لأي من هذه الدول. فقد فشلت محاولات سابقة لبناء بدائل تكنولوجية أوروبية مثل مشروع Gaia-X بسبب الخلافات الداخلية وعدم القدرة على التوسع. وفوق ذلك، لا يوجد بديل حقيقي للولايات المتحدة كشريك في العديد من مجالات التكنولوجيا الناشئة. فوفقًا لمؤشر "تتبع التكنولوجيا الحرجة" الصادر عن معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، تهيمن الصين والولايات المتحدة على معظم الفئات الـ44، مع وجود فجوة كبيرة تفصل بينهما وبين بقية الدول. ومع ذلك، وبالنظر إلى تقلبات السياسة الأميركية وعدم استقرارها، يبدو منطقيًا أن يسعى صانعو السياسات إلى امتلاك سيطرة أكبر على مستقبل بلدانهم التكنولوجي.
ومن نتائج استراتيجية ترامب التكنولوجية أن العالم الرقمي سيصبح أكثر خطورة. فالقرارات الداخلية — كإلغاء وظائف في وكالة الأمن السيبراني وحماية البنية التحتية (CISA)، والإقالة المفاجئة لرئيس وكالة الأمن القومي والقيادة السيبرانية — من المرجح أن تجعل الولايات المتحدة وحلفاءها أكثر عرضة للهجمات الإلكترونية. كما أن تقليص ميزانية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، التي قدمت أكثر من 200 مليون دولار كمساعدات في مجال الأمن السيبراني لأوكرانيا خلال السنوات الخمس الماضية، سيُضعف من قدرة البلاد على منع الهجمات الروسية والتعافي منها.
وفي ظل تصاعد السباق العالمي على الذكاء الاصطناعي، ومع تركيز واشنطن على التفوق في هذا المجال وتجاهلها للنقاشات متعددة الأطراف حول أمان الذكاء الاصطناعي، تتضاءل احتمالات التوصل إلى معايير دولية تحكم تطوير واستخدام هذه التقنية. فقد رفضت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التوقيع على بيان قمة باريس للعمل من أجل الذكاء الاصطناعي، والذي تعهد بتطوير تقنيات ذكاء اصطناعي "شفافة وآمنة وجديرة بالثقة". في المقابل، تحاول بعض القوى الديمقراطية التكنولوجية الأصغر سد هذا الفراغ. فمثلًا، كانت كندا وفرنسا من أوائل الدول التي قادت جهود حوكمة الذكاء الاصطناعي، من خلال تأسيس الشراكة العالمية للذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن تواصلا هذا الدور القيادي بغض النظر عن مواقف الولايات المتحدة. لكن واشنطن، بتحولها نحو خطاب الهيمنة، قامت بتحويل النقاش الدولي بعيدًا عن التنظيم والسلامة، مما أضعف بعض الضوابط التي ربما كانت ستكبح جماح سباق التسلح في الذكاء الاصطناعي.
وسوف تستمر مجموعة من الدول الديمقراطية ذات النفوذ التكنولوجي في العمل معًا، في ظل غياب قيادة أميركية، من أجل مواجهة التهديدات التي تمس حقوق الإنسان على الإنترنت، وتطوير القدرات السيبرانية في الدول النامية، والسيطرة على انتشار برامج التجسس. وقد لعبت كل من أستراليا والدنمارك وهولندا أدوارًا قيادية في "تحالف حرية الإنترنت"، وهو مجموعة من 42 دولة تعمل لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في الفضاء الرقمي. كما تطوّر منظمات مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة الدول الأميركية، ومنتدى آسيان الإقليمي، برامج لبناء القدرات السيبرانية في الدول الصغيرة والأقل قدرة. وتقود فرنسا والمملكة المتحدة ما يُعرف بـ"عملية بال مول"، وهي مدونة ممارسات وقعتها أكثر من 25 دولة ومنظمة دولية تهدف إلى تنظيم القدرات التجارية للاختراق الإلكتروني ومكافحة شركات التجسس.
ورغم أن الولايات المتحدة ستحتفظ في المدى القريب بصدارتها في مجال الرقائق المتقدمة ونماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة، فإن قدرتها على الحفاظ على هذا التفوق التكنولوجي على المدى الطويل تبدو موضع شك. فقد أدت التخفيضات الكبيرة في تمويل الأبحاث الفيدرالية إلى تسريحات وتعطيل في البحث العلمي داخل مؤسسة العلوم الوطنية والمعاهد الوطنية للصحة، فضلًا عن الجامعات البحثية الكبرى. وهذه الإجراءات تضر بأساس البحث العلمي الذي يشكّل ركيزة الابتكار الأميركي.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن قرار واشنطن بالمضي وحدها سيضعف في نهاية المطاف مكانتها في المنافسة العالمية على التفوق التكنولوجي. فمواجهة الصين تتطلب من الولايات المتحدة شركاء يساعدونها على التوسع والانتشار والتحكم. ولا تزال شركات مثل هواوي الصينية تقدم بنية تحتية رقمية منخفضة التكلفة في الدول النامية. وفي عهد إدارة بايدن، عملت الولايات المتحدة مع أستراليا واليابان والقطاع الخاص لتمويل كابلات بحرية ومراكز بيانات في دول جزر المحيط الهادئ، وهو ما لا يمكن لواشنطن مواكبته إلا بتمويل مشترك مع الشركاء. وينطبق الأمر ذاته على الجيل المقبل من الابتكار. فاستثمارات بكين في البحث العلمي الأساسي في تزايد مستمر، وتُعد الجهود لتجميع الموارد عبر الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف — مثل ركيزة أوكوس الثانية، والحوار الاستراتيجي الثلاثي، والرباعية، ومبادرة COMPACT بين الولايات المتحدة والهند — ضرورية لتسريع وتيرة الابتكار وتبني التقنيات الناشئة.
كما تحتاج الولايات المتحدة إلى شركاء وحلفاء لنشر الجيل المقبل من تقنيات الذكاء الاصطناعي. فخلافًا للمنتجات الأميركية التي غالبًا ما تتطلب تراخيص مكلفة واستثمارات كبيرة في البنية التحتية، تقود الصين جهود توفير قدرات ذكاء اصطناعي متوسطة المستوى للدول النامية بأسعار تنافسية. وتقوم الشركات الصينية بنقل المعرفة، وتأسيس مختبرات أبحاث، وتدريب الكوادر في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. وتعمل شركات مثل DeepSeek وBaidu وAlibaba وTencent على تطوير نماذج مفتوحة المصدر وإتاحتها، مما يتيح للجهات الفاعلة في الاقتصادات الناشئة تكييف التكنولوجيا الصينية مع احتياجاتها المحلية. أما تفكيك الجهود الأميركية في مجالي الدبلوماسية والتنمية في هذه البلدان، فيُغلق مسارات حيوية لنشر هذه التقنيات وتبنيها، خاصة في المجالات التي يتطلع فيها القادة المحليون إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لمواجهة تحديات مثل الصحة العالمية، والمرونة المناخية، والأمن الغذائي. 2/2
على النقيض من الدعوات إلى الهيمنة الأميركية، يروّج المسؤولون الصينيون لفكرة التعاون الدولي في أبحاث الذكاء الاصطناعي، وإنشاء منصات لتسهيل نقل التكنولوجيا، وتوزيع بنى الذكاء الاصطناعي التحتية بشكل عادل. لطالما استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها منابر متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للاتصالات وغيرها، لإثبات قدرة التكنولوجيا الغربية على تحقيق نتائج عملية تفيد الاقتصادات المحلية. لكن الانسحاب من هذه المنظمات أو المشاركة فيها بشكل رمزي يفسح المجال أمام الصين لتحديد معايير استخدام التكنولوجيا وتوجيه تطبيقاتها العملية.
يمكن لواشنطن أن تفرض بمفردها قيودًا على تصدير التكنولوجيا إلى الصين، لكن فاعلية هذه الإجراءات تعتمد بشكل كبير على دعم الحلفاء وتعاونهم. فاليابان وهولندا أبدتا في البداية تحفظات على القيود التي فُرضت في عهد بايدن بسبب التكاليف الاقتصادية وغياب التنسيق، إلا أنهما تعاونتا لاحقًا عن قرب مع المسؤولين الأميركيين لضمان عدم تمكن الشركات الصينية من استغلال الثغرات التنظيمية للحصول على معدات تصنيع أشباه الموصلات. لكن هذا التوازن الحساس بدأ يتعرض للضغط في عهد إدارة ترامب الحالية. فمع تحوّل قيود التصدير إلى سمة دائمة من سمات المنافسة الاستراتيجية، قد يصبح مدى استعداد الحلفاء لمجاراة واشنطن حاسمًا بقدر فاعلية القيود ذاتها.
ومع ترسّخ النزعة القومية التكنولوجية في كبرى اقتصادات العالم، من المتوقع أن يتباطأ الإيقاع العام للتقدم التكنولوجي. فالاكتشافات العلمية التي دفعت بثورة الذكاء الاصطناعي للأمام نشأت إلى حدّ كبير من نظام ابتكار مفتوح ومترابط، تغذّيه التعاونات العابرة للحدود، وتدفّق المواهب بحرية، وتبادل القيم والمعايير العلمية. لكن هذا النموذج يتعرض الآن لضغوط متزايدة. فنظام أكثر تشظيًا وتحكّمًا أمنيًا آخذ في التشكّل، حيث أصبحت الحكومات أكثر استعدادًا للتضحية بالكفاءة والانفتاح مقابل السيطرة والمرونة والنفوذ الجيوسياسي. ومع إعادة تأكيد الدول على سلطتها الاستراتيجية في مجال التكنولوجيا الناشئة، تتزايد الاحتكاكات ليس فقط بين الخصوم، بل أيضًا بين الحلفاء، مما يهدد بعرقلة البحث العلمي الأساسي الذي يزدهر في بيئات منفتحة وتعاونية.
ورغم هذا، يُتوقّع أن تشهد الحوكمة والشراكات الدولية موجة من الابتكار، مع سعي الدول لحماية نفسها من النفوذ الأميركي أو الصيني. فالدول المتمرسة تكنولوجيًا ستحاول بسط نفوذها من خلال سياسات تكنولوجية محلية تجذب الدول الصغيرة والمتوسطة التي تبحث عن نماذج حكم رقمي عملية وسهلة التكيّف، بدلًا من المعايير الواسعة والمعقدة التي تفرضها مثلًا بروكسل. فعلى سبيل المثال، يشكّل مفوض السلامة الرقمية الأسترالي نموذجًا لوكالات متخصصة في مكافحة الأذى الرقمي مثل التنمر الإلكتروني واستغلال الصور، وقد أصبح هذا النموذج مرجعًا لتطوير أطر الأمان الرقمي في نيوزيلندا وفيجي وسنغافورة والمملكة المتحدة. أما طوكيو، فقد أثرت عبر "عملية هيروشيما للذكاء الاصطناعي" — وهي مبادرة دولية أطلقتها مجموعة السبع في مايو 2023 لتعزيز الذكاء الاصطناعي الآمن والمستقر والموثوق — كما من خلال تنظيمات مقترحة لا تستهدف كل المخاطر المحتملة بل تركز على النتائج العملية والفرص الاقتصادية.
وستعمل مجموعات الدول أيضًا على توظيف التقنيات الناشئة والذكاء الاصطناعي لتعزيز التعاون الإقليمي. فمثلًا، تعمل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) على تطوير إطار إقليمي للذكاء الاصطناعي ينسّق السياسات التنظيمية بين الدول الأعضاء، بهدف تحقيق توازن بين تبني الذكاء الاصطناعي والرقابة عليه، والحؤول دون سيطرة الصين أو الولايات المتحدة على السوق. كما تتعاون دول أميركا اللاتينية على وضع إرشادات أخلاقية للذكاء الاصطناعي تأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والاقتصادية لكل دولة، لضمان مواءمة تطوير التكنولوجيا مع المصالح الوطنية.
إن الاستراتيجية التكنولوجية الدولية لإدارة ترامب تقوم على قناعة واضحة: يجب على الولايات المتحدة أن تنتصر في سباق الذكاء الاصطناعي، وتُهيمن على البنية التحتية الرقمية، وتفرض قواعد تخدم مصالحها الوطنية والتجارية، حتى إن اضطرت للتحرك بمفردها. إلا أن هذا السعي نحو الهيمنة الأحادية من المرجح أن يرتدّ سلبًا عليها. فبدلًا من أن يرسّخ قيادة الولايات المتحدة، سيُسهم في تسريع القومية التكنولوجية، وتعميق التنافس في مجالي الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وتمزيق التحالفات الرقمية التي كانت أساس نفوذ واشنطن لعقود. إن التفوق دون شراكة هش، والإكراه، مهما بدا ناجحًا على المدى القصير، نادرًا ما يصنع مستقبلًا يستحق القيادة.